آخر الأخبار

عاشورائيات (5) البكاء…. والوعي

 

 



 

عز الدين الغدادي

 

لست أدري إن كنت قرأت قصة ذلك الرجل الذي دخل على الحرم بعد أن قتل الحسين، وأخذ حلي فاطمة بنت الحسين، وهو يبكى؛ فقالت: لم تبكي؟ فقال: أأسلب بنت رسول الله (ص) ولا أبكي؟ قالت: فدعه، قال: أخاف أن يأخذه غيري.

 

إذن، هذا يبكي على الحسين، لكنه فعل ما فعل، فلا تأمن أن تقع فيما وقع فيه هذا الرجل!! فهل تعتقد بعد هذا أن البكاء بمجرّده يجعلك حسينيّا فعلا؟ هذا وهم! وقد سمعت من أمر هذا الرجل الذي بكى على الحسين وهو يشارك في قتل الحسين؟ أفلا تخاف أن يكون بكاؤك كبكائه؟

 

البكاء على الحسين والحزن عليه فطري تلقائي؛ فمن ذا يستطيع أن يقرأ أو يسمع قصّة مقتل السبط فلا يبكي؟ من ذا يقدر أن يحبس عينيه عن الدموع؟ أما إنّ الدموع لتنزل من العين وتنساب منها بلا تكلّف، بل تسيل منها عفوا. إنّ هذا لأمر عجيب، يبيّن لك قوّة حضور الحسين في النفس والقلب، فالحسين لا يحتاج إلى روايات مكذوبة تبين فضل البكاء والحث عليه!

 

لكن للأسف، حتى مسألة البكاء حصل فيها انحراف، حيث تغيّر من البكاء التلقائي الى صناعة البكاء، كيف تبكي؟ وكيف تُبكِي الآخرين؟ ووضعوا في سبيل ذلك روايات رغم ان دلالتها قد لا تدل في كثير من الأحيان على ما أريد لها أن تدلّ عليه.

 

بالنسبة لي أنا أقول لك: ابكِ حينما تستشعر بأنّ الأمر يبعث على الحزن ويملأ النفس أسى، ويدفعها نحو البكاء. ابكِ وإيّاك أن تفكّر وأنت تبكي تفكر بعدد الحسنات التي ستكتسبها، فهل رأيت حبيبا بكى على حبيبه وهو يحسب مع ذلك كم سيربح من هذا الأمر أو من ذاك؟

 

أما ما ورد في فضل البكاء، فهو لا يريد أن يجعل البكاء غاية، بل وسيلة للشعور بصاحب الثورة ودافعا لدراستها والوعي بها وإدراك أهدافها. هو وسيلة لتشعر بالحسين وهو مع ذلك لا يقصد بنفسه، بل يأتي بشكل عفوي.

 

كان البكاء موقفا في ذلك الوقت، موقفاً يتحدّى به المرء الطغاة، أما اليوم فقد ترى قوما يبكون وصار البكاء لهم عادة، وبلغ بهم الأمر أنّهم صاروا يملكون أعينهم فهم يبكون متى شاؤوا، بل هو يبكي وعينه على أواني الطعام متى توضع ليصيب مقتلاً من لحمها.

 

ابك ودع العاطفة تأخذ حقّها، لكن لا تبكِ بكاء جزع ولا تبكِ لأنّك تريد أن تحصل بذلك على حسنات.

 

لقد بكى عليّ بن الحسين على أبيه، فهل كان هذا دليلا على عدم الصبر على البلاء؟ لقد بكى كما بكى يعقوب على يوسف وكما بكى النبيّ (ص) على إبراهيم، فأكّدا بذلك على إنسانيّة الحزن لا على قلّة الصبر.

 

بل، وأضيف إليك: يمكن للشخصِ أن يكسب حالة سرعة البكاء أو الخشوع فيصبح سريع التأثر سريع البكاء، دون أن يلزم من ذلك أنّه في حالة تأثر وخشوع، التأثر ولا تلازم حالة الخشوع المصداقية.

 

فربّما يكون عند بعض قابلية لأن يصلي ويبكي بعد أن يتم شرب الخمر مباشرة وهناك من لا يستطيع ذلك، ويعتبر ذلك نفاقا، وهو يرى أنّه لا يمكن له أن يجمع بين الأمرين. ولهذا لا تستغرب أن يقول النبيّ (ص): إذا تمّ فجور العبد ملك عينيه؛ فبكى متى شاء.

 

أن ترى حدثا مؤثّرا أو تسمع عنه فتتأثر وتبكي، هذا ممكن وقابل لأن أتفّهمه، لكن لا تجعل البكاء غاية لدرجة أن تخترع شخصية وهمية لا وجود لها، ثم تصطنع قصّة مؤلمة لتبكي عليها وتضرب على رأسك وتبني لها قبرا، هذا أمر لا يعقل. وكم من مأساة لرقيّة حقيقية لا تبكينا، ونخترع شخصية وهمية لنبكي عليها، ربّما لأنّنا نتكسب ونأكل منها. أو لأنها تنفعنا في خداع أنفسنا، وهو ما أدمنّا عليه للأسف. كم من طفلة قتلت أو انتهك حرمتها أو فقدت ابويها أو جاعت أو مرضت ولم نلتفت الينا ولم تنهزنا ونحن نبكي على طفلة لم تولد قط. لكن عندما يتحوّل البكاء إلى هدف بذاته، فلا تستغرب أن يتم اختراع شخصياتٍ وهميّة لكي نبكي عليها فحسب، ونقيم لأجلها المآتم.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات