نصر القفاص
فتح "آل روتشيلد" خزائنهم للخديوى "إسماعيل"
ليحصل على ما يريد من ديون.. بعدها راح "ناثان روتشيلد" المقرب من
"بنيامين دزرائيلى" رئيس وزراء انجلترا, يمارس كل ألوان الإقناع عليه
لشراء أسهم قناة السويس.. ثم قلب الإقناع إلى إغراء بأن قدم للحكومة البريطانية
قرضا قيمته أربعة ملايين جنيه استرلينى عام 1875 لتمويل هذه الصفقة.
التفاصيل تضمها دفتى كتاب "آل روتشيلد" الذى صاغه المؤرخ
البريطانى "جون ريفز" وأضاف إليها أنهم قدموا 80 مليون جنيه استرلينى
لتمويل حرب القرم.. كما ذكر أن "ليونيل روتشيلد" عمل كمستشار تمويل
وممول للحكومة الروسية لمدة عشرين عاما.. وذكر أن "ناثان ماير" حفيد
"ناثان الأكبر" نال عضوية مجلس اللوردات البريطانى, ثم أصبح محافظا
للبنك المركزى فى بريطانيا – بنك أوف انجلند – واعتبارا من هذه اللحظة تكونت
الشبكة المصرفية فى العالم.. وبعد ضربة تأميم شركة قناة السويس, تم إخراج ملف
النظام المصرفى "اللقيط" المعروف باسم "الأوف شور" من
الأدراج.. وكان قد تم اختباره وضمان نجاحه بتجربة مازالت مستمرة فى
"سويسرا" لتتكاثر ماكينات "غسيل الأموال" فى العالم بعد حرب
اكتوبر.. عندما أصبح للبترول قيمة وسعرا!!
ليست مبالغة إذا قلنا أن مصر كانت كلمة السر فى هدم نظام استعمارى,
يوم 26 يوليو 1956.. ومصر كانت كلمة السر حين خاضت حرب اكتوبر 1973, التى شهدت
استخدام البترول كسلاح فى وجه الغرب.. بعدها تم اعتماد "منهج الأوف شور"
الذى جعل من البنك الدولى وصندوق النقد, سلطة فوق أى سلطة لتنفيذ "التنمية
المستدانة" وعودة الاستثمار عبر بوابة "الاحتلال المالى"!
تم تحويل الدفة فى مصر إلى "الحرب على الإرهاب" بزرع
الإرهاب على أرضها, وتولت المهمة الجماعة التى أسستها المخابرات البريطانية –
الإخوان – مع "الجماعات المفقوسة عنها" حتى وصلنا إلى تدشين
"استراتيجية المياه" لتصبح مصر فى عين وقلب العاصفة.. وبدلا من
"جماعة الإخوان" جرى فتح الطريق وتعبيده لجماعة جديدة تأسست فى سنوات
حكم "أنور السادات" الأخيرة, وانطلقت لتعمق جذورها على مدى ثلاثين
عاما.. إسمها "جماعة مبارك" وتضم نخبة تمرست فى تجويد فنون "الأوف
شور" اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا.. دون إهمال ظهير من رجال القانون!!
نسمع.. ونعرف.. الكثير عن "حرب الأفيون" التى اندلعت
بسبب سياسات لورد "إدوارد بولرليتون" وزير المستعمرات الأسبق فى
الإمبراطورية البريطانية.. وستكشف الشهور والسنوات القادمة عن "حرب
الأفيون" فى "أفغانستان" التى كان يرعاها "زلماى خليل
زاد" لتنفيذ استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد
السوفيتى.. ودوره ليس سرا فى كل عواصم الغرب.. لكننا لا نعرف عنه أكثر من أنه المبعوث
الأمريكى ثم الدبلوماسى الذى يتابع إغلاق ملفات شارك فى فتحها.. ذلك يؤكد أن
"الإعلام" يمثل السلاح الأخطر فى العصر الحديث.. ويفسره حجم الإنفاق
الرهيب على الإعلام.. ويبقى أنه هناك فرق بين أن يستخدم السلاح من يفهونه, وأن
يعبث به جهلاء وسفهاء!! ففى الغرب يجيدون استخدام السلاح.. فى أمريكا تحدثك وسائل
الإعلام عن مصادر البيت الأبيض.. مصادر البنتاجون.. مصادر الخارجية.. إلى آخر
قائمة المصادر الرسمية, ويتركون من لديه معلومات أخرى لكى يقولها وينشرها.. المهم
أن تبقى المصادر الرسمية هى الأكثر حرفية.. الأسرع فى التحرك.. القادرة على قلب
الواضح إلى غامض.. بينما "الدعاية" على طريقة "هتلر" والتى
اقترنت باسم وزير دعايته "جوبلز" لم تكن تسمح بمرور غير ما يقوله
الزعيم.. وعلى النهج ذاته سارت السياسات الإعلامية لكتلة الاتحاد السوفيتى قبل
سقوطه وتفكيكه.. واستوعبت "روسيا" الدرس والمنهج, فراحت تمارس نوعا من
الإعلام يأخذ الشكل الأمريكى مع مضمون مختلف تماما.. كذلك تفعل "الصين"
نسبيا!! ولنا أن نتأمل مليارات يتم إنفاقها فى عالمنا العربى على الإعلام, وكلها
تنتهى إلى خدمة "واشنطن" و"تل أبيب" للأسف!!
لا يجوز إطلاقا القول بأن "الأوف شور" مجرد ملاذات آمنة
لحماية من يغسلون أموالا منهوبة أو ناتجة عن تجارة سلاح ودعارة وقمار.. لأن تلك
كانت الصفحات الأولى من المنهج الذى تطور, حتى كاد يفرض نفسه كنظام سياسى واقتصادى
يقوم على تنفيذه جيل سبق إعداده من "خدم الملكية والاستعمار" أولئك
درسوا كتاب "الأخلاق والعقيدة" الذى تركه "البرت بيكى" قبل
وفاته عام 1981.. وخلاصة هذا الكتاب أنه يدربك على قاعدة مهمة.. ليس مهما أن
تفهم.. المهم أن تسهم فى ترويج أفكارنا.. الأكثر أهمية أن تقاتل لأجل ذلك, ليشعر
من يتلقى رسالتك أنك تعتقد فيها.. وأنت تتمتع بالأخلاق حين تتمسك بالدفاع عن كل ما
تقوله!
ستجد شرحا مستفيضا للمعنى فى كتاب "إعترافات قرصان
اقتصادى" لمؤلفه "جون بركنز" عن أول مهمة يقوم بها.. كانت فى
إندونيسيا.. بعد أن يروى أسلوب إعداده للمهمة.. يحدثك بتصوير المشاهد التى لفتت
نظره هناك, فيقول: "فى جاكرتا خلال صيف عام 1971.. رأيت الفاتنات والحدائق
المورقة.. عشت بين راقصات بالى المثيرات, وشاهدت قصور المستعمرين الهولنديين
ومساجد ذات أبراج ومآذن.. وعلى الجانب الآخر كان مرضى الجزام يتسولون.. وفتيات
صغيرات يعرضن أجسادهن مقابل حفنة نقود.. عائلات بأكملها تعيش فى بيوت حقيرة, تحيط
بها روائح كريهة.. كانت جاكرتا ممتزجة بالجمال والقبح.. الأناقة والسوقية..
الروحانيات والفحش.. عشنا فى فندق انتركونتننتال الذى تملكه شركة بان أمريكان..
فندق يرضى ذوق الأثرياء.. وسمعت هناك من جنرال أمريكى, ماحدثنا به من جهد الولايات
المتحدة الأمريكية لإنقاذ هذا البلد من مخالب الشيوعية.. علينا أن نوفر لهم
الكهرباء.. وعليكم العمل للتأكد من أن صناعة البترول فى إندونيسيا قد توفر لها
الكهرباء, لكى تدور عجلات الصناعات المرتبطة بصناعة البترول مثل شركات الملاحة
والموانىء وخطوط الأنابيب وشركات البناء والتعمير.. وكنا مدفوعين بمناصرة السياسة
الخارجية الأمريكية, ومصالح الشركات متعددة الجنسيات.. تذكرت رئيس البنك الدولى –
الحالى وقتها – روبرت ماكنمار الذى انتقل من منصبه كرئيس لشركة سيارات فورد إلى
وزير الدفاع فى عهدى كيندى وجونسون.. ورحت أفكر فى أن أساتذة الاقتصاد الذين
علمونى شىء.. وما يفرضه ماكنمار على الدنيا شىء آخر.. فهذا هو رئيس البنك
الدولى"!!
يأخذك "جون بركنز" فى سياحة فكرية داخل عمق المجتمع
الإندونيسى كما شاهده.. رسم صورة الفقر والجهل والمرض, بقدر ما عرض حياة الأثرياء
والأجانب الذين هبطوا بعد رحيل "سوكارنو" وتولى "سوهارتو" وهو
الدكتاتور الذى نصبته وساعدته الولايات المتحدة الأمريكية.. تمكنت من خلاله من
الإمساك برقبة الاقتصاد ثم أصبح قرارها السياسى فى "واشنطن" واستمر ذلك
لنحو ثلاين عاما.. كان "البنك الدولى" و"صندوق النقد" هما
أصحاب السطوة والنفوذ ورجالهما يحكمون إلى جانب "سوهارتو" الذى غرق فى
الفساد حتى أذنيه.. شاركه الفساد أولاده وأقاربه.. تكسبوا على حساب شعب بأكمله,
كانوا يحدثونه عن التنمية المستدامة – المستدانة – ويعرضون أمامه مشروعات مبهرة
كعنوان للتقدم.. وانتهى الحال "بدكتاتور إندونيسيا" إلى كتابة تنازل عن
الحكم أمام عدسات الصحفيين, وفى حضور مدير البنك الدولى.. غادر البلاد مع عشرات
المليارات التى نهبها, إضافة إلى مليارات أخرى نهبها أولاده وأقاربه.. وانقلب
الحال إلى نشر فضائحه فى الصحف الأمريكية, التى كانت تشير إليه سابقا بزعيم
إندونيسيا القوى الذى صنع تقدمها الاقتصادى!! تلك الصور عرضها مؤلف كتاب "الاغتيال
الاقتصادى للأمم" مع شرح لدوره فى نهب هذه الدولة – كقرصان اقتصادى – يعمل
لحساب البنك الدولى!!
يقول "جون بركنز" نصا: "رحت أفكر فى طبيعة
المساعدات الأجنبية.. أدركت الدور الصحيح الذى تلعبه الدول المتقدمة.. كما يقال فى
البنك الدولى, تجاه تخفيف الفقر والبؤس بالدول النامية وهى الأقل تقدما بحسب
تعبيرات البنك الدولى.. بدأت أشك فيما إذا كانت المساعدات الأجنبية أمرا حقيقيا..
أم أنها مجرد نوع من الجشع وخدمة مصالحنا" ثم يضيف: "رغم أن أولئك
المتربعين على قمة الهرم الاقتصادى الأمريكى يحصلون على معظم الأموال.. فإن الملايين
منا فى الولايات المتحدة الأمريكية يعيشون على استغلال الشعوب النامية.. فالموارد
الطبيعية والعمالة الرخيصة التى تزود أنشطتنا ومشروعاتنا التجارية تقريبا, تأتى من
أماكن مثل إندونيسيا.. بينما أهل إندونيسيا أنفسهم لا يجنون منها غير عائدا بائسا
للغاية.. تضمن قروضنا بقاء أطفال اليوم وأحفادهم رهينة لاحتياجات ومطالب أصحاب
القروض.. سيكون عليهم السماح لشركاتنا العملاقة أن تخرب وتدمر ثرواتهم الطبيعية..
سيكون عليهم أن يشقوا طريقهم, ليتمكنوا من سداد تلك القروض.. والحقيقة أن شركاتنا
قد حصلت على معظم هذه الأموال, لتبنى مجمعات صناعية ومحطات توليد كهرباء ومطارات
فى بلادى"!!
فى "واشنطن" وكل عواصم الغرب.. يمكنك أن تفكر وتقول.
فى عواصم دول "العالم النايم" يكون التفكير جريمة, وأن
تقول رأيا آخر أقرب إلى محاولة الانتحار.. هناك تم بناء مجتمعات تقبل أن تسمع ما
تقبله.. وما ترفضه.. أما دول "التنمية المستدانة" فيتم إعادة صياغة
مجتمعاتها وفق نظام "الأوف شور" الاقتصادى والسياسى, والذى يخلق
"كلاب حراسة" لهذا النظام.. تنبح ضد كل من يحاول كشف خطورة نظام
"الأوف شور" ويمكن أن تنهش لحم الذين يسعون إلى إيقاف دوران هذه العجلة
المجنونة! وسر ذلك يكشفه "جون بركنز" فى كتابه, حين يقول: "لا أصدق
أن الآباء المؤسسين لبلادنا.. الأفراد الذين أقروا الدستور الأمريكى عام 1787, قد
تصوروا أن حق الحياة والحربة والسعادة هو حق للأمريكيين فقط"!!
كانت فى الخمسينات والستينات.. بل حتى الثمانينات.. هناك مقاومة
لتلك المؤامرات, التى يطلقون عليها استراتيجيات أمريكية وغربية.. لكنه مع انفراد
"واشنطن" بأن تكون العاصمة التى تملى إرادتها على الدنيا.. خارت قوى
أنظمة كثيرة فى دول "العالم النايم" وقت أن كانت "روسيا"
تحاول أن تلملم نفسها, وقبل أن ترفع "الصين" الستار عن مشروعها وإنجازها..
وظهرت دول متمردة – كوريا الشمالية وإيران – وبقى عدد قليل من الدول تحاول
المقاومة فى أمريكا اللاتينية.. وظهرت دول تمارس أنظمتها السياسية
"الانتهازية" أملا فى الفوز بكل شىء.. دون أن تدفع أى شىء.. لتكتشف بعد
قليل من الوقت أنها مستباحة لأمريكا وأعدائها!!
سنجد أن "نيكولاس شاكسون" فى كتابه "مافيا الأموال
المنهوبة" يوضح حقيقة مهمة حين يقول: "تظل البلدان النامية, التى لا
تستطيع رؤية تعقيدات الأوف شور المتعمقة على الدوام.. والتى لا تملك خبرة بتلك
التعقيدات.. تستمر فى الانزلاق والتراجع.. ويتاح لنخبها مزيد من الفرص للانتهاكات,
وإفساد الحياة السياسية"!!
يمكننا هنا أن نفكر فى "كلاب الحراسة" وأكثرهم سعارا ذلك
الذى يدخل السجن لصا فاسدا.. ويخرج ليمارس اللصوصية والفساد.. يأخذ وزراء ومحافظين
للسجون, بينما يتم السماح له بأن يصدر صحفا يلعن على صفحاتها اللصوص.. فهو يحمل حصانة
ممارسة النفاق وتجويد الانتهازية.. وعنوانه "الشورى"باعتباره زوج
الفنانة!!..
يتبع
0 تعليقات