آخر الأخبار

بوابات الأموال القذرة!! (21) سر عبد الناصر!

 




 

نصر القفاص

 

كان "عبد الناصر" يعرف ويؤمن بأن "شرف الرجل هو الكلمة"

كان يعتقد فى أن الشعب يجب أن يعرف ويفهم.. وأن هذا واجب عليه.. لذلك راح يشرح ما حدث خلال قمة جمعته مع "تيتو" و"نهرو" فى "يوغسلافيا" التى تم تفتيتها إلى عدة دول فيما بعد.. لم يخف شيئا, لإيمانه بأنه لا توجد أسرار على الشعب.. ولإيمانه بأن السياسة ليست "طلاسم" أو "لوغاريتمات" وهذا سلاحه فى مواجهة أعدائه.. الصراحة.. منتهى الصراحة.

 

كان دائم التأكيد على أن شجاعته يستمدها من التفاف الناس حوله.. يحدث ذلك إذا قال صدقا.. ولو عاش مواطنا لا يختلف عن "الإخوة المواطنين"!

 

وجه فى الخطاب التحية والتقدير للشعب السورى الذى أقر دستوره الجديد ونص على أن سوريا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية.. عاد بعدها ليتحدث عن مصر – أيها المواطنون – فقال: "منذ أعلنت مصر سياستها الحرة المستقلة.. بدأ العالم ينظر إلى مصر ويعمل لها حساب.. بقوا يعملوا لنا حساب.. اللى كانوا زمان ما بيعبروناش, وما يحسبوش حسابنا.. بقوا النهاردة يعملوا لنا حساب.. كنا زمان نتلطع على مكاتبهم.. مكاتب المندوب السامى والسفير البريطانى.. النهاردة بعد تحقيق حريتنا السياسية.. بعد إعلان مبادئنا.. بعد تكاتفنا وإقامة جبهة وطنية متحدة من جميع أبناء هذا الشعب ضد الاستعمار, وضد الطغيان.. ضد التحكم وضد السيطرة.. ضد الاستغلال وضد التدخل الأجنبى.. بيعملوا لنا حساب.. بيعرفوا إن احنا دولة لها قيمتها, وتستطيع أن تفعل ما تريد.. النهاردة قيمة مصر فى المجال الدولى.. وقيمة العرب فى المجال الدولى كبرت وعظمت.. وعلى هذا الأساس.. أيها الإخوة.. تم مؤتمر بريونى – إحدى مدن يوغسلافيا الساحلية – هناك اجتمعت مع الرئيس تيتو رئيس جمهورية يوغسلافيا, والرئيس نهرو رئيس وزراء الهند.. الاثنين اللى أعلنوا سياسة عدم الانحياز.. السياسة الحرة المستقلة.. هناك التقيت بالشعب اليوغسلافى ولمست صداقتهم للشعب المصرى وتقديرهم لشعبنا.. وابتدينا نبحث ونتبادل الرأى.. وقررنا اتباع مبادىء باندونج العشرة.. وصدر بيان أكد على أن رؤساء الحكومات الثلاثة – يوغسلافيا والهند ومصر – تتشابه نظرتهم للمسائل الدولية, ولاحظنا أن سياسات دولنا ساهمت إلى حد ما فى تخفيف التوتر الدولى وإنماء العلاقات بين الأمم على أساس المساواة".

 

يكتشف من يقرأ الخطاب الذى كان يلقيه "عبد الناصر" ارتجالا.. يعود للأوراق فقط للتأكد من الأرقام.. أنه لديه بناء يأخذ منحنيات صعودا وهبوطا.. موضوعات الخطاب تبدو متفرقة, لكنه يجعلها وحدة واحدة بأسلوب بسيط رغم صعوبة ما يتناوله.. ولأن هذا كان منهجه, فقد كان الشعب ينتظر وضوح الرؤية إذا تكلم.. فما يجرى فى الصالونات.. يجب أن يعرفه الشعب.. كل "الإخوة المواطنون"!!

 

اختار تذكير مستمعيه بما حدث فى مؤتمر "باندونج" فقال: "مبادىء باندونج العشرة التى تقررت فى العام الماضى, بتقول من الطبيعى أن يكون لجميع الأمم الحق فى أن تختار بحرية نظمها السياسية والاقتصادية وطريقة حياتها.. نخنار وفقا لمبادىء وميثاق الأمم المتحدة.. بالتحرر من الشك والخوف.. بالثقة وحسن النية المتبادلين.. يجب على الأمم أن تمارس التسامح وأن تعيش معا فى سلام.. يجب على الأمم أن تعيش جيرانا صالحين, ويعملون لتمكين التعاون الصادق".

 

لم يكتف بهذا القدر من التوضيح.. بل أضاف قائلا: "الأسس التى وضعها مؤتمر باندونج للعلاقات بين الدول, تقوم على احترام حقوق الإنسان الأساسية.. وتقوم على سيادة جميع الأمم وسلامة أراضيها.. الاعتراف بالمساواة بين جميع الأجناس, وبين جميع الأمم كبيرها وصغيرها.. بعدين.. الامتناع عن التدخل فى الشئون الداخلية لبلد آخر.. ثم الامتناع عن استخدام التنظيمات الدفاعية الجماعية, لخدمة المصالح الذاتية لأية دولة من الدول الكبرى.. كالأحلاف اللى بيعملوها, وبيدخلوا فيها تحت اسم الدفاع.. علشان تخدم مصالحهم.. وبعدين.. إمتناع أى بلد عن الضغط على غيره من البلاد.. وبعدين.. تجنب الأعمال والتهديدات العدوانية أو استخدام العنف ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسى لأى بلد من البلاد.. وبعدين.. تسوية جميع المنازعات الدولية بالوسائل السلمية.. وبعدين تنمية المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.. وبعدين.. إحترام العدالة والالتزامات الدولية.. ودى المبادىء اللى أقرها مؤتمر باندونج, حتى لا تستخدم الدول الكبرى غيرها من الدول الصغرى كألعوبة فى يدها.. حتى لا تستخدمها كمخلب قط تنفذ بها سياستها من أجل السيطرة ومن أجل النفوذ".

 

استمر "عبد الناصر" فى شرح ما حدث خلال قمة "بريونى" وإعادة إلقاء الضوء على ما كان فى مؤتمر "باندونج" وعلاقة ذلك بمنطقة الشرق الأوسط.. أهمية ذلك فى قضية فلسطين.. دوره فى التعامل مع ملف الجزائر التى كانت تقاتل لنيل استقلالها.. ثم عاد إلى الشأن المصرى ليقول: "أما نبص نجد أن مصر منذ أن قامت الثورة, كانت تجاهد لتنقل قضاياها وقضايا العروبة.. إلى طريق آخر غير طريق الاستجداء.. كنا بنجد إن احنا نستطيع أن نحقق هذا, إذا حققنا استقلالنا السياسى.. إذا حققنا الاستقلال الاقتصادى.. وإلا إذا كان معه اقتصاد سليم, يستطيع أن يقف ضد مؤامرات المستعمرين.. ضد مؤامرات المستغلين.. ضد مؤامرات الطامعين"

 

كانت الرؤية واضحة أمامه.. لا استقلال دون اقتصاد قوى سليم.. وهذا لا تملك مصر أن تحققه دون اتفاق مع آخرين على الرؤية ذاتها.. وهو يرفض الأحلاف وأن تكون بلاده جزء من هذا المعسكر أو ذاك.. لذلك اختار الذهاب مع الدول التى تقاسمه الرؤية.. والمدهش أن كل هذه الدول, تلقت ضربات من الغرب تفاوتت فى قسوتها.. بداية من الهند التى تم التخطيط لضربها بباكستان.. مرورا بإندونيسيا التى استضافت "باندونج" وتم تسليط "سوهارتو" عليها لثلاثين عاما كديكتاتور فاسد.. وليس نهاية بيوغسلافيا التى مزقوها إلى عدة دول.. لاعتقادهم بأن هذه مقدمات تفكيك "الاتحاد السوفيتى" وقد حدث فيما بعد لحظة انحيازهم إلى توحيد المانيا.. كما شهدت الفترة نفسها تقسيم كوريا إلى شمالية وجنوبية.. واستمرت محاولات تحجيم الصين لسنوات طوال, وكانت مصر من أبرز الدول التى تصدت لذلك.

 

لم يكن "عبد الناصر" مغامرا كما يكذبون.

