محمود جابر
فى الجزء الأول من الفتنة الكبرى وقف طه حسين وقفات عدة أمام سيرة عمر بن
الخطاب، وخاصة فى قضية العدل والمساواة، ومراقبة عماله (الولاة وجامعي الصدقات).
ومما وصف به عمر وهو أمر متواتر فى كل كتب السير أن عمرا لم يكن رفيقًا
بعماله وولاته ولا مسمحًا لهم، وإنما كان يراقبهم أشد المراقبة، كان لا يولي
عاملًا إلا أحصى عليه ماله حين التولية وأحصاه عليه حين العزل، فإن وجد فرقًا قاسم
العامل هذا الفرق، فترك له شطرًا ورد الشطر الآخر إلى بيت المال، ثم كان يتتبع سيرة
هؤلاء العمال في الرعية من قريب جدًّا، ويعزم عليهم سرًّا وإعلانًا ألا يؤذوا
المسلمين في أنفسهم ولا في أبشارهم ولا في أشعارهم ولا في أموالهم، وكان يلوم بعض
ولاته في بعض ذلك فيقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!»
وكان يشاور من عنده في المدينة من أصحاب النبي فيما يلم من الخطوب كل يوم،
ويضرب لعماله موعدًا إذا كان الموسم، فيحج بالناس ويسمع من العمال في أمر الرعية
ومن الرعية في أمر العمال، ويرد الأمر في ذلك كله إلى نصابه.
ومن أهم ما ذهب إليه طه حسين أنه قال : وأكاد أعتقد أن عمر لو قدمت له
أسباب الحياة لنظم الشورى في أمر المسلمين نظامًا مستقرًّا باقيًا، يعصمهم من
الفتنة والاختلاف، ويكف الولاة عن الظلم والاستعلاء.
ومغزى هذا كله أن عمر قد حمى هذه الطبقة الممتازة، وحمى المسلمين من
استغلال النفوذ، وأمسك عليهم جميعًا دينهم، وحال بينهم جميعًا وبين الفتنة، واتخذ
من خاصة أصحاب النبي مجلسًا يوشك أن يكون مجلس شوراه، ولو مُدَّ له في العيش لكان
خليقًا أن يضطرهم إلى أن يرضوا بهذه المنزلة فيكونوا أصحاب الحل والعقد؛ يشيرون
على الخلفاء دون أن يدخلوا في أمور الحكم التفصيلية من قريب أو بعيد.
انتهت خلافة عمر بمقتله على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ولكنه قبل موته رشّح
للمسلمين ستة أسماء ليختاروا خليفتهم من بينهم، وهم” عثمان بن عفان، علي بن أبي
طالب، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص”.
ولكن هؤلاء الستة واجهتهم مشكلة
كبيرة، وهي أنهم جميعا مرشحون للخلافة، وفي نفس الوقت هم من أوكل إليهم أمر
الاختيار، ونَزْعاً لهذا الخلاف قام عبد الرحمن بن عوف بسحب نفسه من هذا الأمر على
أن يختار للمسلمين من بين هؤلاء المرشحين، وغاب طلحة بين عبيد الله لأنه لم يكن في
المدينة آنذاك، وبعد أخذ ورد استقر الأمر لعثمان، وتمت مبايعته بالخلافة.
ولكن يبدو أن عثمان كان على موعد
مع الأزمات، فما أن بويع بالخلافة حتى واجهته مشكلة كبيرة، وهي مشكلة عبيد الله بن
عمر بن الخطاب الذي قتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة ثأراً لأبيه، فانقسم
الناس في شأنه إلى فريقين، فريق يرى أن يقام عليه الحد ويُقتل، وفريق آخر يقول: قُتل
عمر بالأمس ويُقتل ابنه اليوم ؟ .. إلا أن عثمان استطاع أن يتجاوز هذا الأمر،
واعتبر نفسه وليّ المجني عليهم ودفع الدية عن ابن عمر وأنهى الأمر قبل أن يتفاقم.
