نصر القفاص
يخطى من يعتقد أن أبواب "الأوف شور" تم فتحها فى مصر بعد
حرب اكتوبر 1973.
يخطىء من يقول أن "أنور السادات" ذهب إلى الصلح مع
إسرائيل بعد حرب أكتوبر.
يخطىء من يتصور أن مصر أخذت الاتجاه العكسي لمنهج "عبد
الناصر" بعد حرب أكتوبر.
الحقيقة ليست وجهة نظر.. لكنها معلومات ووثائق يمكن أن تبنى عليها
الرأى.
الحقيقة قد تغيب.. لكنها لا تموت ولا تسقط بالتقادم كما الجرائم!
الحقيقة يمكن أن تفقد الصوت.. لكنها تبقى خالدة.. صامدة.. حتى لو
كانت صامتة!!
التفكير الهادىء.. القرارات الواعية والدقيقة.. التقييم الموضوعى..
لا يقدر عليه أولئك الذين قال فيهم "فولتير" أنهم يمارسون "الجهل
النشيط"!! وهؤلاء لا يفكرون.. لا يقرأون.. لا تهمهم موضوعية.. كل ما يهمهم هو
التقاط ما يسقط من فم الحصان حين يأكل.. لأنهم عصافير فى أحلامهم وبما فى داخل
رؤوسهم!! وتلك واحدة من أهم سمات مجتمع "الأوف شور".. وهو مجتمع يتخلص
من الثقافة والمعرفة والفكر, باعتبارهم رجس من عمل الإنسان الذى يهمه وطنه!
تقوم فكرة "الأوف شور" على هدم المجتمع.. حرق التاريخ..
تدمير الذاكرة الوطنية.. تشويه الوعى.. وأهم أدواته هى "ماكينات الكذب والتزوير"
العملاقة التى تقنعك بأن الباطل هو الحق بعينه.. وأن الفاسد هو القائد الذى يجب أن
تتبعه.. هذه "الماكينات العملاقة" كانت تدور ضد كل ما شهدته مصر فى
الخمسينات والستينات.. ثم أصبحت تدور لصالح كل ما حدث فى السبعينات وما بعدها..
سنجد أنها بقدر ما حاولت هدم "منهج عبد الناصر" تحولت إلى بناء
"منهج السادات" الحاكم بعد – ورغم – غيابه!!
أعتمد "أنور السادات" خطة "خداع استراتيجي"
للشعب المصرى.. لأصدقائه وأعدائه.. للذين ساندوه والذين خاصموه فى حياته.. ولحظة
أن فكر فى استخدام "الخداع الاستراتيجي" مع الذين ذهب إليهم طائعا
مختارا.. كانت النهاية المأساوية.. وكم هو مدهش أن كل من ساروا على دربه, مازالوا
يمشون إلى النهاية نفسها وإن اختلف شكلها!
إذا اتفقنا على أن القضية هى "مصر" سنتخلص من مرض
"الانحياز الجاهل" لهذه التجربة أو تلك.. لهذا الحاكم أو ذاك.. فالإنصاف
يفرض انحيازا لتجربة "محمد على" رغم كل سلبياتها.. والإنصاف فرض إدانة
واجبة – ولعنات – لما فعله "الخديوى إسماعيل" مع كل ما تركه من إيجابيات
وإنجازات.. وإدانة كل من جاءوا بعده.. بداية بابنه "الخديوى توفيق"
ونهاية بحفيده "الملك فاروق" باعتباره "الولد الذى حكم مصر"!
والإنصاف جعلنا نفخر بما فعله "أحمد عرابى" و"مصطفى كامل"
و"سعد زغلول" وكل منهم يمكنك أن تأخذ عليه أخطاء.. لكنهم كانوا وطنيين
صادقين بما لهم وما عليهم.. والإنصاف يجعلنا نرى أن تجربة "أنور
السادات" قامت على منهج.. بدأ منذ تولى الحكم, واستمر بعد رحيله مع تطوير
وتعديلات فى الشكل فقط.. لكنه المنهج الذى أخذنا إلى اللحظة الراهنة!
الوثائق وحدها فيها الحقيقة.
دعك من انحناءة "أنور السادات" أمام تمثال "عبد
الناصر" يوم أن ذهب لحلف اليمين الدستورية كرئيس للجمهورية.. ودعك من أنه
أمسك "الميثاق الوطنى" وقوله أنه يحمل برنامجه ومنهجه.. فقد كانت هذه
المشاهد وغيرها, الخطوة الأولى فى تنفيذ خطة "الخداع الاستراتيجي" للذين
حوله.. والشعب المصرى.. ثم للعالم العربى كله!
تعالوا نبدأ من يوم 4 فبراير عام 1971.. لاحظ 4 فبراير.. وفيه ألقى
"أنور السادات" خطابا أمام "مجلس الأمة" الذى جعلوه
"مجلس الشعب" ثم أصبح "مجلس النواب" ويومها طرح ما تم وصفه
بمبادرة السادات.. ليعلن قبوله نداء الأمين العام للأمم المتحدة بالامتناع عن
إطلاق النار.. وقال يومها أن قبوله للنداء مشروط بفترة لا تزيد عن ثلاثين يوما
تنتهى يوم 7 مارس.. ثم أضاف نصا:
"إننا نطلب أن يتحقق فى هذه الفترة.. انسحاب جزئي للقوات
الإسرائيلية على الشاطئ الشرقي لقناة السويس، وذلك كمرحلة أولى على طريق جدول زمنى
يتم وضعه بعد ذلك لتنفيذ بقية بنود قرار مجلس الأمن.. وإذا تحقق ذلك فى هذه
الفترة, فإننا على استعداد للبدء فورا فى مباشرة تطهير مجرى قناة السويس.. وإعادة
فتحها للملاحة الدولية ولخدمة الاقتصاد العالمى"!
فى ضوء الخطاب – مبادرة السادات – رفعت الخارجية المصرية مذكرة إلى
"جونار يارنج" الأمين العام للأمم المتحدة تحمل تفاصيل رؤية
"السادات" يوم 15 فبراير عام 1971.. أى بعد أربعة شهور فقط من توليه
المسئولية.. المذكرة التى سأتوقف لقراءتها.. كنت سرية وأصبحت متاحة للإطلاع عليها
من خلال الأمم المتحدة.. فكل الوثائق المصرية محكوم عليها بالسرية لنصف قرن بقانون
صدر عام 1979.. وشملت المذكرة التزامات مصر وما تراه نحو ما يجب أن تلتزم به
إسرائيل.. المهم أن النص كله يعتمد الحديث عن دولة إسرائيل!!
حملت مذكرة الخارجية المصرية تعهدات والتزامات "الجمهورية
العربية المتحدة" وهو كان اسم الدولة آنذاك، وفيها نصا: "وقف كل
التدخلات الحربية.. احترام واعتراف كل من الطرفين – مصر وإسرائيل – بسيادة الطرف
الآخر ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي،، احترام واعتراف كل من الطرفين بحق الطرف
الآخر فى العيش الآمن داخل حدود آمنة ومعترف بها.. مسئولية كل من الطرفين عن بذل
كل ما بوسعه للسهر على ألا تكون أراضيه مصدرا أو منطلقا لأعمال حربية أو عدائية
موجهة ضد سكان ومواطنى وممتلكات الطرف الآخر.. عدم تدخل كل من الطرفين فى الشئون
الداخلية للآخر, كما أن الجمهورية العربية المتحدة تلتزم بأن.. تضمن حرية الملاحة
فى قناة السويس وفقا لاتفاقية القسطنطينية سنة 1888.. تضمن حرية الملاحة فى مضيق
تيران وفقا لمبادىء القانون الدولى.. توافق على تواجد قوة للحرص على السلام من جانب
الأمم المتحدة فى شرم الشيخ.. وأن الجمهورية العربية المتحدة لأجل ضمان الحل
السلمى لمشكلة الشرق الأوسط, وعدم انتهاك أراضى كل دولة فى المنطقة.. توافق على..
إقامة منطقة مجردة من السلاح تمتد على مسافة متساوية داخل حدود الطرفين.. إنشاء
قوة سلام للأمم المتحدة, يشترك فيها الأعضاء الأربعة الدائمون فى مجلس الأمن".
من هنا كانت بداية "منهج السادات" الذى حدد التزامات مصر.
وفى المذكرة ذاتها كانت هناك رؤية لما يجب أن تلتزم به إسرائيل..
وحملت هذه الالتزامات نصا: "يتوجب على إسرائيل الالتزام بتطبيق كافة تدابير
قرار مجلس الأمن رقم 242.. ويجب على إسرائيل التعهد بالتزام يتضمن العناصر
التالية.. سحب قواتها المسلحة من سيناء وقطاع غزة.. إجراء حل عادل لقضية اللاجئين,
وفقا لقرارات الأمم المتحدة.. وقف كل التدخلات الحربية.. احترام واعتراف كل من
الطرفين بسيادة الطرف الآخر ووحدة أراضيه واستقلاله السياسى.. احترام واعتراف كل من الطرفين بحق الطرف
الآخر فى العيش الآمن داخل حدود آمنة معترف بها.. مسئولية كل من الطرفين عن بذل ما
بوسعه للسهر على ألا تكون أراضيه مصدر أو منطلق أعمال عدوانية ضد سكان ومواطنى
وممتلكات الطرف الآخر.. أن توافق إسرائيل لأجل ضمان الحل السلمى لمشكلة الشرق
الأوسط, وعدم انتهاك أراضى كل دولة فى المنطقة على الآتى.. إقامة مناطق مجردة من
السلاح تمتد على مسافة متساوية داخل حدود الطرفين.. إنشاء قوة سلام للأمم المتحدة
يشترك فيها الأعضاء الأربعة الدائمون فى مجلس الأمن.. وحينما تتقيد إسرائيل بهذه
الالتزامات.. فإن الجمهورية العربية المتحدة, ستكون مستعدة لعقد معاهدة سلام مع
إسرائيل"!!
تسلمت الأمم المتحدة نص هذه المذكرة يوم 1 فبراير عام 1971.
الذين يصدمهم كلام "أنور السادات" الذى قاله فى مجلس
الأمة يوم 4 فبراير 1971.. ثم يأخذهم الدوار بعد قراءة نص مذكرة الخارجية
المصرية.. قد يرى بعضهم أن هذا كان جزء من الخداع الاستراتيجي للأعداء.. ويرى
البعض أنه كان خداع استراتيجي للشعب المصرى وشركاء "السادات" فى الحكم
قبل أن يهل يوم 15 مايو 1971, ويتمكن من التخلص من الذين أسماهم "مراكز القوى".. وهنا يجب أن نفتح قوس
لنقول أن تعبير "مراكز القوى" أطلقه "جمال عبد الناصر" فى بيان "30
مارس" وهو مكتوب ولا يمكن شطبه.. وللذين يبحثون عن المعرفة, العودة إلى هذا
البيان وقراءته.. لأنه البيان الذى ذكر أيضا تعبير "سيادة القانون"
وتناول بالتفصيل ملامح "الدستور الدائم" والمفترض الشروع فى صياغته
وإقراره.. وشاء القدر أن يصدر عام 1971 بعد رحيل من وضع ملامحه!!
كانت مبادرة السلام التى أعلنها "أنور السادات" بعد شهور
أربعة من توليه المسئولية, تحمل الإطار العام لمنهج الحكم الجديد.. وكانت مذكرة
الخارجية – ومازالت – سرية!! وكانت مفاجأة لأعدائه.. وفاحت رائحتها داخل مصر..
تسبب ذلك فى انفجارات وتحولات خطيرة وعنيفة داخل المجتمع المصرى.. ظهرت المقاومة
التى ربما تكون غابت عن الذاكرة.. وبدأ التمهيد لبناء أركان نظام ما بعد ثورة 23
يوليو.. كان لابد أن يتوازى مع هذا الطرح السياسي.. طرحا اقتصاديا يختلف جذريا مع
ما كان قائما وأخذت به مصر فى زمن "عبد الناصر" وكشف ذلك "على
صبرى" نائب رئيس الجمهورية بعد عزله.. وخلال محاكمته قال فى التحقيقات أنه
ولا الحكومة ولا البرلمان ولا أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي
كانوا يعلموا شيئا عن المبادرة التى أعلنها السادات.. ولا عن مذكرة بعثت بها مصر
للأمم المتحدة.. ومعلوم بالضرورة أن إقالة "على صبرى" من منصبه تم
إعلانها قبل ساعات من استقبال "السادات" لوزير الخارجية الأمريكي
"وليم روجرز" ثم كانت أحداث "حركة 15 مايو" التى جعلوها
"ثورة" بعد ذلك ولم يبق منها غير "كوبرى" ومدينة تحمل التاريخ
نفسه ضمن مدن المجتمعات الجديدة بعد ضاحية "حلوان".. وحتى تنطلى خطة
"الخداع الاستراتيجي" أستقبل "السادات" بعدها بأيام الرئيس
السوفيتى "بودجورنى" ووقع معه "معاهدة صداقة" يوم 27 مايو
1971..
وصدر على عجل "قانون الاستثمار العربي والأجنبي" ليرتج
المجتمع بعنف.. فالذين أسعدهم رحيل "عبد الناصر" ارتفعت أصواتهم, لأن
"أنور السادات" أرسل إشارته تجاههم.. بل قل وسطاءه ورسله, ليكونوا عونا
وشركاء فى تنفيذ "المنهج الجديد"..
يتبع
0 تعليقات