محمود جابر
فى الحلقة الماضية
وقفنا مع سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وكيف كانت علاقته بقريش وكيف كان يفكر
فى استخلاف سالم مولى أبى حذيفة أو ابو عبيدة بن الجراح، ولكن بعد موتهما كان اقرب
لعلى منه إلى الآخرين ....
واختيار الفتنة الكبرى لطه حسين، لانى اشعر ان الكتاب رغم انه الأكثر
مبيعا إلا انه لم يأخذ حقه فى العرض والقراءة والمناقشة، على الرغم من ان طه حسين أعظم
قدرا من ابن خلدون فى قراءته للتاريخ وتحليله له .
لقد نظر طه حسين إلى هذه الفتنة كظاهرة تاريخية اجتماعية، أى
كظاهرة تخضع لما تخضع له سائر الظواهر الاجتماعية من أثر الظروف المادية، دون خضوع
فى البحث التاريخى لتقديس الرجال أو الأشياء تقديسًا قائمًا على التمثل الشكلى
لأثر الدين فيهم أو فيها.
لقد نظر طه حسين إلى الناس "من حيث هم ناس"كما قال عام
1923، وانطلق فى ذلك من أن (الفرد ظاهرة
اجتماعية) كما قال فى "قادة الفكر" عام 1925. ولذلك سمح طه حسين لنفسه
أن يدلى بالحكم فى أحداث مرحلة الفتنة:
(ليس من شك فى أن عليًا قد أخفق فى بسط خلافته على أقطار الأرض
الإسلامية. ثم هو لم يخفق وحده وإنما أخفق معه نظام الخلافة: وظهر أن هذه الدولة
الجديدة التى كان يرجى أن تكون نموذجًا للون جديد من ألوان الحكم والسياسة والنظام
لم تستطع آخر الأمر إلا أن تسلك طريق الدول من قبلها، فيقوم الحكم فيها على مثل ما
كان يقوم عليه من قبل من الأثرة والاستعلاء ونظام الطبقات، بل لم يخفق علىّ ودولة
الخلافة وحدهما وإنما أخفقت معهما الثورة التى قامت أيام عثمان لتحفظ – فيما كان
أصحابها يقولون – على الخلافة الإسلامية سماحتها وصلاحها ونقاءها من شوائب الأثرة
والعبث والطغيان والفساد) .
ثم يقول طه حسين: (كانت الظروف التى أراد الثائرون بعثمان أن
يقاوموها بثورتهم أقوى من أن تقاوم، ولكن كلمة الظروف هذه غامضة تحتاج إلى شئ من
الوضوح، وأول هذه الظروف وأجدرها بالعناية والتفكير: الاقتصاد. فقد كان نظام الخلافة كما تصوره
الشيخان -أبو بكر وعمر- يسيرًا سمحًا لا عسر فيه، أخص ما يوصف به أنه لا يستطيع أن
يستقر ولا أن يستقيم إلا إذا آمن به أشد الإيمان وأعمقه أولئك الذين أقيم لهم من
المسلمين . والإيمان بهذا النظام يقتضى قبل كل شئ إيمانًا خالصًا بالدين الذى
أنشأه. وهذا النوع من الإيمان وإن تحقق للكثرة من أصحاب النبى فإنه لم يخلص من بعض
الشوائب، وليس أدل على ذلك من ارتداد العرب بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم
وجهاد أبى بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الطاعة بعد تلك الخطوب الكثيرة التى نعرفها،
ثم تجاوز الإسلام بلاد العرب وبسط سلطانه على ما فتح من الأرض أيام الشيخين وأيام
عثمان فكثر الذين خضعوا لهذا السلطان غير مؤمنين به ولا مخلصين له وإنما الخوف
وحده قوام ما كانوا يبذلون من طاعة) .
بذلك حدد طه حسين الظروف الاجتماعية التى أحاطت بالإسلام: بدءً من عصر الرسول نفسه
حين كانت هناك شوائب فى الإيمان الدينى لدى أقسام من المسلمين سماهم القرآن (المنافقين) ومرورًا
بواقعة الفتح العظمى والتى جعل منها طه حسين نقطة التحول الكبرى فى تاريخ الجماعة
العربية الإسلامية – ويمضى طه حسين ليحدد من بعد هذا آثارها الاجتماعية بشئ من
التفصيل فيقول:
( كان الفتح مصدر قوة ومصدر ضعف للدولة الجديدة فى وقت واحد، كان
مصدر قوة لأنه بسط سلطانها ومدّ ظلها على أقطار كثيرة من الأرض. وكان مصدر ضعف
لأنه اخضع لها كثرة من الناس لا يؤمنون بها، إنما يخافون منها ويرهبون سطوتها.
