نصر القفاص
يملك الحاكم القوة والجرأة عندما يخاطب زعماء الدول الكبرى, إذا
كان شعبه يصدقه ويثق به.. ويراهن الحاكم على أضواء عواصم العالم التى تخطف العين
مثل "واشنطن" و"لندن" و"باريس" أو حتى
"موسكو" و"بكين" إذا فقد شعبيته وانصرف عنه الناس.. فالحاكم
الذى يؤيده شعبه يملك شرعية ومشروعية.. أما الحاكم الذى يدير له الشعب ظهره, فلا
يملك غير مشروعية تزول بفعل عاصفة داخلية أو خارجية – تواجهه!!
تلك حقائق يفهمها الحاكم الذى يعرف التاريخ ويقدر قيمة الجغرافيا.
لا يؤمن بالحقائق أى حاكم لا يرى غير نفسه, باعتبار أن القوة
تحميه!!
تعود الشعوب إلى تاريخها لاستعادة ثقتها فى نفسها.. لتفهم أسرار ما
يدور حولها.. لترسم خطوات مستقبلها.. وعلى هذه الخلفية كتب "عبد الناصر"
رسالته ردا على "كيندى".
قال فى تلك الرسالة: "أردت توضيح أن موقفنا من إسرائيل ليس
عقدة مشحونة بالعاطفة.. إنما هو.. عدوان تم فى الماضى.. أخطار تتحرك فى الحاضر..
مستقبل غامض محفوف بأسباب التوتر والقلق, معرض للانفجار فى أى وقت.. ولكى أكون
منصفا, فإنه يبدو لى أن بعض العناصر العربية قد ساهمت فى تصوير المشكلة لديكم
باعتبارها شحنة عاطفية.. وأذكر فى هذا المجال أن سلفكم الرئيس دوايت إيزنهاور, قال
لى عندما كان لى شرف لقائه فى نيويورك يوم 26 سبتمبر عام 1960 أن بعض الساسة العرب
كانوا يدلون بتصريحات.. علنية متشددة فى موضوع فلسطين, ثم يتصلون بالحكومة
الأمريكية يخففون من وقع تشددهم قائلين أن تصريحاتهم كانت موجهة للاستهلاك المحلى
العربى!! وإنى ليؤسفنى حقيقة أن هذه الأصوات المتخاذلة.. المترددة.. إستطاعت أن
تجد من يسمعها أو يثق بها.. وقد أثبتت الحوادث على أى حال أن هؤلاء الذين خدعوكم,
لم يتمكنوا من خداع شعوبهم.. ويا سيادة الرئيس.. لقد حاولت أن أكون صريحا إلى أبعد
حدود الصراحة فى حديثى إليكم.. وقد يبدو من أصول اللغة الدبلوماسية التقليدية, أننى
جاوزت ما تفرضه اعتبارات المجاملة.. لكننى أؤكد لكم أنه فى اعتبارى لا يوجد أشرف
من تكريم الصديق والحفاوة به, خيرا من التعبير الصادق كما يحسن به صاحبه.. ومن هذا
الأساس فإنى أستأذنكم بعد أن عرضت للصورة.. من ناحيتها الإسرائيلية.. أن أستطرد
للناحية الأمريكية منها.. واسمحوا لى أولا أن أؤكد لكم أن إيمانى العميق – كان ولا
يزال – أن الوصول إلى تفاهم عربى – أمريكى هدف مهم بالنسبة لنا ويستحق أن نبذل من
أجله كل الجهود.. ونحاول من أجله ولا نيأس من المحاولة أو نمل.. ونحن فى هذا نؤمن
عن تتبع واع لمجرى التاريخ الأمريكى بموقفنا.. وعن إعجاب عميق بخصائص الأمة
الأمريكية.. وعن مشاركة مخلصة فى كثير من مبادى النضال, التى استهدت بها أمتكم
العظيمة فى صنع مكانها فى التاريخ".
هل أراد "عبد الناصر" فى هذا الجزء من رسالته أن يقول
لكيندى أنكم تفضلون من يكذب لصالحكم؟! أم أراد أن يقول له أن الحكام الكذابين
والمترددين, مصيرهم حتما تحت أقدام شعوبهم؟!
الإجابة إذا جاز أن الأسئلة كانت واضحة.. كشفها حين تأسف أن يسمع
الأمريكان للحاكم المتخاذل.. ثم واجهه بأنه يرفض إلا أن يكون صادقا وصريحا لأبعد
درجات الصراحة, وفى ذلك تجسيد لمعانى الشرف!! ثم أوضح انه لا يعادى الولايات
المتحدة الأمريكية.. بل يحترم شعبها الذى ناضل من أجل أن تكون بلاده عظيمة.
راح بعد ذلك يضيف مزيدا من الصراحة, فقال: "والآن أستأذنكم
إبداء هذه الملاحظات: أولا.. لقد حاولنا – ومازلنا نحاول – وسوف نصر على المحاولة
أن نمد أيادينا للأمة الأمريكية.. وأؤكد لكم أنه مما يحز فى نفوسنا, أننا فى كثير
من الأحيان نجد يدنا معلقة وحدها فى الهواء!! وقد تفضلتم وأشرتم فى خطابكم إلى دور
الرئيس ويلسون وفرانكلين وروزفلت فى بروز دول عربية مستقلة ذات سيادة متكافئة فى
المجتمع الدولى.. واسمحوا لى فى أن أقول أن الرئيسين الكبيرين لا يمثلان فى بلادنا
آمالا تحققت.. بقدر ما يمثلان آمالا لم تتحقق!! لقد كانت فى بلادنا ثورة وطنية
عارمة تطلب حق تقرير المصير – يقصد ثورة 1919 – ولما أعلن الرئيس ويلسون نقطه
الأربعة عشر المشهورة.. كان صداها على الثورة الوطنية العارمة فى بلادنا.. قويا
وفعالا.. وقد ذهب وفد يمثل الثورة الوطنية فى مصر – ذلك الوقت – إلى باريس ليحضر
مؤتمر الصلح, وينادى بحق مصر فى تقرير مصيرها.. وكان الوفد يرفع بين ما يرفع من
الأعلام, نفس مبادىء الرئيس ويلسون ويستند عليها.. لكن الرئيس ويلسون رفض مقابلة
هذا الوفد.. كما أن هذا الوفد لم يجد فرصة يشرح فيها قضية بلاده أمام مؤتمر الصلح
فى باريس.. ولم يكن أمام هذا الوفد وأمام الشعب غير المقاومة الشعبية المسلحة ضد
الاستعمار.. وكانت القوة القاهرة هى سلاح الاستعمار, لقمع الثورة الشعبية خلافا مع
كل دعوى عن تقرير المصير.. كذلك استطاعت مبادىء الأطلنطى التى أعلنها الرئيس
روزفلت سنة 1941 عن تحرير الشعوب أن تشد آمال شعبنا.. وربما كان من سوء حظنا أن
الرئيس روزفلت لم يعش ليرى يوم انتهاء الحرب, حتى تتاح له الفرصة لوضع قوته وقوة
وطنه وراء المبادىء التى أعلنها وقت محنة الطغيان الفاشيستى".
كانت الملاحظة الأولى فى الرسالة تعكس وعيا سياسيا وفهما للتاريخ..
وفيها صفعة على وجه من يحاول أن يكذب أو يتجمل بقلب الحقائق.. فهو بعد أن قال أنكم
تفضلون المتخاذلين والمترددين.. أوضح أن "مبادىء ويلسون" كانت كلاما فى
الهواء.. وأن "مبادىء روزفلت" لم تر النور لوفاته.. فالمبادىء لا يمكن
أن تكون جزءا من مهارات وإبداع "عالم هوليوود" السينمائى!! وقد قال ذلك
بعبارات شديدة القسوة فى رقتها.. وقال بوضوح لا يحتمل سوى معنى واحد.. هو أننى
أفهم مقاصدكم, لأننى قارىء جيد لتاريخ بلادكم.. وذلك يجعلنى أملك القدرة على معرفة
الفرق بين الأمة الأمريكية والذين يحكمون ويصنعون القرار فيها.. ثم يؤكد على رغبته
فى إقامة جسور مع الأمة العظيمة, ويتمنى أن يدرك قادة وحكام هذه الأمة أنه هناك
حكام شرفا ومخلصون ووطنيون.. وهؤلاء يقدرون على فرض احترامهم وتقدير بلادهم.
ثم كانت الملاحظة الثانية: "كانت الصدمة الكبرى فى العلاقات
العربية – الأمريكية هى غلبة اعتبارات السياسة المحلية الأمريكية.. على اعتبارات
العداء الأمريكى والمصلحة الأمريكية, فى تقرير موقفكم من الظرف الذى أهدر فيه الحق
العربى فى فلسطين إهدارا كاملا.. وقد سبقت لى الإشارة إلى هذا الأمر حين تعرضت
لمشكلة فلسطين من جانبها الإسرائيلى.
ثانيا.. إحتدم الخلاف بيننا فزادت حدته ما بين سنة 1954 وسنة 1955
بسبب التباين فى نظرة كل منا إلى مشكلة واحدة.. هى مشكلة الدفاع عن الشرق الأوسط..
كان رأينا أن الأحلاف العسكرية, خصوصا تلك التى تستند على قوى عالمية كبرى.. لا
تكفل الدفاع عن الشرق الأوسط.. إنما تزيد تعرضه للخطر بمقدار ما تزج به إلى الحرب
الباردة.. وكان رأينا أن الدفاع الحقيقى عن الشرق الأوسط تقوم به بلدان هذا الشرق
الأوسط, وأن ميدانه ليس الخطوط الدفاعية بقدر ما هو الجبهات الداخلية للشعوب..
وكان الاستقلال الحر غير المشروط, والاتجاه إلى التطوير الوطنى.. هو خير ضمان
لسلامة الشرق الأوسط ضد أى عدوان كيفما كان مصدره.. وقد أتيح لى أن أشرح بنفسى
موقفنا هذا للمستر جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك
الوقت, عندما أتيحت لى فرصة لقائه سنة 1953 فى القاهرة".
دارت عجلة الزمان وشاهدنا ما قاله "عبد الناصر" حين فرضت
الولايات المتحدة الأمريكية رؤيتها.. فالحقيقة أنها نجحت بعد رحيله فى أن تعبث
بالشرق الأوسط كما شاءت.. رسخت إسرائيل بالسلام, كما لم تترسخ بالحرب.. لأن
"السلام الأمريكى" يقوم على استدراج للدول كى تدخل فى المصيدة
الإسرائيلية!! والعدل الأمريكى هو نفسه المصلحة الأمريكية.. كما أن
"ديمقراطية أمريكا" التى تصدرها للدول التى تستهدفها هى "ديمقراطية
مزيفة" تقوم على أساس نظام "الأوف شور" الاقتصادى والسياسى.. وهذا
نظام لا يخدم غير رجال "الأوف شور" من ساسة ورجال مال وإعلاميين ومحامين
وغيرهم من "خدم الاستعمار"!
إستكمل "عبد الناصر" ملاحظاته فقال: "فى غمرة
المناقشة الكبرى حول الدفاع عن الشرق الأوسط.. وقعت الحادثة التى كانت بمثابة نقطة
التحول فى اتجاهات الحوادث.. وأعنى بها الغارة الإسرائيلية على غزة عام 1955, حين
قاموا بغارة وحشية على مدينة غزة الفلسطينية.. ولست أريد أن أصف هذه الغارة, بأكثر
مما وصفتها وثائق الأمم المتحدة فذكرت أنها وحشية ومدبرة.. ومع ذلك فإن وزير
الدفاع الإسرائيلى – رئيس الوزراء الحالى – بعث بتهنئة إلى الذين قاموا بها.. بناء
على أوامره.. ثم تواصلت الخطة العدوانية على مصر فى ذلك الوقت.. هذه الخطة التى
تستهدف الجبهة الداخلية لمصر.. وتشهد بذلك الوقائع المتسربة مما يسمونه عملية
لافون فى إسرائيل.. والتى اتضح أن الهدف منها كان تفجير القنابل فى بلادنا وتدمير
منشآتنا, وإساءة العلاقات بيننا وبين دول صديقة.. بينها الولايات المتحدة
الأمريكية التى وضع عملاء إسرائيل القنابل الحارقة أمام مكاتبها فى القاهرة.. وقد
دفعنا ذلك إلى الإحساس بأن انهماكنا فى عملية التطوير الوطنى لا يجدى إزاء
العدوان, وتحتم أن نواجه جزءا من الاهتمام بجانب التطوير.. إلى الاستعداد المسلح
لرد العدوان إذا ما تحرك ضدنا.. وكان من هنا أن نبدأ بطلب شراء السلاح من الاتحاد
السوفيتى, وأتصور أنك لو كنت مكانى لكان ذلك نفس شعورك.. وأنت ترى التهديد يحيط
بوطنك, وتجد فى الوقت نفسه أنك لا تملك وسيلة إنزال العقاب بالمعتدين"
كل هذه الوقائع والحقائق يقفز عليها "خدم الملكية والاستعمار
ولا يعرفها "جامعى أعقاب السجائر" من الذين يتم تقديمهم على أنهم خبراء
استراتيجية أو دبلوماسيين أو ساسة وأشباه مؤرخين!!ويثير الأسى أن هؤلاء يتم
تمكينهم من العقل العربى.. والمصرى على وجه الخصوص.. لتخريبه ثم تدميره بالوصول
إلى أن يكره المواطن وطنه ويحتقر التاريخ.. ثم يكفر بالجغرافيا فيسعى للهجرة إلى
حيث أرض الأحلام فى دول الاستعمار, ليترك ثروات ومقدرات بلاده يتم نهبها فى سهولة
ويسر.. دون حاجة إلى جيوش على الأرض.. وتكتمل الدائرة الجهنمية بتمكين حكام تنصرف
عنهم الشعوب, ويصبح مصيرهم مرتبطا بإدارة "واشنطن" و"لندن"
و"باريس" وغيرها من عواصم دول الاستعمار الجديد بعد أن ارتدى قناع
"الأوف شور"!!..
يتبع
0 تعليقات