نصر القفاص
"بدأت حملة شنيعة من أول مارس – 1956 – ضد مصر.. لدرجة إن فيه
واحد نائب فى مجلس العموم البريطاني اسمه يوزفريزر.. قال إن إحنا لازم نشوف لنا
طريقة نخلص بيها من مصر.. نروح نعمل سد عند النيل من أوغندا وكينيا, ونمنع المية
عن مصر.. علشان نخلص منها خالص.. وبعدين بدأوا يتكلموا عن حقوق السودان
وإثيوبيا".
كانت هذه فقرة من خطاب "جمال عبد الناصر" يوم 26 يوليو
1956 الذى أنهاه بإعلان تأميم شركة قناة السويس البحرية إلى شركة مساهمة مصرية.
فى هذا اليوم وقف "عبد الناصر" ليشرح للشعب المصرى
والعالم العربى, ويخاطب المجتمع الدولى بكشف كل ما يدور فى كواليس السياسة
الأمريكية – البريطانية من مؤامرات لتركيع الدول التى انتفضت لتنال استقلالها..
ولو أننا اكتفينا بهذه الفقرة فقط.. أو ذكرنا بعضا مما جاء فى الخطاب.. ستدور
ماكينات الكذب لتزوير التاريخ, وتشويه الرئيس الذى حاربه الغرب حيا.. واستمر فى
الحرب عليه ميتا بضراوة أكثر – مازالت الحرب مستمرة – وهى حرب تستهدف مصر
المستقلة, بأكثر مما تستهدف رجل حقق الاستقلال لبلاده ولشعوب عديدة فى إفريقيا
وآسيا وأمريكا اللاتينية.
إذن سيكون أفضل وأكثر فائدة, أن نعيد قراءة الخطاب الذى يصعب شطبه
من التاريخ.. فقد كان خطابا كاشفا لعقل وفكر ومنهج "جمال عبد الناصر"..
كان الخطاب الذى قلب الدنيا رأسا على عقب.. وكان الخطاب الذى أنهى إمبراطورية
بريطانيا العظمى وكذلك إمبراطورية فرنسا.. وكان الخطاب الذى قدم لولادة إمبراطوريتي
الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
تعلم الدنيا أن خطاب 26 يوليو 1956, جعل العالم قبل هذا اليوم..
غير العالم بعد هذا اليوم.. وكان الخطاب الذى وضع على عاتق مصر – عبد الناصر –
مسئولية قيادة دول العالم الثالث, بحثا عن مخارج من مصيدة "الدول
النامية" لأن الغرب يريدها "الدول النايمة" والطريق الوحيد لتحقيق
ذلك هو دفع تلك الدول إلى "التنمية المستدانة" ويتم تجميلها بتسميتها
"التنمية المستدامة" عبر تحويل دول العالم المستهدفة إلى مجتمعات
"أوف شور"!!
كيف بدأ "عبد الناصر" خطابه؟! وماذا قال فيه؟!
بدأ خطابه بالجملة ذات المغزى والمعنى والقيمة "أيها المواطنون"..
ثم قال إن خطابه بمناسبة الاحتفال باستقبال العيد الخامس لثورة 23 يوليو, بعد أربع
سنوات قتال وكفاح وجهاد للتخلص من آثار الاستعمار الذى استبد بمصر لقرون طويلة..
ثم قال: "إننا اليوم.. أيها المواطنون.. ونحن نستقبل العام الخامس للثورة..
نستقبله أشد عزما.. وأمضى قوة.. وأشد إيمانا.. نعم.. أيها المواطنون.. لقد اتحدنا
وثرنا وقاتلنا وجاهدنا.. وانتصرنا.. واليوم ونحن نتجه إلى المستقبل.. نعتمد على
الله وعلى أنفسنا.. نعتمد على الله وعلى عزيمتنا.. نعتمد على الله وعلى قوتنا من
أجل تحقيق الأهداف التى قامت من أجلها الثورة.. من أجل تحقيق هذه الأهداف التى
جاهد من أجلها الآباء.. كافح من أجلها الأجداد.. نتجه إلى المستقبل ونحن نشعر أننا
سننتصر – بعون الله – انتصارات متتالية.. انتصارات متتابعة.. من أجل تثبيت مبادئ
العزة.. من أجل تثبيت مبادئ الحرية.. من أجل تثبيت مبادئ الكرامة.. من أجل إقامة
دولة مستقلة استقلالا حقيقيا.. لا استقلالا زائفا.. استقلالا سياسيا واستقلالا
اقتصاديا".
تبدو بداية الخطاب هادئة.. لكنها حافلة بالعناوين المهمة.
يريد "عبد الناصر" التأكيد على أن انتصار مصر كان ثمرة
عطاء آباء وأجداد, حتى لا يتصور أحد تاريخ مصر يبدأ من عنده!! ثم يؤكد على أن
الانتصار يتحقق "بعون الله" وقرين هذا الانتصار وشرطه القاطع هو..
العزة.. الحرية.. الكرامة.. لتحقيق استقلال حقيقى.. وليس استقلال زائف.. وعنوان
الاستقلال اقتصادي بقدر ما هو سياسى.. وذلك يعنى أن يتطهر الاقتصاد من دنس "الأوفى
شور"!!
انتقل "عبد الناصر" من الفقرة الأولى فى خطابه.. إلى
فقرة ثانية.. كان لابد أن يستهلها بالجملة الذهبية "أيها المواطنون" ثم
قال: "حينما نتجه إلى المستقبل نشعر أن معاركنا لم تنته.. فليس من السهل
أبدا, إن احنا نبنى نفسنا وسط الأطماع الدولية المتنافرة والاستغلال الدولى
والمؤامرات الدولية.. مش سهل نبنى وطننا ونحقق استقلالنا السياسى والاقتصادي, دون
معارك طويلة سنكافح فيها.. قدامنا معارك طويلة لنعيش أحرار.. نعيش كرماء.. نعيش
أعزاء.. والنهاردة وجدنا الفرصة ووضعنا أساس العزة.. أساس الكرامة.. النهاردة
وضعنا مبادىء ننادى بها فى السياسة العالمية والدولية.. ولازم نجد الفرصة لنشر هذه
المبادىء.. ويجب أن نكون على حذر وحيطة من آلاعيب المستغلين والمستعمرين وأعوان
الاستعمار"!!
كان "عبد الناصر" يعلم أنه يخاطب الشعب المصرى, وشعوبا
أخرى تنصت له.. وكان يعلم أن "مطابخ السياسة" الدولية وأجهزة مخابرات
عديدة تتابعه.. فأراد أن يوضح للجميع أنه يحترم شعبه, ويفكر معه بصوت عال.. وذلك
يفرض عليه أن يشرح لهم التفاصيل.. فاختار التوضيح أن مبادىء منهج مصر – وفق رؤيته
– ستكون التزاما مصريا وأملا بأن يقتنع بها آخرون – دول وشعوب – ثم وضع خطوطا تحت ثلاث
فئات.. المستغلين.. المستعمرين.. أعوان المستعمرين.. وثلاثتهم لم يتغيروا.. فقط
حاولوا أن يتجملوا.. إرتدوا عشرات الأقنعة.. إبتكروا شعارات براقة لخداع الشعوب..
المهم تمكين المستغلين.. رجال المال.. بإعادة إنتاج سياسات لتركيع دول وشعوب..
الاستعمار.. وعملوا كل ما يساعدهم على تنفيذ إرادتهم.. أعوان الاستعمار.. فكان
الحديث عن "الديمقراطية" مع غض البصر عن أنظمة تمارس أبشع ألوان
الديكتاتورية, لمجرد أنها تحقق مصالحهم وتحمى عمليات نهب ثروات دول يتحكموا فيها..
شغلوا الدنيا بما يسمونه "الليبرالية" وخلقوا لها دعاة يتكسبون برفع
راياتها.. إهتموا بما يبيعونه حول "حقوق الإنسان" ليسحقوا الإنسان..
ويساعدهم لتحقيق ذلك أصحاب توكيلات يمنحونهم تلك الرخصة!!
هل كان "عبد الناصر" يرى ويدرك ذلك؟!
الإجابة فى الخطاب نفسه.. لذلك أضاف: "حاول الاستعمار بكل
وسيلة من الوسائل أن يضعضع قوميتنا.. يضعف عروبتنا.. حاول أن يفرق بيننا, فخلق
إسرائيل صنيعة الاستعمار.. فى الأيام اللى فاتت استشهد اثنين من أخلص أبناء مصر..
اتنين أنكروا ذاتهم.. كانوا يكافحون ويجاهدون فى سبيل تحقيق غرض أسمى.. فى سبيل
المبادىء والمثل العليا.. من أجلكم.. من أجل مصر والعرب.. كل واحد فيهم كان بيؤمن
بقوميته.. بيؤمن بعروبته.. يؤمن بمصريته.. من أيام قليلة إستشهد اثنين من أعز
الناس.. بل من أخلص الناس.. إستشهد مصطفى حافظ قائد جيش فلسطين وهو يؤدى واجبه من
أجلكم ومن أجل العروبة.. مصطفى حافظ اللى أخد على عاتقه تدريب جيش فلسطين, لكى يبعث
جيش فلسطين واسم فلسطين.. فهل سهى عنه الاستعمار؟! هل سهت عنه إسرائيل وهى صنيعة
الاستعمار؟!.. أبدا.. لأنهم كانوا يرون فى مصطفى حافظ تهديدا مباشرا لهم
ولأطماعهم.. تهديدا مباشرا ضد المؤامرات التى يحيكونها ضدكم وضد عروبتكم.. ضد
العالم العربى.. أغتيل مصطفى حافظ بخسة وغدر.. إعتقدوا أنهم بقتل مصطفى حافظ لن
يجدوا من يحل محله فى مصر.. أما صلاح مصطفى.. أخوكم الذى قام معى فى 23 يوليو
ليجاهد من أجل مصر.. صلاح قام وهو يؤمن بكم وبحريتكم.. يؤمن بعزتكم.. يؤمن
بكرامتكم.. ماكانش حد فيكم يعرف مين هو صلاح مصطفى.. إيه اللى عمله؟! إيه دور صلاح
مصطفى فى ثورة 23 يوليو.. وهو الذى وهب نفسه وروحه ودمه من أجلكم.. فى سبيل
مصريتكم.. فى سبيل مبادئكم.. فى سبيل الوطن العربى.. فإذا كانوا إغتالوا صلاح
مصطفى وقتلوه بالوسائل التى كانوا يتبعونها قبل سنة 1948.. فأنا أشعر أن العصابات
التى تحولت لدولة.. تتحول اليوم مرة أخرى إلى عصابات"!!
توقف "عبد الناصر" طويلا أمام اثنين من الشهداء, سقطوا
فى ساحة الشرف دفاعا عن الوطن.. إختار أن يكون الضابطين الشهيدين عنوانا لمعانى
التضحية والوطنية.. أراد أن يقول عنهما أنهما القيمة فى الوطن, وليس "رجال
المال" ولا سفهاء الكلمة سواء حملوا أقلاما أو جسدوا أدوارا فى دراما!! أراد
التأكيد على أن هؤلاء هم بناة الأوطان مع العمال والفلاحين, وأنه اختار الانحياز
لهؤلاء الذين يعرفون معنى الوطن والشرف.. وأنه ضد الذين يعبدون
"الدولار" و"الاسترلينى" فى مقدمة خطابه الذى استمر لأكثر من
أربع ساعات.
هذا الخطاب الذى تم طمسه.. ثم تشويهه لأهميته وخطورته وقيمته..
ودارت المعركة ضد الكلمة.. لأن "عبد الناصر" استخدمها كسلاح.. كان
بالكلمة يستطيع أن يدخل العقول ويخترق القلوب.. فأضاف: "هذه أيها المواطنون
المعركة التى نسير فيها.. ضد الاستعمار.. ضد أساليب الاستعمار.. ضد وسائل
الاستعمار.. معركة ضد إسرائيل صنيعة الاستعمار, التى خلقوها ليقضوا على قوميتنا
كما قضوا على فلسطين.. حتى يقضوا علينا ويحولونا إلى دولة من اللاجئين.. شجعوا
إسرائيل أن تعلن على الملأ أن أرضها المقدسة تمتد من النيل إلى الفرات.. نحن نشعر
بهذا الخطر.. لذلك سندافع عن عروبتنا من المحيط الأطلسى إلى الخليج الفارسى"!!
الذين ذهبوا إلى السلام.. لا يخجلون من الزعم أن "عبد
الناصر" الذى رحل قبل أكثر من نصف قرن هو سبب الخراب!! هم يعلمون أنهم
اختاروا طريق الخراب, وحين اكتشفوا حقيقة سرابهم.. إختاروا الانضمام إلى ميليشيات
إطلاق النار على "عبد الناصر" ومسيرة لم تستمر طويلا, وشهدت إنجازات
وانتصارات كما شهدت انكسارات.. حتى لا تفكر أمم وشعوب تم تدميرها وتعيش تحت رايات
السلام الوهمى و"التنمية المستدانة"!! وكانت الرافعة التى بدأت بعد هذا
الخطاب.. إسمها "أوف شور" وسقط فيها السذج والبلهاء مع خونة يمارسون
الخيانة على أنها "وجهة نظر"!!
مازال الخطاب طويلا.. فيه تفاصيل مهمة, وأرقام وبيانات وأسرار
مذهلة.. تحدث عنها وشرحها للأخوة المواطنين.. أما غير المواطنين فلا يهمهم الخطاب
لأن كلماته وما جاء فيه, تحرق "خدم الملكية والاستعمار".. وهم لا يريدون
أن نعرف سر "عبد الناصر" الذى احترم شعبه.. فأحبوه ورفعوه على أعناقهم..
يتبع
0 تعليقات