صبحي شحاتة
أسوق دراجتي من ناحية إلي أخري مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم مناسب
لذوي الدخل المحدود، ودائما أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني التفاتة إلي ساعة
الميدان، فرأيت أسفلها صديقي، فدعاني بأشارة من يده، فملت بدراجتي نحوه وإذا به
علي علم بحالي، فاقترح علي أن اترك دراجتي معه ليسهل عليّ البحث، فنفذت اقتراحه
وواصلت البحث وجوعي يشتد، وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافع من الجوع واليأس
اتجهت نحوه، علي الرغم من علمي بارتفاع أسعاره، ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام
ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدت خرابة ملأي بالنفايات في وضع
البهو الفخم المعد للطعام فقلت بانزعاج:
ماذا جري؟
فقال الرجل:
أسرع إلي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب.
ولم أضيع وقتا فرجعت إلي ساعة الميدان، لكنني لم أجد الدراجة
والصديق.
*
أحلام فترة النقاهة ليست عملا فنيا، ولا هي رواية ولا قصص قصيرة،
وإنما هي أحلام فحسب، ومعروف أن الكثير من الكتاب المديوكر لدينا ما أن نشرت
الأحلام، حتي سارعوا متسابقين علي كتابة مجموعات قصصية كاملة كلها أحلام تافهة
حلموها، ذلك لأنهم معدومي الخيال، وجدوا ملاذا في الأحلام تعوض نقص خيالهم، وتصبغ
عمقا علي سطحيتهم.
دون أن يفطنوا وإن لهم ذلك، أن الدافع وراء نشر الأستاذ أحلامه هي
عادته الجميلة في الريادة وحب الجديد، حتي صارت شجاعته عملا يوميا عاديا له، لذلك
نشر أحلامه بوصفها نوع من التسلية أثناء فترة النقاهة، وهذا الأسلوب في إشغال وقت
الفراغ بالقراءة والكتابة، يتبعه نيتشة الذي ما أن ينهك من الكتابة، يسلي نفسه
بالقراءة أو بتأليف السيمفونيات، كأنما ثمة خيط رابط بين الكبار دائما، مهما
اختلفوا في الزمان والمكان..
والحلم رسالة يرسلها الحالم لنفسه أثناء النوم، تتعلق بماجري له في
اليوم السابق، سواء كانت أحداثا عاشها وأثرت فيه، أو أفكار فكر فيها وشغلته، ذلك
أن وعينا النهاري لا يشكل إلا جزءا يسيرا من وعينا الكلي الذي هو الوعي العميق غير
الموعي به أو ما يسمي باللاوعي، الذي هو إدراكنا الباطني الجسداني للعالم، حيث من
يفكر ليس عقلنا، وإنما جسدنا كله، أو كما قال حكماء الشرق القديم : التفكير بالبطن.
إن من يهيمن علي وعينا إذن هو اللاوعي، والحلم الليلي هو الطريق
الملكي لللاوعي كما قال يونغ، الذي شبه اللاوعي بالكنز، والحلم هو بابه، والحالم
جالس عند الباب، يمد يده وينهل من الكنز لفائدة حياته، حيث أن الفهم الحقيقي هو
وقوف الإنسان في المنطقة الوسطي، بين الوعي واللاوعي، يأخذ من اللاوعي لصالح
الوعي..
لذلك ثمة اتجاه في علم النفس يقول بأن القادر علي تفسير رسالة
ألحلم هو الحالم نفسه وليس بالضرورة الطبيب النفسي.
ورسالة الحلم مكتوبة برموز تظهر أشياء وتشير إلي أشياء أخري، لذلك
يجب علي المفسر أن يكون قادرا علي معرفة تأويل لغة الحلم، وهي لغة هيرغليفية، أي
مصورة، مشكلة في صور، أنه حكاية رمزية، يجب معرفة ما تشير إليه، حتي لا تضيع
الرسالة ولا يستفيد الحالم من غزارة لاوعيه الذي هو الوعي الحق، الذي يُعرّفه نفسه
ومجتمعه والكون دون مبالغة.
ولنحاول الآن تفسير حلم الأستاذ أعلاه
"أسوق دراجتي من ناحية إلي أخري مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم
مناسب لذوي الدخل المحدود، ودائما أجدها مغلقة الأبواب"..
إن الدراجة ترمز إلي إمكانيات الحالم الشاب الخاصة، وقدراته التي
يستعين بها، ويقود نفسه وحياته باستقلال وحرية، فهو لا يتبع أحدا، ولا يعتمد علي
مصادر خارجية، فهو عصامي يعتمد علي نفسه.
ومع ذلك ثمة رغبة يحركها الجوع إلي الشبع، وكلما مر من ناحية إلي
أخري باحثا عم مطاعم محدودي الدخل يجدها مغلقة..
إن الواقع الخارجي المتاح له تمثله مطاعم محدودي الدخل ممتنع عليه،
وهو لا يستطيع مقاومة الجوع وتحمله والصبر عليه، إنه إذن يستخدم كل ما يملكه من إمكانيات
خاصة وقدرات ذاتية ترمز إليها الدراجة، في الاندفاع وراء تلبية رغبته وسد نقص فيه،
وليس التعايش مع رغباته هذه وتحملها وقيادتها بدلا من أن تقوده هي.
"وحانت مني التفاتة إلي ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقي،
فدعاني بإشارة من يده، فملت بدراجتي نحوه وإذا به علي علم بحالي، فاقترح علي أن
اترك دراجتي معه ليُسّهل عليّ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث وجوعي يشتد".
إن ساعة الميدان تشير إلي الزمن العام، زمن كل الناس، زمن ليس
فرديا وخاصا، يقف تحتها صديق الحالم، الذي يعرف حال الحالم، كأنه والحلم واحد،
وأيضا كأن صديقه ترك أيضا دراجته/ قدراته، وجاء ليقف تحت الزمن اللا شخصي، أو
اللازمن، ينتظر فحسب ولا يبادر إلي فعل شيء،
استجاب الحالم له، لما طلب منه ترك دراجته معه، أي تخلي الحالم عن
قدراته الذاتية الخاصة العصامية كصاحبه، وكذلك زمنه الخاص، وسلمهم إلي الزمن
العام، أو اللازمن، ثم صار الحالم رغبة لا تشبع، وبلا امكانيات خاصة أيضا ولو
محدودة.
"وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافع من الجوع واليأس
اتجهت نحوه، علي الرغم من علمي بارتفاع أسعاره"
يرمز مطعم العائلات، إلي مؤسسة العائلة، التي حتي ينتمي الفرد
إليها عليه التخلي عن فرديته وحريته، ويتقولب فيها، ويرتدي قناع من أقنعتها، وذلك
حتي تلبي له العائلة مجرد الوجود واشباع رغباته الجسدانية: الطعام الشراب الجنس،
أما تحقيق ذاته الحرة فلا .
اتجه الحالم إليها رغم ارتفاع أسعارها"، وهذا رمز علي الثمن
الذي يدفعه كل من تخلي عن نفسه الحرة الخاصة واستجاب لرغباته الأولي البدائية.
"ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارة مسدلة فما كان منه
إلا أن أزاح الستارة فبدت خرابة ملأي بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام".
هكذا تتحول الرغبات الجسدانية في العائلة التي هي مجرد البقاء علي
قيد الحياة، في حماية العائلة وشروطها التعسفية إلي نفايات في بهو فخم، أو كما قال
فرويد: المال هو الخراء..
" فقلت بانزعاج:
ماذا جري؟
فقال الرجل:
أسرع إلي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب.
ولم أضيع وقتا فرجعت إلي ساعة الميدان، لكنني لم أجد الدراجة
والصديق".
هكذا كان من الصعب للحالم الذي تخلي عن قدراته الخاصة واعتماده علي
نفسه وتحمله وصبره، وجعل رغبته تقوده إلي عالم اللافرد واللامسؤلية الذي يؤول إلي
نفايات، كان من الصعب عليه العودة إلي نفسه وقدراته التي تركهما هناك في العام
الشائع واللازمن..
إن الحلم إذن رسالة تحذير للحالم تتعلق بحياته وكيفية قيادته لها
وأهمية الاعتماد علي نفسه، حتي لا يضيع منه شبابه وطريقه وتحقيق ذاته الخاصة
الفريدة، ويضيع في العام الشائع، ذلك العالم الغائم المدجج بالرغبات اليومية وصراع
البقاء لمجرد البقاء الذي يؤول في النهاية إلي عدم وخواء ونفايات..
هو حلم فلسفي إذن.. لا يحلمه إلا فيلسوف أديب مشغول بتحقيق حلمه
الأدبي ورفعته فوق اليومي المبتذل ومجرد البقاء، وذلك ليكون قائدا لنفسه ورغباته
متحملا وصابرا ومكافحا، حتي يتحقق بنفسه واعتمادا علي نفسه.. وهذا ما فعله محفوظ
بالطبع كما نعلم جميعا، ونعلم أيضا ان محفوظ لم يتزوج إلا في الخمسين من عمره،
وكان دائما مستقلا حرا عاكفا علي إبداعه بصبر وجلد ودقة.
0 تعليقات