صبحى شحاته
نادية.. فتاة جميلة موظفة في شركة، تصادف أن ذهبت إلي الأوبرا،
وحدث فجأة أنها عطست ورش رزاز العطسة رأس مدير الشركة التي تعمل بها، والذي كان
جالسا قبالتها في الصف الأمامي مباشرة، فالتفت باسما، لكنه لما شاهد أن الفاعل
فتاة صغيرة جميلة، وأنه يمكن أن ينالها هو النمر بسهولة، لأنها ظبية شردت من
القطيع، الذي يرعاه، فهي موظفة لديه، في الشركة. كشر عن أنيابه مظهرا الغضب
والاستياء من فعلتها، فخافت من أن يؤدي هذا، إلي رفدها من عملها، فهو المدير، سيد
المصائر، وفي مكان القيم الإنسانية العليا القديمة، التي انهارت الآن وتحولت فجأة
إلي سلطة أرضية، ينبغي دوما إرضاءها، وعدم مخالفتها أبدا ولو حتي صدفة.
هكذا انتظرته نادية أمام عربته المرسيدس، أو سفينة نوح العصرية
التي تحمله بعيدا عن الغرقي، لتعتذر له حال خروجه من قاعة الأوبرا مع رهط من
منافقيه الأقوياء ليس بذاتهم، وإنما بنقاقهم لكل سلطة، لكنه لما رآها تنتظر علي
الطوار الهامشي المهمل القلق، تتلاطم من تحتها وحولها الأمواج تلطشها وتغرقها، لم
يرفق بها طبعا، وإنما وخذها بذات النظرة الوحشية المفتعلة، وهو يمسح صلعته، فيما
يركب العربة الفاخرة، أو ماكينة السلطة داهسة الضعفاء من أمثالها، ليذكرها بأنه
يعرفها، ولن ينسي فعلتها أبدا، وعليها أن تنتظر العقاب، فهو لا يتهاون في مس ذاته
الإلهية، ولو عن غير قصد، بل خصوصا عن غير قصد وانتباه، لجلال قدره المقدر عليها
وأمثالها من الهاموش الأرضي، فليس هو الجنرال القديم شيرتسالوف/ تشيكوف، الذي
يسامح ويقدر ويتفهم الخطأ الإنساني غير القصدي، إنه ذئب عجوز صياد، يعرف أن الضحية
مذنبة، وعليها التقاط الطعم، وأنها آتية لا محالة إلي عرينه، فشدد عليها الخناق
أكثر.
*
إن قصة" موت موظف" لأنطون تشيخوف، تمتح من البئر الغامضة
المسماة إنسان القرن التاسع عشر، والعشرين، في أوروبا، وروسيا تحديدا، إذ أنها
تنفتح علي شخص أقل ما يقال عليه مفرط الحساسية، إفراط كل من يؤمن بالقيم الإنسانية
العليا المجردة، التي لا يطالها تغير ولا تبديل، تقف شامخة فوق لحاظ الزمن
والتاريخ، غامضة في نقاء إلهي، ويتبعها تبعية، رغم كل أخطاءه، بل أن أخطاءه تلك،
ما هي إلا ناتج المسافة المستحيلة بين الواقع والمثال، تغذي هذه المسافة نفسها بالأخطاء
البشرية الجزئية، لتظل هذه القيم مرفوعة في نقاء مطلق، فوق الإنسان ذاته، رغم أنه
مخترعها.
إن كريكوف بطل قصة موت موظف لأنطون تشيكوف إنسان مفرط في
الإنسانية، ومن ثم هو نموذج ناصع للاضطراب المرضي الناتج عن أتباع نموذج أعلي جاهز
للإنسان، لا يتحقق أبدا في الواقع، لأنه لو تحقق إن تحقق، فلن يكون أعلي طبعا! ومن
ثم، لن يتبعه أحد.
إن كريكوف أخيرا مريض بالوسواس القهري، يريد النظافة المطلقة، لذا
هو متشكك بالمطلق في سلوكه الناقص أبدا، وسلوك الآخرين كذلك، فلا يراه سلوكا
نموذجيا خالصا، وإنما هو سلوك مشوب بالخطأ وسوء الظن، ولا يمكن لكريكوف التنازل عن
رأب الصدع، وتقريب المسافة، حتي ولو كان الثمن هو الموت ذاته.
إننا مع كريكوف نقف أمام موت إنسان النقاء والقيم المطلقة العالية
في سماءها الأفلاطونية، إنسان القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين،
ذلك أن الحدث الواقعي المفاجيء الذي هو العطسة، لم يتقبله كريكوف إلا بتبرير إنه
حدث طبيعي، ومن حق كل إنسان العطاس، لكنه لم يقبل رد فعل الجنرال شيرتسالوف الذي
رغم أن رد فعله طبيعي، وبالغ التهذيب والاحترام والتفهم، لكن هذا لم يعجب كريكوف
أبدا، ذلك الذي كان يريد ردا نموذجيا يليق بالقيم الإنسانية العليا، تلك التي
يتصورها في رأسه دون التصريح بها.
بل أننا لو ذهبنا في التصور إلي أن رد فعل الجنرال علي العطسة التي
بللت رأسه فجأة، كان ردا محبا رومانسيا، فأخذ مثلا بعناق كريكوف بحميمية، وقال له
أن هذه العطسة تكريم له، وفضل، ومنة عليه، كما يمكن أن يفعل أحد شخصيات دوستويفسكي
مثلا.. لما قبل هذا الرد كريكوف، ولاعتبره سخرية منه، ذلك ان كريكوف المفرط
المثالية المتطهر، لا يعرف بالضبط في الواقع الأرضي، كيف يتحقق المثال الأخلاقي
السلوكي المثالي، لذا مات كريكوف.. ليظل المثال نقيا خالصا غير مشوب، وليظل
الإنسان مدانا تحته إلي الأبد..
إن قصة موت موظف ملغزة مريضة، بل هي خطأ، لكنه خطأ خبيث، يتجلي
دوما كأنه الصواب التام، وضد كل رد فعل عليه، ذلك أن كل رد فعل علي فعل كريكوف
الرقيق، يكون بالضرورة خشنا وغليظا، ولا يرقي لرد الفعل المثالي أبدا..
*
إن نادية لم تكن تعرف القيم الإنسانية العليا التي قتلت كريكوف
بعطسة! وإنما كانت خائفة علي وظيفتها التي تأكل منها عيشا فحسب، ذلك أن كل طموح
إنسان القرن والواحد العشرين، ليس في الارتفاع إلي العلو المتسامي للإنسانية
الفاضلة الأفلاطونية، وإنما البقاء.. مجرد البقاء علي قيد الحياة!
لذا انحدرت نادية/ الظبية في الشرك، ظنا منها أنه النجاة، وذهبت في
اليوم التالي إلي غرفة المدير السماوية بالشركة، لتواصل الاعتذار عما فعلته دون
قصد! وتنهي السخف هذا كله، كأن لسان حالها يقول: رضينا بالمر، والمر مش راضي بنا..
لكن المر، أو المدير/ السلطة، وضع في كفها ورقة بها عنوان وموعد.
وذهبت إليه.. فله الحق أن يرد عطستها بعطسة كريمة منه.. وهكذا تسلح
المدير للقاء العارم بالفتاة متوسلا بالأدوية الزرقاء والحمراء.. وبعد القبلة
الأولي توقف قلبه.. ومات.
مات كريكوف المثالي، لكن قرينته نادية لم تمت، لأنها ليست حية
أصلا!!وإنما الذي مات هو القرين الرديئ للجنرال شيرتسالوف، أي المدير المتصابي طفل
السلطة المدلل، حيث ظن بالمطلق، أن الشرك معد لنادية الهامشية، فإذا به يجده شركه
الذي أودي به إلي حتفه..
إن عطسة أنطون تشيكوف الأرضية المفاجئة، هدمت إنسان المثالية
المحلقة القديم- الذي ثارت عليه أوروبا كلها فيما بعد وفككته إلي اللاشيء- وحولته
العطسة التشيكوفية إلي ضحية لتصوراته العليا المحنطة، كشواهد القبور.
بينما عطسة روبير الفارس كانت بداية هدم وانزلاق قيم السلطة النهمة
الطماعة التي تعيش علي خوف الآخرين منها. وهو هدم عشوائي بالصدفة.. غير معد له..
ولا مخطط.. سقوط طبيعي.. مجرد عطسة.
بالتأمل العميق قد لا نجد تحت السطح أيه علاقة بين القصتين، وأن
روبير الفارس ربط بين القصتين، برباط اعتباطي ساخر شكلي هزلي لعبي صدفوي مزاجي..
فكأن قصة روبير عطسة في حد ذاتها. لكنها عطسة لم تأت من فعل الطبيعة، لترش قفي
القيم الانسانية العليا المحنطة، وإنما لتحييها مجددا!! من بعد مواتها، بل ولتنتقم
القيم الانسانية العليا خلالها من الإنسان الساقط في الابتذال والطمع والجشع
السلطوي الميت أصلا وفرعا.
إن هاجس السلطة في المجموعة المكونة من ستة عشر قصة قصيرة، يكاد
يكون مهيمنا علي منظور المجموعة بأكملها، فكل ممثلي السلطة سياسيا أو دينيا الخ..
في القصص، يمثلون ظاهرا القيم الانسانية العليا الفارغة، أما باطنا فيمثلون
الانحطاط والأنانية واستغلال المنصب، الذي يتوارون خلفه لتحقيق رغباتهم الشاذة،
التي ادمنوا عليها وسعوا وراء تحقيقها كذئاب الغابة، بينما الذئاب منهم ببراء.
تضج المجموعة بحس واقعي أرضي يومي عادي مألوف مكتظ بالعطسات التي
لم تعد مفاجئة!! ومحتشد بتفاصيل الحياة والحركة في الشوارع والمحلات والصيدليات
والكنائس ومباني الصحف، والتفجيرات الإرهابية الخ.. حيث البشر عينات من واقع رديء
سفلي منحط شاذ، بشر حيوانات لم تطور بعد، تحركها الغرائز وتدفعها الشهوات..
بدت اللغة أداتيه خشنة بدائية وعلي عواهنها لا تأنق ولا اختيار،
موصلة للفكرة، وإخبارية، تهمها الحكاية الخارجية المقالية الطابع، وليس تحليلها،
فكأن الباطل بين، والحق بين بذاتهما!! ولا داع للشرح والتعليل والتشكك، الذين هم
أبناء ثقافة النسبي والمنظوري والاحتمالي!! ولا يهمها كذلك تأثير سياق الحوادث علي
الأشخاص من داخلهم، فيبدوا الأشخاص صامتون مسيرون بها وفيها، كأنها أقدار مقدرة
عليهم، حتي لو ماتوا بمتفجرات الارهابيين، داخل مكان عملهم.
وهكذا استطاعت نادية/ كريكوف القرن الواحد والعشرين، أن تتخلص ليس
بالحيلة ولا الذكاء ولا الإرادة، كما فعلت قديما ذات الرداء مع الذئب، وإنما تخلصت
بالصدفة والحظ من المدير الذئب، فكأن عطستها وباء آخر، سحري، انفجار، يضرب في كل
اتجاه، وهو أكثر عمقا وتجزرا من وباء كورونا المستجد، أو أن الأخير أحد تمثلاتها
الطبيعية، حيث صار الوجود الإنساني والطبيعي عطاس قديم، يتناسل في عطاس جديد!!
0 تعليقات