آخر الأخبار

بوابات الأموال القذرة!! ثم جاء السادات !! (47)

 

 





نصر القفاص

 

مطلع الستينات كانت "واشنطن" تواصل محاولات فرض كلمتها وسيطرتها على العالم.. وفى الزمن نفسه كانت مصر قد فرضت احترامها وتقديرها على الدنيا.. أعداء وأصدقاء.. تغيرت نظرة أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط.. كان يراها "إيزنهاور" فى قولة شهيرة "الشرق الأوسط هو أهم قطعة عقار فى العالم.. ومصر هى مفتاح هذا العقار"!!

 

لكنه قبل أن يغادر "البيت الأبيض" بشهور قليلة, كان قد شهد حضور "عبد الناصر" فى الأمم المتحدة.. وكانت المرة الوحيدة التى زار فيها الولايات المتحدة الأمريكية.. حينها قال "إيزنهاور" بعد أن سمع كلمته وشاهد استقبال القادة لها: "أصبح جمال عبد الناصر يحكم نصف العالم"!!

 

 ثم جاء "كيندى" بمنهج وعقلية يختلفان عن كل من سبقوه.. فقتلوه!!

 

تلك كانت فكرة عامة عن خلفية رسالة "عبد الناصر" للرئيس الأمريكي, التى أراد أن يصارحه فيها برؤيته ومنهجه.. فواصل ليقول: "مرت العلاقات بيننا – مصر وأمريكا – بفترة عاصفة.. جرت محاولات تشويه سياستنا الوطنية عن عمد.. تعرضنا لألوان من الحرب النفسية بينها توجيه عدد من محطات الإذاعة السرية, توجه دعايتها المسمومة إلى شعبنا بغية تحويله عن الصمود وراء حكومته الثورية.. ثم كانت ذروة الحرب النفسية بقرار سحب عرض المساهمة الأمريكية فى تمويل السد العالى.. وهو العرض الذى كانت الحكومة الأمريكية, قد تقدمت مختارة مشكورة به.. ثم تبع ذلك انسحاب البنك الدولى عن عملية تمويله.. ولم يكن هناك شك فى أن الطريقة التى تم بها سحب العرض, كانت تنطوى على الكثير مما لا يرضى الشعب العربى فى مصر لنفسه أن تتقبله.

 

سادسا.. قدرنا بعد ذلك للولايات المتحدة موقفها فى محاولة إيجاد حل سلمى للمشكلة التى ثارت فى ذلك الوقت بعد تأميم شركة قناة السويس.. كذلك كان تقديرنا فائقا للتأييد العظيم الذى لقيته قضية الحرية فى بلادنا من جانب الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكى..

 

بعد أن تكشفت مؤامرة التواطؤ على بلادنا من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.. ثم حينما بدأ الغزو يوم 29 أكتوبر عام 1956, وهو نفس اليوم الذى كان محددا لبدء المفاوضات فى جنيف بغية الوصول إلى حل نهائى على ضوء قرارات مجلس الأمن بشأن قناة السويس.. وقد كان إحساسنا أن الشعب الأمريكى يشعر بموقفنا من ذكريات تجاربه فى بيرل هاربر, وصدق إحساسنا.. ومن سوء الحظ أن التحسن الذى طرأ على علاقتنا فى ظروف المحنة الدامية, بدأ يتعرض لنكسة خطيرة.. لأن سياسة الولايات المتحدة اتجهت فى أعقاب إنهاء معركة السويس بهزيمة العدوان, إلى عزل مصر ومحاولة تحقيق أهداف العدوان بوسائل سلمية.. وكان ذلك عن طريق مشروع إيزنهاور الذى أراد معاملة الشرق الأوسط – على حد تعبيركم – خلال مناقشة بالكونجرس الأمريكي.. كما لو كان مقاطعة أمريكية"!!

 

واضح أن "عبد الناصر" كان يفهم "السلام الأمريكي" على أنه مصيدة.. وكان يدرك دهاء "إيزنهاور" الذى يريد امتلاك الشرق الأوسط بما فيه مصر.. وكان يعرف أن "كيندى" عبر عن رفضه لذلك المنهج داخل "الكونجرس" قبل أن يصبح رئيسا.. وأراد خلال رسالته أن يملأ له فراغات فى رؤيته لاحظها بقراءته لفكره وآرائه ومنهجه.. وتعمد أن يصف العدوان الثلاثى بأنه كان "مؤامرة" دون أن ينسى تذكيره بضربة "بيرل هاربر"!!

 

واستمرت الرسالة تحمل المزيد من الشرح.. فقال فيها: "تعرضت سوريا بعد ذلك لأزمة خطيرة تهدد سلامتها.. وكان ذلك بفعل دول حلف بغداد.. وكان الهدف هو ضرب الجبهة الداخلية لسوريا.. وهو أمر كان يمكن أن تنتج عنه أوخم العواقب على سلامة الشرق الأوسط كله.. وقد حاولنا مرارا أن نلفت نظر الحكومة الأمريكية إلى خطورة مثل هذه الجهود الهدامة من جانب حلف بغداد.. بعدها انهار حلف بغداد, وكان يوم الثورة فى العراق هو اليوم الفاصل فى أمره.. وبانهيار هذا الحلف انهارت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه المنطقة العربية, فأصبحت فى حاجة ماسة إلى سياسة جديدة واعية تستلهم الماضى.. وتقدر على مواجهة الحاضر وملاقاة المستقبل.. وكان مؤلما حقيقة أن لا تسأل حكومة الولايات المتحدة نفسها, بعد انهيار حلف بغداد.. لماذا تحولت السياسة الأمريكية إلى أنقاض على هذا النحو؟! ولماذا اختفى معظم الأصدقاء التقليديين للسياسة الأمريكية بعد أن حكمت عليهم شعوبهم؟! ولماذا تقف الولايات المتحدة الأمريكية.. وهى دولة قامت على الحرية وعلى الثورة.. ضد نزعة الحرية ونزعة الثورة, وتجد نفسها مع القوى الرجعية والعناصر المعادية للتقدم فى صف واحد؟! بعدها حدث تحسن نسبى فى العلاقات العربية الأمريكية.. لكنه كان بطيئا.. وكانت الصدمات تتربص به دائما, بتأثير دوافع غير أمريكية على الإطلاق.. وأذكر منها مقاطعة الباخرة كليوباترا على أرصفة ميناء نيويورك.. وقد أتيح لى بعد ذلك فى سبتمبر عام 1960 أن ألتقى سلفكم إيزنهاور, وأن أتحدث إليه فى العلاقات ما بين بلدينا وتطوراتها.. وما نتطلع إليه من سلام قائم على العدل.. لكن ذلك كان فى أواخر فترة رئاسته, ومن ثم لم يتح للمحاولة الجديدة أن توضع محل اختبار".

 

بعد نجاة سوريا من "الفخ الأمريكى" بالوحدة مع مصر, وكان مستهدفا أن يحدث فيها ما حدث مطلع القرن الواحد والعشرين.. وبعد سقوط حاكم العراق الذى راهن على واشنطن".. انهيار حلف بغداد, فلم يتورع "عبد الناصر" أن يقول للرئيس الأمريكى.. لقد انهارت سياستكم بقدرتنا وقوتنا ووعينا.. ثم يصارحه – بل يواجهه – بأن بلاده التى قامت على الثورة وبالثورة, ثم أصبحت تعادى ثورات الدنيا.. وأن بلاده التى تنادى بالحرية فأصبحت تكره حرية الشعوب الأخرى وتحاول مصادرتها.. وأشار إلى حكاية الباخرة "كليوباترا" وهى للتوضيح كانت مصرية.. ورفض عمال شحن ميناء نيويورك تفريغ شحنتها من القطن المصرى, بتحريض من اللوبي الصهيوني الأمريكي.. فما كان من "عبد الناصر" إلا أن تحدث عبر إذاعة "صوت العرب" وطالب عمال الشحن فى الموانئ العربية وباقي موانئ العالم بالرد.. جاءت الاستجابة سريعة جدا, ومفزعة للولايات المتحدة التى وجدت سفنها لا تجد من يقوم بتفريغها فى عدة موانئ عبر العالم.. صدرت الأوامر من "البيت الأبيض" بأن يقوم الجيش الأمريكي بتفريغ شحنة القطن المصري, وهى واقعة بارزة فى التاريخ يتجاهلها "خدم الملكية والاستعمار" وقد لا يعرفها "جامعي أعقاب السجائر" وللأسف بعضهم يحمل درجة الدكتوراه الأمريكية!!

 

ثم كان الجزء الأخير من رسالة "عبد الناصر" التى جاء فيها:

 

"سيادة الرئيس.. ليس معنى ذلك بحال من الأحوال أن علاقتنا خلال هذا كله, لم تعش لحظاتها المشرقة.. كان هناك موقف بلادكم منا وقت العدوان علينا انتصارا للمبادئ, وهو موقف أشدنا به دائما.. وسوف يظل يحظى بعرفاننا مهما كانت تطورات العلاقات بيننا.. كذلك كانت هنا مساعداتكم القيمة لنا عن طريق تصدير القمح, أو عن طريق قروض صندوق التنمية.. ولا يفوتنى هنا أن أشيد بمساهمتكم القيمة فى مشروع إنقاذ آثار النوبة, وكانت رسالتكم إلى الكونجرس فى هذا الصدد تحية كريمة تقبلها شعبنا بمزيد من التقدير والرضا.. وأؤكد لك – بشرف – أن ما يحكم موقفى ونظرتى إلى قضية فلسطين ليس هو كونى رئيس للجمهورية العربية المتحدة.. إنما الأصل والأساس هنا, هو موقفي ونظرتي كوطني عربي.. كواحد من ملايين الوطنيين العرب.. وتقبلوا يا سيادة الرئيس عميق احترامي وتقديري".

 

قد تفتح هذه الرسالة شهية من يريد أن يعرف أثرها على العلاقات المصرية – الأمريكية, وهؤلاء يمكنهم قراءة مذكرات "جون بادو" السفير الأمريكي فى القاهرة خلال هذه الفترة.. وسجل ضمن صفحاتها تقديرا.. ما بعده تقدير.. وكتب باحترام.. ما بعده احترام, عن "عبد الناصر" وسياساته ووطنيته.. وكشف أسرار عبث اللوبي الصهيوني بكواليس السياسة الأمريكية, وقدرة "كيندى" على مواجهتهم لاقتناعه بأهمية أن تكون هناك علاقات جيدة ومتوازنة مع مصر والعالم العربي.. لكن الرصاص قال كلمته!!

 

 وجاء "جونسون" ليستأنف سياسات تشبع رغبة الصهيونية, وتقدر على إعادة حكام عرب إلى الحظيرة "الصهيو – أمريكية" فسلموا رقبتهم للطوق الذى يتحكم فيه حبل بيد سيد "البيت الأبيض"!

 

أردت أن أتوقف عند محطات مهمة تبرز كيف قطعت مصر دابر "الأوف شور" عن داخلها وعن المنطقة طوال فترة حكم "عبد الناصر" التى انتهت لتبدأ صفحة جديدة من التاريخ.. أطلقت خلالها مصر أخرى بوجه مختلف تماما.. أخذت خلالها مسارا عكسيا تماما.. وقد يدهشك إذا قلت لك أن أبواب "الأوف شور" تم الشروع فى فتحها بمصر وباقى الدول العربية بعد شهور قليلة من رحيل "عبد الناصر" لأن رجال الولايات المتحدة كانوا إما جاهزين أو يتم إعدادهم!! وتفجرت على أرض مصر معارك ضارية وساخنة, استمرت طوال فترة حكم "أنور السادات" التى قد ياتى يوم يقول فيه المؤرخون أنه أنهى "زمن ثورة 23 يوليو" وأرسى منهجه بعد أن تخلص من رجال هذا الزمن.. حدث ذلك فى سياق درامى, وخلال أحداث كانت تشتد سخونتها ثم تبرد.. وبعدها تغلى.. إلى أن حدثت المأساة المروعة.. فقد قام "أنور السادات" بإعادة "جماعة الإخوان" إلى الحياة, وساعدهم بتمكينهم ليكونوا حلفاءه فى مشواره الذى اختاره.. فلقى المصير الحتمى لكل من يتحالف معهم أو يساعدهم.. قتلوه!!

 

كانت أبواب مصر قد انفتحت على مصراعيها "للأوف شور" ورجاله.. وكانت سياسة "الأوف شور" قد انطلقت لتفسد عشرات الدول فى الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.. استمر منهج "أنور السادات" يحكم بعد رحيله, وعاش منهج وفكر "عبد الناصر" يصارع ويقاوم لعشرات السنوات.. ومازال.. فالمعركة مفتوحة وتنتقل جولاتها من عواصم عربية إلى أخرى أوروبية وآسيوية وإفريقية.. ولن تكون هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية فى "أفغانستان" هى آخرها.. لأن عالم آخر يتشكل منذ سنوات طوال.. دفعت خلالها مصر والعالم العربى أفدح الأثمان – ومازالت تدفع – ويبقى الصراع مفتوحا.. يتألق على مسرحه "خدم الملكية والاستعمار" مع "جامعى أعقاب السجائر" كالعرائس!!

 

يقولون: "الشيطان يكمن فى التفاصيل" وأرى أن "الحقيقة تكمن فى التفاصيل" لذلك يجب أن نعيد قراءة الوقائع والحقائق.. ونلقى الضوء على ما حدث خلال "زمن ما بعد عبد الناصر" وللدقة يجوز القول "زمن ما بعد ثورة 23 يوليو"!!

 

بوابات الأموال القذرة!! العدل الأمريكي!! (46)

 يتبع

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات