نصر القفاص
الشعوب تثق فى قائد يحترمها.
كان "عبد الناصر" على قناعة شديدة بذلك.. دفعه هذا إلى
اعتماد الوضوح والصراحة منهجا.. اختار أن يجهد نفسه فى شرح رؤيته "للإخوة
المواطنين" باعتباره حقهم وواجب عليه.. تعامل مع هذه القاعدة كما لو كانت
"نوتة موسيقية" يجب أن يحفظها الناس, لكى ينطلق المجتمع عازفا لحن العمل
والإنتاج.. وعلى التوازى كانت قوة مصر الناعمة, تلتقط طرف الخيط لتعكس تفاصيل
الحياة وتؤكد المنهج بالأغنية والمسرحية والفيلم والكتاب مع الصحيفة والإذاعة.. ثم
التليفزيون.. وكل هذه أسلحة مضادة لصواريخ "الأوف شور" كنظام بقى لقيطا
حتى تم طى صفحات زمن الخمسينات والستينات!
فى خطاب "التأميم" أسهب "عبد الناصر" فى شرح
أهمية الاستقلال الاقتصادى فقال: "كنا نتجه أيها المواطنون منذ قامت الثورة
لتحقيق الاستقلال السياسى.. لإعادة العزة.. لإعادة الكرامة المسلوبة.. وفقنا –
بحمد الله – واستطعنا يوم 18 يونيو أن نرفع فى سما مصر.. علم مصر وحده.. وأن نبقى
بين ربوع مصر بسيادة مصر وحدها.. وبهذا تحقق جزء كبير من الأهداف اللى احنا كنا
بنصبو إليها.. تحقق جز كبير من الأهداف اللى كنا بنطالب بيها.. لكننا لن نهمل –
أيها الأخوة – فى نفس الوقت أن نعمل من أجل الاستقلال الاقتصادى.. لن نهمل هذا
أبدا.. لأننا نؤمن ونعتقد فى أن الاستقلال الاقتصادى يكمل الاستقلال السياسى..
فالاستقلال السياسى يكون زائف إذا لم يكن هناك استقلال اقتصادى.. بل إذا كان هناك
تحكم اقتصادى, فسيتم استخدام ذلك فى الضغط والتوجيه.. لذلك اتجهنا سنة 53 فى العمل
على تنمية الإنتاج.. كان هدفنا تحقيق الاستقلال الاقتصادى.. إستطعنا أن نرفع الدخل
القومى من سنة 52 إلى 54 بما يقرب من 16% وبعد كدة حققنا النسبة نفسها ما بين 54
و56.. إذن نحن نعمل.. لسنا لاهين.. إحنا عارفين الأساليب والألاعيب اللى انكوى
بيها آباؤنا وأججدادنا.. لذلك كنا نعمل من أجل الاستقلال الاقتصادى مع الاستقلال
السياسى".
كان التكرار مقصود لتأكيد ما يريد.. تلك لحظة تسبق ما سيذهب إليه
بإعلان قرار الاستقلال الاقتصادى.. ثم أضاف: "حينما شعرنا بالاستقلال السياسى
بعد الجلاء.. إتجهنا إلى العالم أجمع.. قلنا لننسى الماضى.. إتجهنا إلى المستعمرين
وإلى الناس اللى جم احتلونا.. اللى قتلوا آباءنا وأجدادنا, وقلت يوم 19 يونيو إننى
أمد يدى للجميع.. مصر تمد يدها للجميع, وأنها ستسالم من يسالمها وتعادى من
يعاديها.. نحن سياستنا مستقلة. تنبع من مصر.. لا من لندن.. ولا واشنطن.. ولا
موسكو.. ولا أى دولة.. سياستنا تنبع من ضمائرنا وإحساسنا.. قلت إحنا مستعدين
نتعاون مع الجميع.. لكن هذا التعاون لن يكون أبدا على حساب قوميتنا.. أو على حساب
عروبتنا.. وطبعا لن يكون على حساب استقلالنا أو على حساب كرامتنا.. الكلام دة قلته
يوم 19 يونيو.. وهو الكلام نفسه اللى باقوله منذ قيام الثورة.. والنهاردة هاقول
لكم كل حاجة حصلت منذ قامت الثورة.. فى المفاوضات والمقابلات.. فى كل شىء حتى
تكونوا على بينة".
كانت المرة الأولى التى يقول فيها "نسالم من يسالمنا ونعادى
من يعادينا".. لينتقل إلى تمهيد العقل المصرى لاستقبال أخطر قرارات القرن
العشرين.. وبدأ بشرح ما حدث بقوله: "من سنة 52 وبعد نجاح الثورة.. بدأت تتصل
بنا انجلترا.. وبدأت تتصل بنا أمريكا.. بدأوا يطالبوا إننا نتحالف معاهم.. نعمل
تحالفات واتفاقات.. كان كلامنا لهم إن احنا لا نستطيع نتحالف.. مش ممكن ندخل حلف
غير الحلف الذى يضم الدول العربية, كنت باقول لهم, ودة موجود فى محاضر المفاوضات..
إذا دخلنا فى حلف مع بريطانيا.. هل تستطيع مصر أن تملى إرادتها على بريطانيا؟! إذا
قعدنا على ترابيزة واحدة, وكان فيها مستر إيدن – رئيس وزراء بريطانيا – هو بيمثل
بلاده واحنا بنمثل مصر.. إزاى يكون تحالف بين دولة كبرى مع دولة صغرى زيينا؟! هذا
لن يكون حلف.. سيكون تبعية.. ونحن لا نقبل أن نكون تابعين.. نستطيع أن نتعاون
معكم.. تعاون الند للند.. نستطيع أن نكون أصدقاء ونتفاهم.. لكننا لا نقبل أن نكون
أذيال أو تابعين.. وفى أول جلسة من جلسات المفاوضات.. كانت فى إبريل 53.. كان
الجنرال روبرتسون موجود, وطلب مننا إننا نوقع مع بريطانيا محالفة مدتها 25 سنة..
رفضنا.. قطعت المفاوضات بعد جلستين.. قلنا أننا نريد اتفاق للجلاء, وسنكافح من أجل
هذا.. لن نتحالف لأن محالفتنا ستجعلنا ذيل.. ستجعلنا تابعين.. الكلام دة قلناه
وبنقوله النهاردة.. والكلام دة موجود فى جميع محاضر الجلسات".
أراد "عبد الناصر" حين كشف ذلك التأكيد على أن زمن
التبعية انتهى.. رسالته وصلت للذين يفرضون التبعية على دول "العالم
النايم" كما يريدونه!! ثم أضاف فى خطابه قائلا: "إبتدينا فى سنة 52
نتكلم عن تموين الجيش المصرى بالأسلحة, وقلنا لهم.. عايزين تبينوا إنكم أصدقاء..
إدونا السلاح اللى احنا عايزينه.. ما بنشحتش منكم.. مستعدين ندفع تمن السلاح..
قالوا لنا.. مانديكمش سلاح إلا إذا وقعتم معنا ميثاق الأمن المتبادل.. تعرفوا
الميثاق دة معناه إيه؟! معناه إنه تيجى بعثة أمريكية تقعد هنا فى مصر, تمشى أمور
الجيش المصرى.. قلنا لهم إن احنا لنا تجارب.. إحنا كناس عسكريين كنا موجودين فى
الجيش ولنا تجارب بهذا الخصوص.. لنا تجارب مع البعثات العسكرية.. كان فيه بعثة
عسكرية جت سنة 36 واحنا كنا ضباط صغيرين.. كنا بنحتك بيهم.. كان هدفهم الأول هو إضعاف
الجيش المصرى.. هدفهم الأول هو بث روح الهزيمة.. بث روح عدم الثقة فى الجيش
المصرى.. واحنا عندنا مركب نقص وعقدة لا يمكن تتحل من البعثات العسكرية.. لا يمكن
نقبل بعثة عسكرية.. ولا يمكن نمضى على ميثاق الأمن المتبادل.. إحنا عايزين جيش
وطنى قوى.. لا نقبل أن يكون الجيش المصرى تحت سيطرة ضباط أجانب.. هذا جيش لن يعمل
إلا لمصلحة هذا الشعب..ومصلحة أبناء هذا الشعب.. دا اللى احنا بنعتقد فيه.. ما
بنطلبش منكم معونة أو حسنة.. وآخر سنة 52 قالوا مستعدين نديكم الأسلحة.. بعتنا ناس
تجيب الأسلحة.. رجعوا خاويين الوفاض.. وقصة الأسلحة إنتم تعرفوها.. تعرفوها
بالتفصيل.. مارضيوش يدونا حاجة مجانا ولا بالفلوس, إلا لما نمضى على صك كرامتنا..
صك عبوديتنا.. نمضى صك يسلم وطننا ويسلم أبناءنا لهم, علشان يسيروهم زى ما هم
عايزين.. علشان يعملوا فى مصر زى ما يطلبوا.. نمضى صكوك تمكنهم مننا.. تعتبرنا فى
هذا البلد غرباء.. لا نستطيع أن نقرر سياستنا.. نتبع السياسات التى تملى علينا من
الاستعماريين وتجار الحروب والمستغلين والمستبدين"!
تحدث "عبد الناصر" عن الكفاح المسلح فى منطقة القناة
خلال التفاوض مع الانجليز بعد الثورة.. وقال: "اللى زى مصطفى حافظ وصلاح مصطفى
راحوا وقعدوا فى القنال.. إستطاعوا يخللوا القوة الانجليزية – 80 الف – مش بتحمى
القنال ولا الشرق الأوسط.. لأنها مش قادرة تحمى نفسها.. ودة اللى خلاهم يقولوا مش
ممكن نستمر فى بلد يعادينا.. دة كان السبب الأساسى فى الوصول إلى اتفاقية الجلاء..
الكفاح والعرق والدم والاستشهاد.. واللى ماتوا ماقلناش أساميهم, حتى تم إعلان
اتفاقية الجلاء.. وخرجت انجلترا من مصر بعد أن تأكدت أن شعب مصر صاحب حق السيادة
على مصر.. لكن هل انتهت هذه المعركة؟!.. لم تنته هذه المعركة.. الاستعمار يا
إخوانى له أشكال مختلفة.. أشكال متلونة.. أول ما بدأ كان بالاحتلال بالقوة
المسلحة.. بعدها أخذ يتطور.. النهاردة الاستعمار بيمثله أعوان الاستعمار.. أصبح
استعمار بدون جنود.. بدون قوة مسلحة.. أصبح يستطيع أن يحقق أغراضه بواسطة أعوانه
من الخونة.. عن طريقهم يستولوا على السلطة, بأن تكون البلد تابعة لهم.. واحنا
آلينا على أنفسنا نقاوم الاستعمار بكل أشكاله.. فبدأ الاستعمار يتآمر حتى يستولوا
على الدول العربية.. دولة بعد دولة.. يضع يده على دولة بعد دولة"!!
مضى على كلام "عبد الناصر" أكثر من ستين عاما.. أصبحت
الصورة التى تحدث عنها واضحة أمام أعيننا, لا تحتاج إلى شرح أو تفسير.. بقى قناع
واحد للاستعمار يحرص على أن يبقى سرا.. على الأقل يكون غامضا.. مربكا.. وظهر هذا
القناع بعد تأميم قناة السويس, ثم خلعه المستعمر بداية من السبعينات كما أكد عشرات
الخبرا وأساتذة الاقتصاد.. إسمه "الأوف شور" بعد أن سقطت أقنعة القوة..
وخلال الخطاب تناول "عبد الناصر" حكايات نضال الأردن والجزائر والمغرب
وتونس والسودان.. وتحدث عن أن قوة العرب تكمن فى وحدتهم.. وكم كان واضحا حين قال:
"عايزين مننا إن احنا نسمع أوامرهم بخصوص إسرائيل.. يقولوا لك إسرائيل حقيقة
واقعة.. طلبات إسرائيل يجب تلبيتها.. نقول لهم وأهل فلسطين.. يقول لك دا موضوع
نتكلم فيه بعدين.. موضوع مؤجل يعنى.. نقول عرب فلسطين لهم حقوق.. يقول لك ندفع لهم
شوية فلوس!! قلنا أراضينا لا تقدر بثمن ولا بمال.. إحنا غيركم.. نظرة الاحترام
تتجاوز فلوس الدنيا"!!
لم يكتف "عبد الناصر" بما قاله.. أضاف إليه جديدا, حين
قال: "طلبنا السلاح من بريطانيا.. راحت بعثة هناك لهذا الغرض.. قالوا لهم
إيه.. مستعدين نديكم سلاح بشرطين.. الأول إن عبد الناصر يسافر باندونج ويسكت خاص..
ما يتكلمش.. والشرط التانى إنكم تبطلوا تهاجموا سياسة الأحلاف وتسيبونا ننفذ خططنا
زى ما احنا عايزين.. مابقتش العملية بيع سلاح.. بقت استخدام السلاح للسيطرة
والتحكم.. طب احنا عايزين سلاح يقرر سياستنا.. ولا احنا عايزين سلاح احنا اللى
نقرر سياسته؟!
هل احنا عايزين سلاح يقودنا.. ولا عايزين سلاح نحقق بيه أهدافنا
ونثبت بيه حريتنا واستقلالنا؟! إذا كان الأمر كدة.. مافيش داعى للسلاح وندفع فيه
أموال.. ونفقد شخصيتنا ومبادئنا.. إحنا ما كناش طالبين سلاح صدقة أو معونة"!
دارت عجلة الزمن.. بقى ما قاله "عبد الناصر" فى خطاب
تأميم قناة السويس, يكشف حقيقة ما حدث بعد رحيله.. أصبح مطلوبا دفن الكلام..
إستمرار إطلاق النار على مسيرته وسيرته, لأنه كان مدركا لتفاصيل سيناريو
"الاستقلال الزائف" وشرح لشعبه والشعوب العربية تفاصيل حدثت خلال نصف
قرن بعد رحيلة.. ومازالت تحدث.. فهل كان يتوقع يوما تكشف فيه "واشنطن"
وجهها وتعلن عن "صفقة القرن" بإعطاء الفلسطينيين شوية فلوس كما حاول
"ترامب"؟! نترك السؤال مفتوحا.. لأن الأهم ويتعلق بخطر "الأوف
شور" تحدث عنه فى خطابه..
يتبع
0 تعليقات