بقلم حسن بوحجي
عروبي – مواطن من الخليج العربي – البحرين
مستشار – محامٍ – باحث في فلسفة القانون الدستوري
عبدالناصر كان منذ اليوم الأول لثورة ٢٣/يوليو عام ١٩٥٢م، وما زال
هو الشخصية الفريدة التي تحيا في وجداننا، نحن أبناء الجيل الذى عاصره وتَفتح وعيه
الوطني والقومي على صوره الجذابة الأخاذة، وصوته المميز ذي النبرة الجميلة،
ومتابعتنا الصحف والمجلات التي تنقل خطبه وتصريحاته ومقابلاته، وحرصنا على مشاهدة
الجريدة المصورة المصرية التي تعرض في مقدمتها أخبار الرئيس جمال عبدالناصر في دور
العرض السينمائي المعدودة.
عبدالناصر كان هو محور حديثنا في تجمعاتنا المتعددة والمختلفة في
البيت في المدرسة وأماكن العمل والمقاهي واللقاءات في الأندية والمنتديات الثقافية
والإجتماعية. ماذا قال عبدالناصر، أو هل سمعت ما قاله عبدالناصر أو ما موقف
عبدالناصر في هذا الحدث.. كان جيل بكامله منشغل به ومتفاعل معه.. فجأة في قمة عطائه
وجهوده، لتوحيد القادة العرب في دعم وتأكيد دور العمل الفدائي الفلسطيني في تحرير
أرضه المسلوبة.. يختفي عبدالناصر, في مساء ٢٨ أيلول/سبتمبر ١٩٧٠م.
رحل زعيم الأمة العربية جمال عبدالناصر، القائد العربي المناصر
لحركات التحرر والأحرار في العالم.
وفي مسيرة الوداع التاريخية الوطنية والقومية والأممية، يوم
الجنازة الشعبية المهيبة للزعيم، شعرنا نحن أبناء جيل عبدالناصر، بأننا أصبحنا في
العراء بعد أن كنّا نحتمي ونستظل بتلك الخيمة الكبيرة الضخمة التي كانت تحمي آمال
وطموحات العرب من المحيط الأطلسي وأعالي قمم جبال الأوراس في المغرب العربي، حتى
الخليج العربي وقمم جبال زاكروس في العراق والأحواز، في شرق الوطن العربي، ومن
شمال سهول الشام ونهري دجلة والفرات إلى اليمن ووديانه من جنوب الجزيرة العربية
وغابات السودان وأنهاره. في جنوب الوطن العربي، كان عامود الخيمة العربية الكبرى
يرتكز في وادي النيل العظيم، ضارباً بجذوره في قدم الحضارة الإنسانية، بغياب
الزعيم عبدالناصر، غاب معه هذا العامود الشامخ للأعالي الذي كانت ترتكز عليه خيمة
العرب الكبرى التي كانت تحمينا من الأخطار التي تحيط بِنَا وتهددنا، والتي تضمن
تحقيق طموحاتنا وأحلامنا. غاب عنا شخص الزعيم عبدالناصر.
أما اليوم ١٥ كانون الثاني/يناير ٢٠١٨م في الذكرى المئوية لميلاد
الزعيم جمال عبدالناصر منذ ١٥ كانون الثاني/يناير ١٩١٨م. مطالبون أي الجيل الجديد
من أبناء جيل عبدالناصر، أن نعمل ومن اليوم، على إعادة بَعث روح الزعيم عبدالناصر،
من خلال الدعوة إلى إحياء المبادئ والأهداف التي ثار من أجلها وعمل على تحقيقها،
والتي ضحى ومات من أجلها، انها مبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة العربية، لقد جسد
الزعيم عبدالناصر، وفصل مفهوم تلك المبادئ الثلاثة الكبرى لأمتنا العربية.
في وثيقة ميثاق العمل الوطني الذى قدمه للمؤتمر الوطني لممثلي
القوى الشعبية لتحالف الشعب العامل، في ٢١ أيار/مايو ١٩٦٢م وكما هو معلوم فإن
الميثاق مكون من عشرة أبواب، وقد تضمن الباب الثاني. ((في ضرورة الثورة)) ما نصه:
((لقد أثبتت التجربة، وهي ما زالت تؤكد كل يوم، أن الثورة هي
الطريق الوحيد الذي يستطيع النضال العربي أن يعبر عليه من الماضي إلى المستقبل،
فالثورة هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها الأمة العربية أن تخلص نفسها من
الأغلال التي كبلتها، ومن الرواسب التي أثقلت كاهلها؛ فإن عوامل القهر والاستغلال
التي تحكمت فيها طويلاً، ونهبت ثرواتها، لن تستسلم بالرضا، وإنما لا بد على القوى
الوطنية أن تصرعها، وأن تحقق عليها انتصاراً حاسماً ونهائياً، والثورة هي الوسيلة
الوحيدة لمغالبة التخلف الذي أرغمت عليه الأمة العربية؛ كنتيجة طبيعية للقهر
والاستغلال؛ فإن وسائل العمل التقليدية لم تعد قادرة على أن تطوي مسافة التخلف
الذي طال مداه بين الأمة العربية وبين غيرها من الأمم السابقة في التقدم، ولا بد
والأمر كذلك من مواجهة جذرية للأمور؛ تكفل تعبئة جميع الطاقات المعنوية والمادية
للأمة لتحمل هذه المسؤولية.
والثورة بعد ذلك هي الوسيلة الوحيدة لمقابلة التحدي الكبير الذي
ينتظر الأمة العربية، وغيرها من الأمم التي لم تستكمل نموها، ذلك التحدي الذي
تسببه الاكتشافات العلمية الهائلة، التي تساعد على مضاعفة الفوارق ما بين التقدم
والتخلف؛ فإنها بما توصلت إليه من المعارف تيسر للمتقدمين أن يكونوا أكثر تقدماً،
وتفرض على الذين تخلفوا أن يكونوا بالنسبة إليهم أكثر تخلفاً؛ برغم كل ما قد
يبذلونه من جهود طيبة لتعويض ما فاتهم.
إن الطريق الثوري هو الجسر الوحيد الذي تتمكن به الأمة العربية من
الانتقال بين ما كانت فيه وبين ما تتطلع إليه.
والثورة العربية أداة النضال العربي الآن، وصورته المعاصرة تحتاج
إلى أن تسلح نفسها بقدرات ثلاث تستطيع بواسطتها أن تصمد لمعركة المصير التي تخوض
غمارها اليوم، وأن تنتزع النصر محققة أهدافها من جانب، ومحطمة جميع الأعداء الذين
يعترضون طريقها من جانب آخر، وهذه القدرات الثلاث هي:
أولاً: الوعي القائم على الاقتناع العلمي؛ النابع من الفكر
المستنير، والناتج من المناقشة الحرة التي تتمرد على سياط التعصب أو الإرهاب.
ثانياً: الحركة السريعة الطليقة التي تستجيب للظروف المتغيرة التي
يجابهها النضال العربي؛ على أن تلتزم هذه الحركة بأهداف النضال وبمثله الأخلاقية.
ثالثاً: الوضوح في رؤية الأهداف، ومتابعتها باستمرار، وتجنب
الانسياق الانفعالي إلى الدروب الفرعية التي تبتعد بالنضال الوطني عن طريقه، وتهدر
جزءاً كبيراً من طاقته.
وإن الحاجة إلى هذه الأسلحة الثلاثة تستمد قيمها الحيوية من الظروف
التي تعيشها التجربة الثورية العربية، وتباشر تحت تأثيراتها دورها في توجيه
التاريخ العربي.
إن الثورة العربية مطالبة اليوم بأن تشق طريقاً جديداً أمام أهداف
النضال العربي. إن عهوداً طويلة من العذاب والأمل بلورت - في نهاية المطاف - أهداف
النضال العربي ظاهرة واضحة، صادقة في تعبيرها عن الضمير الوطني للأمة؛ وهي الحرية
والاشتراكية والوحدة، بل إن طول المعاناة من أجل هذه الأهداف كاد أن يفصل مضمونها
ويرسم حدودها.
لقد أصبحت الحرية الآن حرية الوطن وحرية المواطن، وأصبحت
الاشتراكية وسيلة وغاية.. هي الكفاية، والعدل، وأصبح طريق الوحدة هو الدعوة
الجماهيرية لعودة الأمر الطبيعي لأمة واحدة مزقها أعداؤها ضد إرادتها وضد مصالحها،
والعمل السلمي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثم الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة
والعمل معاً.
لقد كانت هذه الأهداف نداءات مستمرة للنضال العربي، ولكن الثورة
العربية الآن تواجه مسؤولية شق طريق جديد أمام هذه الأهداف، والحاجة إلى طريق جديد
لا تصدر عن رغبة في التجديد لذاته، ولا تصدر بدافع الكرامة الوطنية، وإنما لأن
الثورة العربية تواجه ظروفاً جديدة، ولا بد لها في مواجهة هذه الظروف الجديدة أن
تجد الحلول الملائمة لها؛ ومن ثم فإن التجربة الثورية العربية لا تستطيع أن تنقل
ما توصل إليه غيرها، ومع أن خصائص الشعوب، ومقومات الشخصية الوطنية؛ تفرض خلافاً
في منهاج كل منها لحل مشاكله، إلا أن الخلاف الأكبر هو ما تفرضه الظروف المتغيرة
التي تسود العالم كله وتحكمه؛ خصوصاً هذه التغييرات البعيدة المدى التي طرأت على
العالم بعد الحرب العالمية الثانية من سنة ١٩٣٩ إلى ١٩٤٥، إن هذه الظروف تأتي
بتغييرات شاملة وعميقة على الجو الذي يجري فيه النضال الوطني لكل الأمم، وليس معنى
ذلك أن النضال الوطني للشعوب، وللأمم مطالب اليوم بأن يخترع مفاهيم جديدة لأهدافه
الكبرى؛ ولكن معناه أنه مطالب اليوم بأن يجد الأساليب المسايرة لاتجاه التطور
العام، والمتفقة مع طبيعة العالم المتغير.
إن أبرز التغييرات التي طرأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
يمكن تلخيصها في ما يلي:
أولاً: تعاظم قوة الحركات الوطنية في آسيا وإفريقيا وأميركا
اللاتينية؛ حتى استطاعت هذه الحركات أن تخوض معارك عديدة ومنتصرة ضد القوى
الاستعمارية، ومن ثم أصبح لهذه الحركات الوطنية تأثير عالمي فعال.
ثانياً: ظهور المعسكر الشيوعي كقوة كبيرة يتزايد وزنها المادي
والمعنوي يوماً بعد يوم في مواجهة المعسكر الرأسمالي.
ثالثاً: التقدم العلمي الهائل الذي حقق طفرة في وسائل الإنتاج؛
فتحت آفاقاً غير محدودة أمام محاولات التطوير، كما أنه حقق طفرة في أسلحة الحرب؛
بلغت خطورتها إلى حد أنها أصبحت رادعاً يحول دون نشوبها؛ بسبب ما تقدر على إلحاقه
من الأهوال بجميع الأطراف في أي معركة، هذا فضلاً عن التغيير الأساسي المذهل الذي
حققه هذا التقدم العلمي في وسائل المواصلات؛ لدرجة أن تلاشت المسافات وسقطت
الحواجز، التي كانت تفصل ما بين الأمم فعلياً وفكرياً.
رابعاً: نتائج هذا كله في محيط العلاقات الدولية، وأهمها زيادة
تأثير القوى المعنوية في العالم؛ كالأمم المتحدة والدول غير المنحازة، وقوة الرأي
العام العالمي، وفي الوقت نفسه اضطرار الاستعمار تحت هذه الظروف إلى الاتجاه نحو
وسائل العمل غير المباشر؛ عن طريق غزو الشعوب، والسيطرة عليها من الداخل، وعن طريق
التكتلات الاقتصادية الاحتكارية، وعن طريق الحرب الباردة التي تدخل في نطاقها
محاولة تشكيك الأمم الصغيرة في قدرتها على تطوير نفسها، وعلى الإسهام الإيجابي
المتكافئ في خدمة المجتمع الإنساني.
إن هذه التغييرات الضخمة في العالم تأتي معها بظروف جديدة تؤثر
تأثيراً لا جدال فيه على العمل من أجل أهداف النضال الوطني لكل الأمم؛ بما فى ذلك
أهداف الأمة العربية، وإذا كانت أهداف النضال العربي هي الحرية والاشتراكية
والوحدة؛ فإن التغييرات العالمية حملت تأثيرها إلى وسائل العمل من أجلها، بتفاعل
هذه التغييرات العالمية مع إرادة الثورة الوطنية.. لم يعد أسلوب المصالحة مع
الاستعمار ومساومته هو طريق الحرية؛ فإن الشعب العربي في مصر تمكن من أن يحمل
السلاح بنجاح في بورسعيد؛ دفاعاً عن الحرية، واستطاع أن يحقق سنة ١٩٥٦ انتصاراً
حاسماً ما زالت تتردد أصداؤه.
كما تمكن الشعب العربي في الجزائر من مواصلة الحرب المسلحة أكثر من
سبع سنوات؛ إصراراً على الحرية؛ كذلك فإن العمل الاشتراكي لم يعد حتماً عليه أن
يلتزم التزاماً حرفياً بقوانين جرت صياغتها في القرن التاسع عشر.
إن تقدم وسائل الإنتاج، ونمو الحركات الوطنية والعمالية في مواجهة
سيطرة الاستعمار، والاحتكارات، وازدياد فرص السلام في العالم بتأثير القوى
المعنوية، وبتأثير ميزان الرعب الذري في الوقت نفسه؛ يخلق ظروفاً جديدة أمام
التجارب الاشتراكية تختلف تماماً عن الظروف السابقة، بل إنها تستوجب هذا الاختلاف
وتحتمه كضرورة؛ والأمر كذلك في تجربة الوحدة، فإن النماذج السابقة لها في القرن
التاسع عشر، وأبرزها تجربة الوحدة الألمانية، وتجربة الوحدة الإيطالية، لم تعد
تقبل التكرار.
وإن اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليسا مجرد تمسك
بأسلوب مثالي في العمل الوطني، وإنما هو فوق كل ذلك ومعه ضرورة لازمة للحفاظ على
الوحدة الوطنية للشعوب العربية في ظروف العمل من أجل الوحدة القومية للأمة العربية
كلها، وضد أعدائها الذين ما زالت قواعدهم على الأرض العربية ذاتها؛ سواء كانت هذه
القواعد في قصور الرجعية المتعاونة مع الاستعمار لضمان مصالحها، أو كانت في
مستعمرات الحركة العنصرية الصهيونية التي يستخدمها الاستعمار مراكز للتهديد
العسكري.
والثورة العربية وهي تواجه هذا العالم لا بد لها أن تواجهه بفكر
جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة؛ يقيد بها طاقته، وإن كان في الوقت نفسه لا
ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها. إن التجارب
الاجتماعية لا تعيش في عزلة عن بعضها، وإنما التجارب الاجتماعية كجزء من الحضارة
الإنسانية تعيش بالانتقال الخصب وبالتفاعل الخلاق. إن مشعل الحضارة انتقل من بلد
إلى بلد، لكنه في كل بلد جديد كان يحصل على زيت جديد يقوى به ضوؤه على امتداد
الزمان، وكذلك التجارب الاجتماعية.. إنها قابلة للانتقال، لكنها ليست قابلة لمجرد
النقل، قابلة للدراسة المفيدة، لكنها ليست قابلة لمجرد الحفظ عن طريق التكرار،
وهذه أولى مسؤوليات القيادات الشعبية الثورية للأمة العربية، ومعنى ذلك أن هذا
العمل الثوري الطليعي لابد أن تتحمل القسط الأكبر منه القيادات الشعبية الثورية في
الجمهورية العربية المتحدة؛ التي فرضت عليها الظروف الطبيعية والتاريخية مسؤولية
أن تكون الدولة النواة في طلب الحرية والاشتراكية والوحدة للأمة العربية.
إن هذه القيادات الشعبية مطالبة الآن أن تتأمل تاريخها، وأن تنظر
إلى واقع عالمها، ثم تقدم على صنع مستقبلها واقفة في ثبات على أرضها)).
وعلى ضوئه، نحن الجيل العربي الجديد من أمتنا العربية المجيدة، سوف
نتعهد بإعادة قراءة ميثاق العمل الوطني، برؤية استقرائية مستقبلية، مستلهمين من
روح الزعيم عبدالناصر؛ فكرة إعادة إنبثاق التيار العروبي التقدمي الوحدوي. وأن يظل
عبدالناصر، زعيماً مفكراً، ورائداً ملهماً لمسيرتنا المستقبلية
تزامناً بمشاركتنا في الذكرى المئوية لميلاد الزعيم عبدالناصر.
كان عبدالناصر الزعيم الوطني والقومي لأمتنا العربية.. وأصبح
عبدالناصر زعيمنا الملهم لأفكارنا وأحلامنا العربية
0 تعليقات