آخر الأخبار

شقشقة: أنْ تلاعب نفسك الشطرنجَ وتخسر [1]

 




أحمد عبد الحسين



لو قرأت لباحث يسفّه نتاج أرسطو لأن أرسطو كان يقتني عبيداً وهو أمر يتنافى وشرعة حقوق الإنسان ويخالف الضمير الإنسانيّ السويّ، لعرفتُ فوراً أن هذا الباحث إما قليلُ عقلٍ أو أسوأ: ألعبانٌ يمتهن التهريج.

 

لماذا؟

 

لأن محاكمة شخصية ما، دينيّة أو فكرية أو أدبية، محاكمة أخلاقية أمر متاح وجائز بالتأكيد لكنّ ترحيل هذه الشخصية من أعراف زمنها واختطافها من منظومتها الأخلاقية الغابرة وزجّها في بيئتي ومنظومتي الخاصة وأعرافي ثم محاكمتها وفقاً لما أنا عليه، لا يعدو كونه لعب صبيان لا علاقة له بالفكر.



كان باتاي محقاً حين قال "الأخلاق كثيرة وتملأ كلّ شيء". ولأنها كثيرة فهي متغيّرة وتتنافرُ وتتبدل كلما مرّ زمن. جزء كبير من شعور الإنسانية بعارها يتمثل في تغيّر الأخلاق والأعراف. فما كان يعاش بتلقائية سيصبح غداً عارنا الشخصيّ. خذ مثلاً الفصل العنصريّ في أميركا، كيف كان احتقار السود، قبل خمسين سنة لا أكثر، أمراً يُتعاطى معه مجتمعياً بقدر كبير من التلقائية، ثم ها هو اليوم يشكّل لطخة سوداء في ثوب العالم.

 

وحين يأتي مفكر ما ويناقش فولكنر مثلاً باعتباره عنصرياً عديم الإنسانية لأنه عاش في زمن عنصري ذي أعراف ظالمة ولأنه تكلّم في رواياته عن العبيد، فلن أنظر بعين الجدية إلى هذا المفكر ولما كتبه.



لنبتعد بالزمن قليلاً إلى القرون الوسطى، ولنلتقط فيلسوفاً ونأتِ به إلى زمننا الحاضر ونحاكمه وفقاً لشريعة حقوق الإنسان وحقوق الطفل أو حقوق المرأة "وكلّها نتاج القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين" ثمّ نقاضيه أخلاقياً وفقاً للأعراف التي تشكّل إنسانيتنا الحاضرة، حينها لن تكون المحاكمة عادلة ولن يكون شغلنا بحثاً أو فكراً أو نقداً أو تنويراً بل مجرد استقواء فكريّ لئيم في لعبة صُممت لتكون غير متكافئة.

 

الإنسانية صناعة حديثة جداً، قالها فوكو، هي بنت القرن الثامن عشر، لم تكن قبل هذا التاريخ شيئاً مذكوراً، لم يحدث قبلها أن أطلق لفظ الإنسانية وقُصد به ما نقصده اليوم. وشرعة حقوق الإنسان أحدث منها، هي نتاج تربيتنا الحديثة التي غيّرت أعرافنا وأخلاقنا. وما من زمن تسارع فيه تغيّرُ الأخلاق والأعراف كزماننا الحالي، بفعل وسائل التواصل وتسارع تقدّم العلوم الإنسانية. ومن العبث والظلم أنْ أحاكم نتاجاً فكرياً، دينياً كان أم غير دينيّ بناء على مكتسباتنا الحديثة من الأخلاق وشرائع الحقوق ووفقاً لأعرافنا الجديدة.

 

ثمة بيننا أناس يمتهنون التفكير والنقد الديني، لا شغل لهم في الحقيقة إلا الاشتغال على هذه المفارقة البسيطة الخالية من الابتكار والتي تتمثل في التالي:

 

القبض على النص التراثي والكشف عن المدار الأخلاقي الذي كان يتحرك فيه ثم مقارنته بأخلاقنا الجديدة ليظهر أن النصّ التراثي عديم الأخلاق وفاقدٌ للأهلية الإنسانية.

 

أرأيتم وصفة أسهل من هذه تجعل المرء مفكراً وتنويرياً؟

 

قرأت اليوم نصوصاً "يراد لها أن تكون فكرية نقدية" للكاتب ميثاق العسر، كلّها تشتغل على التقاط نصوص دينية "قرآن وأحاديث" تتعاطى مع مواضيع العبيد والجواري وتصف أحكامهم آنذاك مستنتجاً "أو تاركاً الاستنتاج لغضب القارئ" أن هذه النصوص تفتقر للأخلاق السويّة "أي لأخلاقنا" وتتنافر مع الأعراف الحقة "أعرافنا الحالية" وتخلو من الإنسانية "إنسانيتنا التي اصطنعناها بعارٍ تلو عار تلو عار في عمل لن ينتهي قريباً".

 

أيّ شيء هذا من الفكر والتنوير؟

 

الصدمة التي يخلقها في ذهن قارئه حين يقول مثلاً إن الإمام الصادق كان يملك الإماء أو أن أغلب أمهات الأئمة كنّ جواري، هي صدمة مفتعلة، صدمة خلّب لأنها تعتاش على هذه المقارنة الغُفل بين وعاءٍ أخلاقي قديم كانت حيازة العبيد فيه أمراً تلقائياً ووعاء أخلاقيّ جديد يستقبح هذا الأمر. قوّة العسر هنا ليست في تفكيره ولا في "اكتشافاته" الخارقة بل في كونه يعيش الآن ويخاطب قراء يعيشون الآن في القرن الحادي والعشرين داعياً إياهم إلى السخرية من زمن ما قبل شرعة حقوق الإنسان.

 

قضيت ساعتين وأنا أقرأ الرجل ولم أجد سوى هذا الاشتغال المضحك "والسهل"، وفكرتُ في جمهرة "مفكرين" لا شغل لهم إلا هذه المفارقة، وأن قوتهم كلها تتمثل في تسلّطهم على النص التراثي بقوة الأخلاق الجديدة وشرعة حقوق الإنسان فيبدون في نظر الآخرين ممتلئين جرأة وتنويراً بينما هم في الحقيقة اختاروا الطريق الأسهل والأكثر إضحاكاً: يلاعبون أنفسهم الشطرنج ويفرحون حين ينتصرون.


ما أسهل أن يكون المرء تنويرياً في بيئة لا تعرف ما التنوير.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات