آخر الأخبار

هل كان عابس مجنونا؟

 



 

عز الدين البغدادي

 

عابس بن أبي شبيب ممن استشهد يوم الطف، وكان له موقف مشرّف. وقد نسب لعابس عبارة "حبّ الحسين أجنّني"، فذكر أنه في ذلك اليوم نزع عابس درعه ونزل يقاتل العدو فقيل له: ما هذا يا عابس، أجُننت؟ فقال: نعم، حبُّ الحسين أجنّني. وهذا الخبر مشهور، لكن عند البحث ستجد بأنْ هذا الخبر لم يذكر في أي مصدر ولو كان ضعيفا!!

 

كان عابس من رجال الشيعة رئيسا شجاعا خطيبا ناسكا متهجّدا، وكانت بنو شاكر بل همدان كلّها من أخلص الناس لأمير المؤمنين عليّ، وفيهم قال يوم صفين: لو تمّت عدّتهم ألفاً لعُبد الله حقَّ عبادته، وكانوا من شجعان العرب وحماتهم، وكانوا يلقبون فتيان الصباح، فنزلوا في بني وادعة من همدان، وربّما نسب إليهم عابس فقيل: عابس الوادعيّ أو الشاكري.

 

ومع شجاعته فقد كان عابس عاقلاً فطنا، ويدلّك على ذلك موقفه عندما حلّ مسلم في الكوفة، وأقبلت الشيعةُ تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين فأخذوا يبكون، فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعدُ فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم، والله أحدّثك عما أنا موطِّنٌ نفسي عليه، والله لأجيبنَّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسى فقال: رحمك الله، قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك، ثم قال: وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه.

 

وعندما وقعت الحرب كان عابس فيها صادقا كما في السلم، قال أبو مخنف: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر، فقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما اصنع؟! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله (ص) حتى أقتل، قال: ذلك الظنّ بك، فتقدمْ بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى احتسبك أنا، فانه لو كان معي الساعة أحدا أولى به مني بك لسرّني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه، فان هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه، فانه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب. قال: فتقدم فسلم على الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل.

 

كان عابس صلبا شجاعا يخافه الأقران ويتحامى منه الأبطال، لذا فعندما طلب البراز تحاماه الناس لشجاعته، فقال لهم عمر بن سعد: ارموه بالحجارة، فرموه من كل جانب، فلمـــــا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه، ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعةٌ.

 

ثم قال عابس بن أبي شبيب: يا أبا عبدالله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد اعزّ على ولا أحب إلى منك، ولو قدرت على أن ادفع عنك الضيم والقتل بشيء اعز على من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبدالله، أُشهد الله أني على هَديِك وهدى أبيك، ثم مشى بالسيف مُصلِتا نحوهم وبه ضربة على جبينه.

قال أبو مخنف - حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم قال: لما رأيته مقبلا عرفته وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس، هذا أسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه احد منكم، فأخذ ينادى: ألا رجلٌ لرجل. فقال عمر بن سعد: إرضخوه بالحجارة، قال: فرمى بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس فوالله لرأيته يكرد اكثر من مائتين من الناس، ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل. قال: فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته فاتوا عمر بن سعد فقال: لا تختصموا هذا لم يقتله انسان واحد ففرّق بينهم بهذا القول.

 

أقول، ومن كان مثل عابس في عقله وشجاعته، لم يوصف بما ذكر؟

من لا يعرف بواطن الأمور سيقول: لا بأس في هذا التعبير، فهذا من باب شدّة حبّه للحسين. لكن، ليس الأمر كذلك، بل لأنّ هناك من ينظّر ليكون سلوك المؤمن غير عقلاني، وهناك بالفعل من يفعلون أمورا ما أنزل الله بها من سلطان بدعوى الشعائر و يسمّون أنفسهم "مجانين الحسين"، حتى يعاملوا كالمجانين فلا يؤاخذوا بفعلهم، وبزعم أنهم مثل عابس! وأين الثرى من الثريّا؟!

 

وعلى هذا فيحرم رواية هذا الخبر من الخطباء أو إدخاله في عمل فني لما فيه من كذب من جهة، وزرع لمفاهيم خاطئة من جهة أخرى.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات