نصر القفاص
معركة "جمال عبد الناصر" مع الشيوعية كانت أكثر شراسة من
معركته مع "جماعة الإخوان"!!
خلاف "جمال عبد الناصر" مع "الاتحاد السوفيتي"
كان أعمق من خلافه مع "الولايات المتحدة"!!
تحدى بناء "السد العالى" لم يكن للإسراع فى تدوير عجلة
"التنمية الاقتصادية" وتحقيق الاستقلال السياسى.. لكنه كان بناء رؤية
وموقف وإنجاز, ترفرف عليهم رايات الوطنية المصرية.. هنا كانت خطورته.. لذا استمرت
الحرب عليه حيا, وازدادت ضراوة بعد رحيله.. هى حرب لا تتوقف.. أخطر جبهاتها يمثلها
"خدم الملكية والاستعمار" داخل مصر, ثم بين شعوب العالم العربى.. وبعدهم
شعوب إفريقيا وآسيا.
كشف حقيقة "الأوف شور" وكارثته كنظام اقتصادي.. ثم كنظام
سياسى.. هى فى حقيقتها جوهر المعركة بين شعوب إنحاز لها "عبد الناصر"
وأنظمة سياسية فى الغرب, لم تغفر له أنه تحداها وكشفها أمام العالم.. ذلك يجعلنى
أصل إلى قناعة, أطرحها مكتوبة تقول أن "مصر.. كانت.. ومازالت.. وستبقى كلمة
السر فى الصراع الدولى".
الوثائق التى لا تكذب ولا تتجمل تؤكد ما يدهشك.. أخطر ما فى الأمر,
هو أننا صمتنا على جريمة دفن الحقيقة الحية والتى كنا نعلمها.. ذلك لا يقل خطورة
عن عمليات "تزوير وتشويه التاريخ" التى تنفذها ماكينات إعلام عملاقة..
وإن كنت أعلم أن كشف المستور, فى ملفات الاحتلال المالى واغتيال الأمم اقتصاديا..
مسألة صعبة.. بل خطيرة.. لكننى أعلم فى الوقت نفسه أن التاريخ ينتصر دائما للذين
احترموه.. طال الزمن أو قصر!!
اخترت أن أتوقف عند خطابين كتبهما "جمال عبد الناصر"
وهما محفوظان فى وثائق الخارجية ورئاسة الجمهورية فى مصر.. ونشرهما "محمد
حسنين هيكل" فى كتابه "سنوات الغليان" وكل رسالة تستحق أن نتوقف
أمامها طويلا.. وقبلهما أقف مطولا أمام مقال سياسى كتبه "عبد الناصر"
وقامت الإذاعة بتكرار قراءته فى حينه.
أما المقال قد كان قصفا عنيفا ضد "الشيوعيين" بعد قرارات
يوليو الاشتراكية, التى مازال يزيف حقيقتها الذين نهبوا اقتصاد مصر وثرواتها..
الذين أصبحوا نجوما باعتبارهم "رجال مال" يتم وصفهم بأنهم "رجال
أعمال" أو "مستثمرين"!! وكان هذا المقال يتناول الرد بالحجة
والبرهان على "الشيوعيين" فى العالم العربى, عندما اختاروا الدفاع عن
"الاتحاد السوفيتى" فى مواجهة "عبد الناصر"!!
يبدأ المقال الذى أعيد قراءته, والتفكير فيه بصوت عال: "عندما
أعلنت القرارات الثورية الاشتراكية فى الجمهورية العربية المتحدة يوم 19 يوليو
1961.. كانت الموضوع الرئيسى فى كل صحف العالم, إلا صحف الشيوعيين العملاء فى
بيروت.. فخرجت صحيفة نداء العملاء الشيوعية التى تصدر يوميا – أسمها نداء الأخبار
– دون أن تشر بكلمة إلى القرارات الثورية التى اعتبرها الشعب نقطة تحول.. بالقضاء
على الظلم وإقامة عدالة اجتماعية.. أكتفت جريدة أخبار العملاء الشيوعية, بتسويد
صفحاتها بالسباب والأكاذيب ضد الجمهورية العربية المتحدة.. لم يدهشنا ذلك..
فالعملاء قوم باعوا وطنهم, بعد أن باعوا ضمائرهم"!!
اختار "عبد الناصر" الوضوح الشديد.. الصراحة القاسية..
المواجهة التى لا تحتمل شكا أو مواربة.. بالمنطق والمنهج نفسه الذى خاطب به الزعيم
السوفيتى "خروشوف" قبل هذا المقال بشهور.. كانت رسالته إلى
"خروشوف" مذهلة.. لكنها بقيت سرية.. أما المقال فهو إعلان للموقف على صفحات
"الأهرام" وعبر موجات الإذاعة ليعرف الشعب المصرى والشعوب العربية
الأرضية التى تتحرك عليها سياسات مصر.. ولتعلم "مطابخ السياسة
والمخابرات" فى الغرب أنه لا يكترث بحملاتهم ضده على أنه "شيوعى"
أو "دكتاتور" أو "فاشى" كما يحلو لهم ترويجه لاغتياله
معنويا!! وليؤكد إصراره على أن يكون موقفه فى الكواليس.. هو الموقف نفسه على
المسرح.. فقد كان يحتمى بالتفاف الجماهير حوله.. ثقتهم فيه.. تصديقهم له.. إيمانهم
بأنه مواطن يحمل الأمانة بشرف.. ومعرفته أن ثمن ذلك يتجاوز وصفه بأنه صعب أو قاس!!
حملت الفقرة الثانية أسئلته وإجاباته عليها, وفق رؤيته فقال:
"ما معنى ذلك كله؟! معناه أن الشيوعيين العرب قد أفلسوا إفلاسا كاملا.. لقد
كشفت الأمة العربية, الأحزاب الشيوعية فى بلادنا.. وبوعى الأمة العربية الأصيل عرف
حقيقتهم, وأن الشعارات التى أطلقوها ليست إلا خداع لتخدير الشعوب العربية الطيبة..
لتغرقها فى بحار من الدمار كما حصل فى العراق.. لكن الشعب العربى عزل الأحزاب
الشيوعية.. ماذا قالت جريدة الأحزاب الشيوعية العربية؟! قالت: أن الشروط الرئيسية
للاشتراكية, كما تحددها المبادىء العلمية هى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج..
وضمان سلطة البروليتاريا المتآلفة مع جماهير الفلاحين.. ثم قالت إن الاشتراكية
تتطلب القضاء على كل أساس للرأسمالية الفردية".
كان مقال "عبد الناصر" يحمل بوضوح ملامح رؤيته لأنه قال:
"ردنا على ذلك.. أن اشتراكيتنا إنسانية.. هى تعمل لإقامة عدالة اجتماعية
وإنهاء الظلم الاجتماعي.. تحترم الإنسان وترفض أن تجرده من آدميته.. اشتراكيتنا
التى أعلنت الثورة فى أول يوم لها, ضمن المبادىء الستة التى تهدف إلى القضاء على
الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال.. وترفض أن يكون الإنسان كالآلة الصماء فى
الحياة.. اشتراكيتنا تضع الإنسان فى الاعتبار الأول.. فهو حر وله مجال للحركة والنشاط
على أساس مصلحة المجتمع, بمنع الاستغلال والاحتكار وسيطرة رأس المال.. اشتراكيتنا
تنبع من طبيعة الشعب العربى.. هدفها بناء مجتمع بالوسائل السلمية.. لا بالهدم
والقتل.. نريد عدالة اجتماعية, بدون أن تسود طبقة على طبقة.. والطبقة العاملة
والفلاحين فى الجمهورية العربية المتحدة تحصل على حقوقها.. تنهى دكتاتورية رأس
المال والاستغلال, بالمشاركة فى الإدارة والحصول على خمسة وعشرين بالمائة من
الأرباح.. واستطاعت أن تقفز قفزة كبيرة, فى زمن أقل من القفزات التى حققتها
الشيوعية.. نحن لم نذبح الطبقة الرأسمالية أو الإقطاعيين.. نحن لم ننتقم منهم, ولم
نحولهم إلى معدمين لأننا نؤمن بأن الاشتراكية.. لابد أن تكون إنسانية.. نؤمن بأن
هدم وقتل الطبقة التى تملك وتشريدها.. يتنافى مع طبيعتنا وإنسانيتنا, وهذا يضعف
بلدنا ولا يحمينا من دوامة الإرهاب الطبقى.. شعبنا يفخر بتجربته ولم يتخل عن فرد
من أبنائه".
تلك هى "الحقيقة المدفونة" والتى تم قلبها على طريقة
"هتلر"!!
دارت عجلات الزمن.. أصبح العالم العربى وفى قلبه مصر, يصرخ من
الاحتكار والاستغلال والفساد.. ثارت الشعوب ومازالت تغلى, لأن اللصوص يتصدرون
الواجهة ويخنقون الأوطان.. يمارسون "الإرهاب الاستثماري" إذا جاز
الوصف!! حدث ذلك لأنهم غسلوا الأدمغة بأن "عبد الناصر كان شيوعيا"!!
عاثوا فى الأوطان فسادا ونهبا عندما اعتقدوا أنهم فرضوا أكاذيبهم.. لحظة أن نجحوا
فى أن يجعلوا مجتمعات بأكملها أسرى لنظام "الأوف شور" الذى حل بديلا عن
الاستعمار المسلح.
راح "عبد الناصر" يشرح أكثر ويقدم التفاصيل الأكثر
وضوحا, فقال فى مقاله: "شعبنا سيبنى المجتمع الاشتراكي الجديد.. بدون دم..
بدون حقد.. بدون انتقام.. سيبنيه على أسس إنسانية.. يبنى مجتمع تذوب فيه الفوارق
بين الطبقات.. يرفض أن يكون سبيله إلى العدالة الاجتماعية عن طريق الحرب الطبقية
داخل صفوف الشعب أو عن طريق الحرب الأهلية.. يرفض شعبنا تدمير الطبقة التى تملك..
يطلب إذابة الفوارق بين الطبقات بوسائل سلمية.. فإذا كانت الحرب الأهلية بالنسبة
للماركسية, هى الطريق الوحيد للاشتراكية كما تقرر حتمية التاريخ كما يرون.. فنحن
بتجربتنا نرفض الحرب الأهلية كأمر حتمى.. شعبنا يؤمن بالمحبة والعمل والوحدة
الوطنية.. تجربتنا أثبتت إمكانية إقامة مجتمع اشتراكي, يحقق العدالة الاجتماعية
دون حرب أهلية وصراع دموى"!!
كان "عبد الناصر" يرد على "الشيوعيين" ويهمه
فى المقال الأول أن يفهم الشعب حقيقة ما يتم "فبركته" من أكاذيب.. كان
يشرح الاقتصاد ببساطة لكل مواطن.. رفض بيع الأوهام التى ينتجها "صندوق
النقد" و"البنك الدولى" وغيرهما من أسلحة الاستعمار الحديث!!
كان يواجه أصدقائه قبل أعدائه.. فهو فى هذه المعركة يقصف الذين
راهنوا على الاتحاد السوفيتى.. كسب هو الجماهير.. وكسب احترام وتقدير
"الاتحاد السوفيتى"!!
بعد ذلك وجه كلامه إلى الشيوعيين.. أضاف قائلا: "ترى جريدة
الأخبار الناطقة باسم الشيوعيين أن التدابير التى اتخذتها الجمهورية العربية
المتحدة.. أبقت جميع الأسس الرأسمالية.. مازال هناك حق الملكية الكبيرة.. حق ملكية
مائة فدان, بما يعنى استثمار الإنسان للإنسان – فى رأيهم – وردنا عليه بسيط..
واضح.. لقد فقد الشيوعيون رؤوسهم حين شعروا أن الاشتراكية يتم تطبيقها بدون حرب
طبقية.. دون حمامات دم.. هل يذكر الشيوعيون أن ملكية الأرض فى المانيا الشرقية
الشيوعية, تسمح بملكية 250 فدان؟! ما رأى فلاسفتهم؟! هم يعلمون أن الاشتراكية لا
يمكن أن تكون نظاما واحدا ثابتا.. أو نظرية شاملة مخطوطة معدة للتطبيق فى كل
مكان.. فحتى المعسكر الشيوعى نفسه إنقسم الرأى فيه حول مفهوم الاشتراكية الصحيح..
إشتراكية لينين, غير اشتراكية ستالين.. غير اشتراكية خروشوف.. غير اشتراكية ماوتسى
تونج.. وغير اشتراكية تيتو"!!
خطورة "عبد الناصر" بالنسبة للاتحاد السوفيتى, لم تقل عن
خطورته على الولايات المتحدة الأمريكية ولا تقل خطورة بالنسبة لأنظمة عربية حاربته
لصالح كل من "واشنطن" و"موسكو" وبينهما كان خطرا رهيبا على
إسرائيل.. وخطر على الذين عملوا لحساب الاستعمار تحت رايات الإسلام السياسى!!
الدليل على ذلك أنهم جميعا يحجبون حقيقة تجربته وأفكاره.. يتحالفون لقلب الأبيض
أسود.. والعكس صحيح.. يحدث ذلك لصالح نوعية من الحكام راهنوا على الغرب بقيادة
الولايات المتحدة الأمريكية, القادرة على تثبيتهم ثم تخلعهم وقتما تشاء.. هكذا
قالت لنا الأحداث وأكدت الوقائع.. حتى قدراته الفكرية وإمكانياته السياسية..
حاولوا التشكيك فيها وتزييف حقيقتها.. إطمأنوا لنجاحهم فى طمس الحقيقة.. إعتقدوا
أنها ماتت وأنهم دفنوها.. وتناسوا أن التاريخ كائن حى!! ومازال فى المقال بقية
وتفاصيل أكثر..
يتبع
0 تعليقات