وأخذ طه حسين في كتابه يعدد تفاصيل مخالفة عثمان لسياسة عمر، فكان الشرط
الذي اختار عليه الناس عثمان للخلافة هو أن يلتزم بسيرة النبي وخليفتيه أبي بكر
وعمر، ولكنه خالف ذلك منذ بدء خلافته كما يرى طه حسين، فبدأ خلافته بالتوسعة على
الناس فزاد في أعطياتهم، وكأنها إشارة لانتهاء الشدة التي سادت عهد عمر، راغباً من
وراء ذلك أن يتقرب للناس بهذه الأعطيات، ولم تقتصر توسعته على العامة فقط، بل
تجاوزتهم إلى الأعلام من أصحاب النبي فوصلهم بمئات الآلاف من بيت مال المسلمين.
وبعد أن حصر عمر كبار الصحابة في
المدينة، أذن لهم عثمان أن يتفرقوا في الأمصار ويتحركوا بكامل حريتهم، دون خوف
عليهم من الفتنة أو خوف على الناس من الافتتان بهم.
لكن كما يرى طه حسين أن عثمان لم يقصد بهذا مخالفة سيرة سابقيه أبي بكر،
ولكنه وجد سعة من المال فوسّع على المسلمين، ولم يجد حرجا أن يختص كبار الصحابة
بالنصيب الأكبر من هذه الأموال.
ووفقا لما أورده طه حسين، فإن ثمة شبه إجماع بين المؤرخين على أن أول ستة
أعوام من خلافة عثمان لاقت قبولاً عاما، حيث تيسرت على الناس حياتهم، بعد أن أخذهم
عمر بالشدة مدة عشرة أعوام.
ومن المآخذ التي أُخذت على عثمان هو أنه آثر أقرباءه من بني أمية بالولايات
الهامة (الشام – مصر – الكوفة – البصرة) لأن بها الجند المقيمين، وبها الحضارة
المستقرة المترفة، وبها الأرض الخصبة، وفيها الذميون الذين يدفعون الجزية، وإليها
تُجلب الغنائم حيث كانت في حالة تماس جغرافي مع أماكن الفتح. فولّى الوليد بن عقبة
الكوفة، وحين عزله عنها ولّى أموي آخر هو سعيد بن العاص مكانه، وأقرّ معاوية بن
أبي سفيان على الشام ووسّع دائرة حكمه أيضاً، وعمرو بن العاص ومن بعده عبد الله بن
أبي سرح على مصر، وعزل أبا موسى الأشعري عن البصرة ونصّب ابن خاله عبد الله بن
عامر عليها وهو ابن خمس وعشرين سنة. أضف إلى ذلك عدم تفرقة عثمان بين بيت مال
المسلمين وماله الخاص، والذي أعطى الكثير منه لغير مستحقيه كهدايا، ومعاملته كل من
أبي ذر وعبد الله بن مسعود بالشدة حين نصحاه وطالباه بتعديل سياسته. كل هذه
العوامل جعلت طه حسين يستبعد أن يكون عبد الله بن سبأ هو الذي هيج الأمصار على عثمان،
فما كان لرجل واحد لا وزن له أن يقلب موازين الدولة، ولم يكن الصحابة بهذه السذاجة
كي يوقع بينهم ابن سبأ هذا، فإن كان له دور فهو دور هزيل، لأن أسباب الفتنة كانت
قائمة، صنعتها محاباة عثمان لأقربائه، وسياسته المالية التي خلقت نوعا من الفجوة
الاقتصادية وبالتالي الطبقية داخل المجتمع آنذاك. فأحس البعض بالظلم، وأحس آخرون
بالغيرة والحسد على من أنعم عليهم عثمان، فكانت الفتنة التي راح ضحيتها عثمان نفسه.
0 تعليقات