رأفت السويركى
ينبغي قراءة الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية المصري سامح شكري
أمام جلسة مجلس الأمن الدولي يوم الخميس التاسع من يوليو/ تموز2021 باهتمام شديد
وتركيز كبير، وببرود انفعالوي؛ لأن هذا الخطاب يتوج نموذج ذروة سيناريو ما يمكن
تسميته في سياق العلوم السياسوية "الاستراتيجية الناعمة". وهي النمط
الذي يُضمر "مختبئ القوة الخشنة".
وهذا النسق الدبلوماسوي المثير للالتباس لدى نمط تفكير التلقي
الشعبوي الجامع حتى للعديد من فصائل النخب المصرية غير القادرة على القراءة
الجديدة للواقع؛ يثير ردود انفعالات بلغت من الحمق مداها؛ إذ تأتي كاشفة لظاهرة
انفصال هذه النخب عن مناخات العالم الاتصالوي الذي جعل الدنيا كلها قرية صغيرة؛
وهو ما يدل على أن هذه النخب المصرية بالتحديد بعيدة كما يقال بُعْد
الْمَشْرِقَيْن عن متغيرات النهج الدبلوماسوي؛ وتطورات نمط معالجة أو "إدارة
الأزمات"؛ وسيناريوهات "الإدارة بالأزمة"؛ وسيناريوهات "إدارة
الأزمة".
خطاب سامح شكري أمام جلسة مجلس الأمن الدولي كان يتوج إبراز نمط
"الإستراتيجية الناعمة" التي تتميز بها الدولة المصرية الراهنة؛ والتي
قامت بتوظيفها في كافة "الصراعات الحمائية" لمجالاتها الحيوية في البر
والبحر والجو؛ بناء على معايير ومرتكزات "قوتها الخشنة الكامنة" والتي كانت
محكومة بخطابات قصيرة العبارات من نوعية: "مسافة السكة"؛ و"خط
أحمر"؛ و"لن نفرط في نقطة ماء واحدة".
وهذه "الاستراتيجية السياسوية الناعمة" التي تلتزم بها
الدولة المصرية الراهنة؛ في الوقت الذي لا تلقى فيه الرِّضاء والقبول من بعض فصائل
النخب مزيفة الوعي بمربعاتها السياسوية العقدوية (جماعة حسن الساعاتي البناء)
والإيديولوجية (شرائح من المتمركسين) والوظيفوية ( جمعيات المتنشطين الدولاريين)؛
فهي تعني أنها فقيرة الإدراك للتحولات البنيوية لهيكل الصراعات على الموارد في
العالم؛ وتكشف مدى عجزها عن الإدراك الذكي الذي تبرزه مخازن التفكير والقرار لدى
الدولة المصرية.
إن الخطاب السياسوي المُشْهر من الدولة المصرية حول قضية "سد
برهة الأشرم" في الحبشة المروج له تضيلاً باسم "سد النهضة"؛ والذي
وصل إلى قمة آدائه الاحترافوي في عالم السياسة الجديد؛ بقدر ما يثير الالتباس لدى
النخب المتهافتة الخطاب ومغيبة الوعي؛ يعكس مدى آليات التطور المتحقق في مناهج
استراتيجيات خوض الصراعات المفروضة على الدولة المصرية في حقول سياسات السيادة
والحقوق والمصالح والقوة الذاتية المتهيئة لحماية هذه المنظومة.
ففي الوقت الذي تسلك فيه الدولة المصرية نمطية التصارع وفق الأدوات
الجديدة التي صارت من مستقرات أساليب العولموية الزاحفة في السياسة والاقتصاد
والثقافة؛ لا تزال شرائح كبيرة من النخبتين المصرية والعربية لم تغادر خنادقها
النظرياتية الماضوية المتكلسة؛ ولم تتطور أدواتها في فهم التصارع الراهن.
وحين تتابع جدران النخبة شعبوية التفكير في فضاءات
"فيسبوك" و"تويتر" في مسألة قضية الساعة المتعلقة بـ "سد
أبرهة الأشرم" المعروف بـ "سد النهضة" تكتشف وصول علل هذه النخبة
الهابطة التفكير والوعي لحالات من التردي السياسوي غير المسبوق. وليس لهم غير
التحريض المضاد المباشر بفجاجة للدولة المصرية أو المستتر عبر الدسيسة؛ من دون
الالتزام بالمساندة للوطن في مرحلة ذات حساسية فيما نظامه حقق من المنجزات
الملموسة الكثير.
إن تفكيك خطاب سامح شكري وزير الخارجية المصري أمام "مجلس
الأمن" يقدم التصور المدروس لكيفية قراءة ما أسميه "الإستراتيجية
الناعمة" للدولة المصرية في مرحلة "ما بعد مشروع سيناريو الربيع العبروي
المتصهين" ؛ والذي أفلتت من ربقته تلك الدولة الراسخة بفضل قوة وثبات مؤسستها
العسكريتارية الوطنية العظيمة.
واصطلاح "الاستراتيجية الناعمة" ليس مستعصياً على الفهم
والإدراك من هذه النخبة التي تحركها حساباتها الخاصة المسبقة؛ والتي تتمسك
بأقنعتها القديمة؛ وترفض الاعتراف بالتحولات المنهاجية التي طالت ميادين الآداء
السياسوي في العالم الجديد الذي نعيشه ونندرج في قوانينه.
إن النخبة المصرية والعربية التي تشعل الفضاء الافتراضوي بلطمياتها
وصراخها حول "سد أبرهة الأشرم الحبشوي" ليس من مستهدف لها سوى تلويث
سمعة الدولة المصرية بإدارتها الراهنة؛ أو ما يوصف بالنظام السياسوي الذي يديرها
الآن. ولعل موضوعة هذا السد الذي يحتل موقع "حديث الساعة" الراهنة لا
ينفصل لدى هذه النخبة المتردية عن قضية "تيران وصنافير" و"حلايب
وشلاتين" و"مشروعات إعادة بناء البنية التنموية المترهلة"؛ و...
إلخ.
ومشكلة هذه النخبة الغوغاءوية التي لا تتوقف عن تكرار عبارة
"نضرب السد بطائرة" وكأنهم خبراء عسكريون أنها ـ تلك النخبة ـ لا تريد
أن تخرج من سراديبها ودهاليزها الفكرانية لتعرف أن الخطاب السياسوي العولموي قد
تغيرت مفرداته وموسيقاه التعبيروية وإيقاعاته؛ وغادر نمط "الخشونة السابقة"
والتهديد بالقوة والتدمير والغزو والتفجير؛ أغنية فهد بلان أنموذجاً:" ويلك
ياللي تعادينا ويلك يا ويل/ شف النار تلاقينا بظلام الليل/ حنا للسيف للسيف/.../
وحنا لليل والخيل يا ويل يا ويل يا ويل"!!
إن خطاب سامح شكري الأخير أمام "مجلس الأمن الدولي"
ينبغي أن يخضع لدراسات تفكيك الخطاب باعتباره أنموذجاً تطبيقوياً حيَّاً لنهج
"السياسة الذكية" و"الاستراتيجية المصرية الناعمة".
فاللغة السياسوية المصرية غادرت نهج "حِنَّا للسيف"
وانسربت في طريق "الأشقاء والأحباء"؛ ونسيت أسلوب "سندمركم ونهد
الدنيا فوق رؤوسكم" وتعمقت في نشيد "من حقكم التنمية بل سنشارك معكم في
تحقيقها"؛ ولم تنجرف في ردود الفعل المطلوبة بالتهديد وإشهار العداوة
والزمجرة والتكشير عن الأنياب!
إن اللغة السياسوية المصرية الجديدة تجاه "سد أبرهة الأشرم
الحبشوي أنموذجاً" تكشف حسب موازين القوة الاستراتيجوية قيم الثقة المصرية؛
ومساند الفعالية الميدانية وموروثها التاريخوي وقدراتها المحسوبة بالأوزان
السياسوية العميقة؛ وبالمنطق العلموي والعولموي؛ المتكئ إلى قواعد السياسة الدولية
المستقرة في العالم واستراتيجيات القوة الناعمة للقرن الحادي والعشرين.
وإذا كان الخطاب السياسوي المعمم من فريق "نظام أبرهة الأشرم
الحبشوي" الحاكم يحمل صلفاً كذوباً ومدَّعىً وغوغاؤيةً مفرطةً؛ فهو تعبير عن
التهافت والتداعي الحبشوي غير المستند إلى مقارنة معايير القوى الاستراتيجوية كما
يلي:
- وفق الموازين العسكريتارية (الجيش المصري في المركز الـ 13
عالمياً والأول أفريقياً وجيش أبرهة الأشرم/ الاثيوبي في المركز الـ 47 عالمياً
والـ 8أفريقياً ).
- وحسب معايير "الموقع الجيوسياسوي" في القارة الأفريقية
والربط مع القارات الأخرى يكون الوزن المصري أهم (أوروبا وآسيا وقناة السويس) فيما
الحبشة (افريقيا فقط).
- ومع السمة الحضاروية التي تتميز بها مصر عبر التاريخ تكون متغلبة
مقابل الفقر المماثل لدى الأحباش.
- ووفق معيار الرسوخ الديموجرافي السياسوي للنسيج البشري في مصر
فهو مستقر؛ مقابل الفسيفساء الديموجرافية في دولة الأحباش والمعتمدة على القبائلية
المفككة "الأورومو والأمهرة والتيغراي" إلخ وتنتظرها الحروب الأهلية (
إقليم تيغراي أنموذجاً)!!
ومن هنا يبدو معامل الثقة المصرية عالياً لذلك تستخدم
"الاستراتيجية الناعمة" في إدارة "سيناريو الأزمة" التي كانت
سيناريوهات الربيع العبروي المتصهين من أسباب قيام دولة الأحباش ببناء السد.
ومن مواصفات "الاستراتيجية الناعمة" الخروج بالمشكلة من
"النسق المغلق" المحدود ( طرفا المشكلة) إلى "النسق المفتوح"
وفق مقتضيات العولموية ونمط القوة الناعمة المهيمنة الراهنة؛ لذلك حركت
الدبلوماسية المصرية المشكلة للفضاءات المختلفة: "جامعة الدول العربية"؛
و"الاتحاد الافريقي"؛ و"مجلس الأمن الدولي".
وقد ألتزمت الدبلوماسية المصرية الناعمة بخطاب محدد الثوابت؛ لم
يتغير حسب كل نسق سياسوي انتقلت إليه. ما يعني أن استراتيجيته الحاكمة ليست
عشواءوية؛ وإنما مدروسة؛ ومخطط لها. وإذا كانت مقدماتها معروفة... فإن خاتمتها
محددة وغير منفصلة عنها.
والذكاء المصري الاستراتيجوي بمواصلة نقل مشكلة "سد أبرهة
الأشرم" إلى أعلى هيئة دولية (مجلس الأمن) والمعروفة متغيرات توجهات موازين
القوة به؛ وقد اتضحت من ردود الأفعال المختلفة؛ حيث الاكتفاء بمطالبة الأطراف
لمواصلة التفاوض؛ وعدم التعنت و... و... إلخ مما لا يرضي دولة تعتبر النيل شريان
الحياة لها ولا بديل له. لذلك فإن النتيجة المعلومة مسبقاً بهذه الخطوة هي تحييد
هذه المؤسسة الحاكمة في السياسة الدولية؛ وتقليم أظافرها عن التدخل إذا انتقلت
المشكلة لمربع التطورات العسكريتارية عقب أغلاق الباب الدبلوماسوي وإثبات انقضاء
فعاليته؛ بتعنت حفيد أبرهة الحبشي الأشرم المتصهين "آبي أحمد".
ويكفي الإمساك بالخطوط العامة "المنشورة والمسموعة"
لكلمة سامح شكري أمام مجلس الأمن الدولي لإدراك ملامح قوة "الإستراتيجية
الناعمة المصرية" وهي تتحدد بتركيز شديد في أن:
- 100 مليون مصري يواجهون تهديداً وجودياً.
- مصر ظلت ولا تزال على دعمها لاستقرار إثيوبيا ورفاهية شعبها.
- دولتا المصب (السودان ومصر) باتتا أكثر عرضة لمخاطر سد النهضة في
ظل عدم وجود ضمانات بشأن معاملات أمانه وسلامته الإنشائية.
- دعونا أشقاءنا (الأحباش) الذين نشاركهم ثروات النيل إلى التحلي
بالمسؤولية والاعتراف بترابط وتشابك مستقبل وثروات شعوبنا.
- المنهج الإثيوبي الأحادى يُهدد بتقويض الأمن والسلم فى المنطقة.
- التعنت الإثيوبي سبب الاخفاق المستمر لمفاوضات سد النهضة.
- مصر جاءت إلى مجلس الأمن العام الماضي لتحذر المجتمع الدولي من
خطر سد النهضة الإثيوبي الذي لاح في الأفق.
- الجنوح (الحبشي) لفرض الأمر الواقع على دولتي المصب (مصر
والسودان) تحد سافر للارادة الجماعية للمجتمع الدولي .
- هذا الوضع لأزمة سد النهضة يمكن أن يعرض الأمن والسلم الدوليين
للخطر.
- لا يوجد أمام مصر بديلًا إلا أن تصون حقها فى الحياة، إذا تضررت
حقوقها المائية.
وهنا نتذكر الكلمة الرسولية الكريمة "رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ
وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"؛ والتي تعني أن الدولة المصرية حددت خطواتها في
سيناريوهات التعامل مع الأزمات الحافة بوجودها بهدوء الصفعة المدوية التي تحيط بها
ابتسامة عريضة إذا غادر ملف" سد أبرهة الأشرم الحبشي" أروقة وزارة
الخارجية المصرية إلى "غرفة عمليات القوات المسلحة المصرية"؛ والتي درست
الملف بما يتناسب مع خصوصية الحالة وشكلت حزام الإحاطة العملياتية في أفريقيا به
بحفظ الله وتوفيقه.
0 تعليقات