بقلم/ عبد الحليم قنديل
السبت ١٧ يونيو ٢٠٢١
ربما لن تتوقف أصوات بعينها عن إثارة لغط ، وضرب أخماس فى أسداس عن
توقيت التقويض المصرى لخطر السد الأثيوبي ، وقد لا يهتم هؤلاء ولا ذبابهم الإلكتروني
ولا "فيديوهاتهم" الساذجة بمصير مصر ولا بحساب النيل ، هم فقط يتصورونها
فرصة لإحراج النظام المصرى ، برغم فشل ألف رهان ورهان سبق ، ولا أحد عاقل يلتفت
إلى خزعبلات جنرالات المقاهى "السيبرانية" ، فقضية النيل أكبر من أى
نظام ، ولا يملك حاكم ترف ولا نزق التفريط فى قطرة واحدة من مياه النيل ، ولم
يفعلها أحد وراح سليما على طول التاريخ المصرى الألفى السنين ، فلمصر شعبها وجيشها
العظيم ، وعقيدة مصر الوطنية الجامعة فوق اعتبارات السياسة المتغيرة .
ونظن ، وليس كل الظن إثما ، أن القرار الأساسي جرى اتخاذه من زمن،
وبتفاصيله وخططه وبدائله ولوجستياته ، وأن الضربة محتومة ، حتى وإن تحرك بندول
ساعة الصفر إلى أمام أو إلى وراء ، ليس لأن مصر تريد الحرب بطبعها ، فعقيدة مصر
وجيشها دفاعية محضة ، والاعتداء على النيل ـ كما الأرض ـ يمس قدس أقداس مصر ، ولم
يعد من شك عند مصرى وطنى واحد ، مؤيدا كان أو معارضا ، أن أثيوبيا ومن وراء
أثيوبيا ، قد تجاوزوا كل حد مقبول ، بالتعنت والعجرفة وتضييع فرص الحل السلمى ، بل
وإعلان الحرب على مصر ، خصوصا بعد بدء الملء الثانى لخزان السد الأثيوبى ، وبغير
سابق اتفاق ملزم شامل طلبته مصر ومعها السودان ، وقد لا يهم هنا حجم الملء الجارى
، وما إذا كان سيصل بحجم المخزون المائى خلف السد إلى 18 مليار متر مكعب كما هو
معلن ، أو أن أثيوبيا قد تخفق وتملأ أقل ، فلا شئ فى الحالين يعوق الضربة النوعية
المحتومة ، وقد لا يكون من أثر وقتى مباشر على أمن مصر ، ولا على مواردها المائية
، لا فى هذا العام ، ولا فى أعوام تليه ، ولسبب معروف ، هو قدرات مصر الهائلة فى
التخزين المائى ، ببركة سدها العالى ، ومشروعات كبرى أضيفت إليه فى السنوات
الأخيرة ، وكلها قدرات مجربة من قبل ، وبالذات فى سنوات جفاف منابع النيل بين عامى
1979 و 1987 ، وقتها ضربت أثيوبيا عوارض جفاف مريع ، لم يحس بها أحد فى مصر عند
مصب النيل النهائى ، لكن أثيوبيا وقتها ، لم تكن أقامت سدودا من نوع السد المشئوم
، الذى يفترض أن تصل طاقة تخزينه الكاملة إلى 74 مليار متر مكعب ، مع خطط لإقامة
سدود إضافية من خلفه ، وهو ما ينذر بخطر ماحق على حصة مصر المقررة من مياه النيل ،
ومصر كدولة كبرى فى محيطها ، تزيد احتياجاتها المائية الفعلية على ضعف نصيبها من النيل
، البالغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا ، ولا تملك مصر رفاهية انتظار الخطر حتى يقع ،
فلا قيمة لجيوشها ، ولا لتفوقها العسكرى المنظور ، إن لم تدك الخطر فى منابعه ،
وفى توقيت مناسب ، تقدره القيادة المكلفة بحفظ أمن مصر ووجودها ، وبموازنات وعواقب
محسوبة بدقة ، لا تكون بطبيعتها فائقة السرية موضوعا لنقاش علنى مفتوح ، وإن كان
من حق الشعب المصرى طبعا ، أن يقلق لتأخر المواعيد ، وشئ من ذلك جرى فى سنوات
التمهيد لعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973 ، وقد
لا يعنى السد الأثيوبى شيئا ، إذا ما قورن بخط بارليف الأكثر تحصينا فى تاريخ حروب
الدنيا كلها ، والذى جرى تدميره فى ست ساعات لا غير ، وكان الخبراء الروس وقتها ،
يقدرون تيئيسا ، أن تدميره يحتاج إلى قنبلة ذرية (!) ، مع الأخذ فى الاعتبار ، أن
قدرات الجيش المصرى وقتها ، لا تقارن إلى قدراته اليوم ، وأن قدرات الجيش الأثيوبي
البدائى ، لا توضع فى موازين مقارنة عاقلة واردة ، مع قدرات أى جيش محترف، حتى لو
باعهم الآخرون من الروس وغيرهم سلاحا متطورا، فالجيش الأثيوبى قد يحتاج إلى خمسين
سنة مقبلة ، ربما لكى يصل إلى قدرات الجيش المصرى قبل خمسين سنة مضت، على حد تلخيص
مقارن موحى لخبير عسكرى مصرى معروف .
ما نقوله ليس فى مقام الاستهانة بأحد، بل فى مقام الثقة بأننا
نستطيع ، وشعوب أثيوبيا ليست عندنا من حلف الأعداء ، وأغلبها ضحية لقيادة مقامرة ،
تصور لهم أن السد إياه سيجلب الازدهار ، وأن خمسة أو ستة آلاف ميجاوات كهرباء
متوقعة منه ، سوف تضئ بيوت نصف سكان أثيوبيا الغارقين فى الظلام ، بينما لم يسأل
أحد عن مصير عشرات آلاف من "الميجاواتات" ، قالت السلطة الأثيوبية
متباهية ، أنها تنتجها من عشرات السدود المقامة على أنهارها الداخلية ، وعند منابع
النيل نفسه كسد "تكزى" ، ومن دون أن تضئ نصف أثيوبيا المظلم ، بل وجهت
الكهرباء للتصدير مقابل دولارات ، ضاعت مع الريح ، ومن غير تغيير ملموس فى أحوال
شعوب أثيوبيا ، اللهم إلا إلى الأسوأ بامتياز ، فوق أن السلطة الأثيوبية على تعاقب
عهودها ، صارت مشهورة موصومة بخطط السدود الفاشلة ، فقد أقامت فى العقدين الأخيرين
نحو سبعين سدا ، إنهار منها خمسة وأربعون سدا ، والبقية فى الطريق ، وفى انتظار
أشباهها من المئة سد التى وعد بها آبى أحمد رئيس الوزراء الحالى ، الذى يبيع
للأثيوبيين وهما اسمه "سد النهضة" ، تقول كل الدراسات العلمية الرصينة
التى جرت بشأنه ، أنه معرض هو الآخر للانهيار فى أى لحظة ، وأن معامل أمانه لا
يزيد على الواحد ونصف بمقياس ريختر للزلازل ، وأن مكان إقامته خاطئ وخطر لاعتبارات
جيولوجية بركانية وزلزالية ، وأن أساسه الهزيل لا يحتمل ارتفاعه المقرر ، وأن طاقة
تخزينه المبالغ فيها ، ومن دون أى إضافة تذكر لقدرته على توليد الكهرباء ، وكل ذلك
قد يطيح به مع تراكم الطمى ، أو أى فيضان كبير يأتى ، أو مع زلازل واردة ، فى
منطقة شهدت عشرة آلاف زلزال قوى عبر الثلاثين سنة الأخيرة ، وهو ما يضيف إلى خطر
السد الأثيوبى مصائب وكوارث ، فاندفاع المياه المخزنة خلفه عند انهياره المحتمل ،
يحوله إلى قنبلة مائية ، تكتسح السودان بكافة قراه ومدنه وعواصمه على خط النيل ،
ويصل بخطر المحو إلى جنوب مصر أيضا ، وقد امتنعت السلطة الأثيوبية عن تقديم أى
بيانات عن درجة أمان السد وتصميماته ، ورفضت الاحتكام إلى دراسات تجريها مكاتب استشارية
دولية ، فوق تعنتها وإعاقتها الوصول إلى أى اتفاق تفصيلى ملزم يتعلق بملء وتشغيل
السد ، بينما حرصت مصر ومعها السودان على إبداء الحدود القصوى من المرونة ، وصولا
إلى عرض مصر تزويد أثيوبيا بما تحتاجه من الكهرباء ، ووصولا إلى عقد جلستين فى
عامين متواليين لمجلس الأمن الدولى ، لم تنتهيا إلى شئ ذى معنى لردع التعنت
الأثيوبى ، ومن دون أن تتوقع مصر شيئا آخر ، ولا أن تثق فى العودة لمفاوضات عبث
بلا نهاية ، استهلكت عشر سنوات بكاملها ، لم يعد لمصر بعدها سوى أن تتصرف بما تراه
، وأن تعد ليوم الحسم ، ولمصلحة الشعبين المصرى والسودانى ، ولمصلحة شعوب أثيوبيا
ذاتها .
نعم ، المهمة المطروحة على الدولة المصرية اليوم ، ليست فقط فى
إخراج السد الأثيوبى من الخدمة ، والعودة بقصته إلى نقطة الصفر قبل عشر سنوات مضت
، بل ربما تصل القصة إلى ما هو أبعد ، وإلى تقويض الخطر الأثيوبى من منابعه الأصلية
، وليس قصة أجنحة الخطر عند منابع النيل وحدها ، فالقضية أكبر من حفظ موقوت لمياه
النيل على ضروراتها الحياتية والوجودية ، وأكبر من مصير النيل ، الذى لا يحفظه على
المدى الطويل ، سوى موازين استراتيجية جديدة ، وتقويض سجن الشعوب المسمى
"أثيوبيا" ، وفيه عشرات القوميات والأعراق الأسيرة ، انفصل بعضها وتحرر
كإريتريا من عقود ، وشارفت قومية "التيجراى" على الانفصال والتحرر هى
الأخرى ، بعد أن هزمت وأذلت جيش آبى أحمد ، وتصاعدت بنوبات الغضب والتمرد المسلح
على قومية "الأمهرة" الحبشية ، التى لا يزيد عددها على العشرين مليون
نسمة ، يتحكمون فى مصائر وأقدار مئة مليون آخرين من قوميات حبيسة ، بينها قومية
"الأورومو" التى تمثل ثلث سكان أثيوبيا بكاملها ، وغالبيتهم الكبرى من
المسلمين المتمردين على سلطات "آبى أحمد" وجماعة "الأمهرة" ،
فوق تصاعد هجمات المقاومة المسلحة فى إقليم "بنى شنقول" المقتطع تاريخيا
من أراضى السودان ، والمقام على أرضه سد الخراب ، وقد لا تكون الحكومة المصرية
مهتمة بانفجارات الداخل الأثيوبى ، وإن كان لا شئ يصح أن يبقى على مبعدة من أيادى
الضربة المحتومة .
0 تعليقات