وكان مصدر قوة لأنه جبى لها كثيرًا من المال الذى لم يكن يخطر على بال، وكان مصدر
ضعف لأن هذا المال أيقظ منافع كانت نائمة ونبّه مآرب كانت غافلة ولفت إليه نفوسًا
كانت لا تفكر إلا فى الدين, ثم خلق حاجات لم تكن معروفة ولا مألوفة, أظهر للعرب
فنونًا من الترف وخفض العيش فأغراهم بها ودعاهم إليها ثم عودهم إياها ثم أخذهم بها
أخذًا إلا قلة قليلة جدا استأثر الدين بها من دون الدنيا وشغلها التفكير فى الله
عن التفكير فى المال والمنافع والحاجات) .
وبعد ذلك يوضح طه حسين ذلك التفاعل العملى بين الواقع الاجتماعي
والدين، وهو ما يجعل طه حسين رائدًا أدبيًا مبكرًا – فى الفكر العربى – لعلم
"الاجتماع الدينىّ"، هذا الفرع الجديد من فروع "السوسيولوجيا":
( فالابتسام للمال يغرى بالاستزادة منه، والاستزادة منه تفتح
أبوابًا للطمع لا سبيل إلى إغلاقها، وإذا وُجد الطمع وُجد معه زميله البغىْ ووُجد
معه زميل آخر هو التنافس ووُجد معه زميل ثالث هو التباغض والتهالك على الدنيا.
وإذا وُجدت كل هذه الخصال وُجد معها الحسد الذى يحرق قلوب الذين لم يتح لهم من
الثراء ما أتيح لأصحاب الثراء، وإذا وُجد الحسد حاول الحاسدون إرضاءه على حساب
المحسودين وحاول المحسودين حماية أنفسهم وكان الشر بين أولئك وهؤلاء. و هذا كله هو
الذى حدث أيام عثمان، وهو الذى دفع أهل الأمصار إلى أن يثوروا بعمالهم ثم إلى أن
يثوروا بخليفتهم ثم إلى أن يحصروه ويقتلوه. وقد همّ (علىً) أن يرد العرب إلى مثل
ما كانوا عليه أيام عمر، ولكن أيام عمر كانت قد انقضت ولم يكن من الممكن أن تعود) .
ودارت دائرة الفتنة على علىً( إذ لم ينصره الثائرون الذين بايعوه
إمامًا فكان ما كان من قبول التحكيم وتقاعس عن مواصلة الجهاد فى صفين وما بعد
صفين).
ويوجز طه حسين نهاية مأساة الثورة فيقول:
( كل شيئ إذن كان يدل على أن سلطان الدين على النفوس لم يكن من
القوة فى المنزلة التى كانت فيها أيام عمر، وعلى أن سلطان المال والسيف كان قد
استأثر بالقلوب والنفوس، وكل شئ يدل على أن عليًا والذين ذهبوا مذهبه فى المحافظة
على سيرة النبيّ والشيخين إنما كانوا يعيشون فى آخر الزمان الذى غلب فيه الدين على
كل شئ. فقُلْ إذن فى غير تردد: إن أول الظروف التى كانت تقتضى أن يُخفق عليٌّ فى
سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحدَثين من المسلمين وتغلّب سلطان الدنيا
على هذه النفوس) .
فالأغلب الاعم ممن ثار على عثمان ثار ضد الظلم الاجتماعي، وانقسام
المجتمع إلى طبقات، ولكن جلهم كان يبحث من خلال ثورته على تغير وضعه الاجتماعي من
خلال المال لا من خلال العمل، ولهذا كانت هذه الطبقة الاجتماعية تنحاز الى الملك
لا إلى العدل، فرغم انهم شايعوا عليا وبايعوه، الا انهم صدق فيهم قول القائل فى
الحسين ان قلوبهم مع على وسيوفهم كانت عليه، او هم فضلوا الصلاة مع على والعشاء مع
معاوية!!
(وكل هذا جدّد النفس العربية تجديدًا يوشك أن يكون تامًا وباعد
بينها وبين الحياة الخشنة القديمة أشدّ المباعدة. فلما قُتل عثمان وأقبل الخليفة
الرابع علىً يريد أن يحملهم على الجادة وأن يردهم إلى السيرة التى ألفها المسلمون
أيام النبى والشيخين لم ينشطوا لذلك ولم يطمئنوا إليه, وإنما نظروا فرأوا خيلفةً
قديمًا يدبر جيلاً جديدًا ويريد أن يدبره تدبيرًا ينافر أشد المنافرة ما أحبوا من
حياة الخفض واللين, ثم نظروا بعد ذلك فرأوا أميرًا آخر قد أقام بالشام (معاوية)
وقد جدد نفسه مع الجيل الجديد ثم لم يكتف بتجديد نفسه والملاءمة بينها وبين رعيته
وإنما يغرى رعيته بالتجديد ويعينها عليه بالمال).
وينتهى طه حسين من ذلك كله إلى حكمه الأخير فيقول:
( كان
علىً يدبّر خلافة، وكان معاوية يدبّر مُلْكًا. وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر
المُلْك قد أطلّ).
وللحديث بقيه
2 تعليقات
قراءة التاريخ بعقل منطقى يجعلك تتحرر من اى اطر مقيد للمنطق
ردحذفانصح الجميع بقراءة الفتنة الكبرى
ردحذف