 

كان "عبد الناصر" واعيا ومدركا لما يدور فى "مطابخ السياسة" الغربية.. كان واعيا بما يجب أن يفعل.. وكان يدرك أن الثمن سيكون صعبا.. بل فادحا.. لكنه قاوم.. انتصر.. وانكسر.. كما انكسرت دول كثيرة, كانت تقف معه فى الخندق نفسه.. وكما حدث مع إندونيسيا.. وحدث مع يوغسلافيا.. وحدث مع الاتحاد السوفيتى وآخرين.. استمرت القوة والمقاومة.. وكان خطاب 26 يوليو 1952 لحظة الصفر.

 

حين نقول أن الخطاب كان حافلا بالتفاصيل.. تلك ليست مبالغة.. وحين نذهب لإعادة قراءة الخطاب, فهذا أصبح شديد الأهمية.. ربما لنفهم أن كارثة "سد النهضة" جرى الإعداد لها قبل تأميم شركة قناة السويس.. وأن توقيت تنفيذها تم التخطيط له بدقة وعناية.. وأن رهن اقتصاد مصر, بعد رحيل "عبد الناصر" لم يحدث صدفة.. وأن ما تصدى له وواجهه, حقق الكثير.. بدليل أن تصفية هذا المشروع احتاجت لأكثر من نصف قرن.. والعملية مستمرة!!

 

شرح "عبد الناصر" معنى الاستقلال, فقال: "فى الوقت اللى كنا فيه بنعمل من أجل الاستقلال السياسى.. كنا أيضا بنعمل من أجل الاستقلال الاقتصادى.. كنا بنعمل من أجل جلاء الانجليز المحتلين عن أرض مصر, بوسائل مختلفة.. كلكم تعرفوها.. بالقوة واللين.. بالعنف والمفاوضات.. كان غرضنا من هذا أن نحقق لمصر إستقلالا سياسيا حقيقيا.. وأن تكون السيادة فى مصر لأبناء مصر.. وألا يرفرف فى سماء مصر غير علم مصر.. كنا نؤمن بأننا نستطيع ما دمنا نقضى على أعوان الاستعمار.. حينما تخلصنا من أعوان الاستعمار, تداعى الاستعمار.. تداعى الاحتلال.. ما قدروش يقعدوا لأنه مالاقاش بين أبناء مصر من يتعاون معاه.. وتم الجلاء عن مصر الشهر الماضى.. آخر قوة جلت عن مصر, من القوات اللى دخلت أراضيها سنة 1882 رحلت.. لما حاولوا وقتها احتلال مصر من اسكندرية انهزموا.. إنضربوا فى كفر الدوار.. ما قدروش يكملوا غزوهم وحملتهم.. ضربهم عرابى فى كفر الدوار وهزمهم.. إنسحبوا من اسكندرية.. لكنهم دخلوا بالغدر والخديعة والخيانة.. إتجهوا لقنال السويس, وعن طريق أعوانهم فى قنال السويس استطاعوا يدخلوا من هناك, ويوصلوا للتل الكبير.. إستطاعوا يحتلوا مصر ويقضوا على قوة مصر.. هزمناهم سنة 1882.. هزمناهم سنة 1807 أما جت حملة فريزر وخرج لها أهل رشيد.. إستطاع أهل رشيد المدنيين أن يهزموا الحملة العسكرية البريطانية.. دى مصر الحقيقية.. لكن الانجليز اتبعوا معانا أساليب الخداع, واستطاعوا يتحكموا فينا.. إستطاعوا أن يحتلونا".

 

من هنا بدأت الدراما والإثارة فى الخطاب.

 

كانت المقدمة فيها اعتزاز بما تحقق.. بعدها شرح للموقف داخليا وخارجيا.. ثم تأكيد على أنه لا استقلال سياسى دون استقلال اقتصادى.. وتوضيح بأن هذا لن يحدث دون فهم لما يجب أن يحدث, وأساليب المواجهة من الخارج لتأمين الداخل وحمايته.

 

كان هذا هو "سر عبد الناصر" الذى احترم الشعب بلا حدود.. إيمانه بقدرة الشعب وقوته, وتذكيره ببطولاته وتاريخه.. ثم استنطاق معانى العزة والكرامة التى يعلم أنها كامنة فى عمق الذين يخاطبهم.. يناديهم "أيها الإخوة المواطنون" وراح يضيف المزيد من الشرح والتأكيد.. ليذهب إلى أسباب قرار كان هو الأخطر والأهم فى القرن العشرين..

 

بوابات الأموال القذرة!! (20) خطاب التأميم

 يتبع

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات