نصر القفاص
يكتب الزعيم السوفيتى "بريجينيف" رسالة إلى الرئيس
"السادات" مستفسرا عما يحدث فى مصر: "إلى أين تتجه مصر؟! إلى أين
تساق بأيدي قوى من داخلها وخارج حدودها؟!
ما الذى ستكون عليه العلاقات بيننا فى المستقبل؟! وهذه أسئلة تثير
قلق أصدقائكم وتقدم التشجيع لأعدائكم.. إننا نتطلع إلى أجوبة على هذه الأسئلة,
ونأمل أن تكون الإجابة بكل صراحة" وضمن الرسالة يذكره الزعيم السوفيتى, بأنه
سبق أن تحدث إليه مرات عن النشاطات المتزايدة للقوى الرجعية داخل مصر, وجهود القوى
اليمينية متحالفة مع الاستعمار لوقف زحف مصر على الطريق التقدمى"!!
لم يرد "السادات" على الرسالة.. فقد فهم منها أن أوراقه
باتت مكشوفة أمام السوفيت!
أعلنت جامعة "الأزهر" انضمامها لجامعة
"القاهرة" بعد أن أعلنت الحكومة رفع شعار "كل شيء من أجل
المعركة".. وأكدت الحكومة على تخفيض نفقات العلاقات العامة والدعاية فى
الوزارات.. وتحديد اعتماد وقود سيارات الحكومة.. تقييد سفر المسئولين إلى الخارج,
وإلغاء امتيازاتهم المجانية.. تخفيض عدد التليفونات فى الوزارات وإخلاء ثلاثة آلاف
شقة زائدة عن حاجة الحكومة!!
الجامعة تغلى لأسباب وطنية وسياسية.. الحكومة تعلن قرارات
اقتصادية, هدفها حشد جموع المواطنين ضد الطلاب.. "السادات" يقول سرا
لقادة "الاتحاد السوفيتى" أنه يعانى من قوى اليمين المتحالف مع
الاستعمار.. وهم يرصدون اتصالاته مع الأمريكان عبر السعودية.. يسألونه فلا يرد
عليهم.. يتهم الطلاب والعمال بأنهم شيوعيون.. تدخل جامعة "الأزهر" على
الخط اعتبارا من 20 يناير 72.. يطالبون بالذهاب إلى معركة تحرير الأرض.. يرفضون كل
أشكال المساومة ومبادرات التنازل عن الحقوق.. يرفعون رايات التحدى للولايات
المتحدة ويطلبون ضرب مصالحها فى مصر والمنطقة.. يعلنون أن أمريكا هى العدو الأول
للبلاد.. يخرج طلاب جامعة "القاهرة" إلى الشوارع ويتجمعون فى ميدان
التحرير.. تدور بينهم وبين رجال الشرطة عمليات كر وفر, حتى استقروا فى الميدان يوم
25 يناير عام 1972.. يتم الإعلان عن اعتقال ألف طالب.. يلقى الرئيس
"السادات" خطابا يعلن فيه الإفراج عن الطلاب المقبوض عليهم, ما عدا
ثلاثين طالبا.. تنشر الصحف بيانا لوزارة الداخلية بحظر المظاهرات.
مفاجأة.. تصدر ثلاث نقابات مهنية بيانات تأييد للطلاب!
صحف يوم 25 يناير تحمل بيانا عن "نقابة الصحفيين" جاء
فيه:
"إن حركة الطلاب جزء من ثورة 23 يوليو, وإنها تركز على مواثيق
الثورة بداية من الميثاق ومرورا ببيان 30 مارس وصولا إلى برنامج العمل الوطنى الذى
قدمه السادات يوم 23 يوليو 1971" وأغفل البيان الإشارة إلى 15 مايو كحركة أو
ثورة للتصحيح!! وركز بيان "نقابة المحامين" على أن: "الأمة العربية
ليس أمامها غير الكفاح المسلح.. ورفض أية اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع
الولايات المتحدة الأمريكية".. وشجب البيان محاولات التشكيك فى موقف الاتحاد
السوفيتى كصديق لمصر.. واعتبر البيان أن أمريكا هى العدو الرئيسى للأمة العربية,
وطالب بحرب تحرير شاملة يشارك فيها الشعب إلى جانب القوات المسلحة.. ووجه بيان
"نقابة المعلمين" كلامه إلى الطلاب: "نبارك صيحتكم ونستجيب
لندائكم.. ونؤمن بأن ثورتكم صادرة عن قلوب حانية على مصير مصر"! وبعد أيام..
فى 11 فبراير.. صدر بيان عن "نقابة المهندسين" يعلن تأييد حركة الطلاب.
أدرك "السادات" أن الجامعات والنقابات هى أهم مصادر
إزعاجه.
قرر تفويض جماعة "الإخوان" بأمرهما.. وقد كان!!
كان انتصار أكتوبر كفيل بإعادة ضبط البوصلة.. لكن العكس تماما حدث!!
ذهبت مصر إلى السلام.. وفتحت أبواب "الأوف شور" على
مصراعيها.. وبقيت مفتوحة!
بقى "منهج الخداع الاستراتيجي" مستمرا دون مقاومة.. كما
حدث فى مطلع السبعينات.
الحقيقة أن "عبد الناصر" رحل وترك مجتمعا متماسكا.. ترك
مؤسسات ثقافة وأجهزة إعلام قادرة على الفعل الإيجابي داخل وخارج مصر.. ترك بقايا
تنظيم سياسي استلزمت عملية تفكيكه سنوات.. وبعد إفساد من تعلموا ممارسة السياسة فى
دروبه, راحوا ينشرون الفساد السياسي الذى تعاظم واستفحل حتى سقط الجميع يوم 25
يناير عام 2011.
الوقائع والحقائق كاشفة.. فنحن حين نعود إلى سنوات الحكم بالخداع الاستراتيجي,
سنجد صورة قد تكون ملامحها اختفت من الذاكرة بفعل "ماكينات الكذب
والتزوير" وقدرة الذين يمارسون "الجهل النشيط" على التحالف مع
"رجال المال" بعد احتراق النخبة الفكرية فسادا.. أو كمدا!!.. فحين كانت
المقاومة لنظام حكم ما بعد 23 يوليو شرسة.. سنجد أن الصحافة تمكنت من مناقشة ما
حدث فى الجامعات مطلع عام 1972.. حتى ولو كان ذلك من زوايا رؤية تخدم النظام.. فقد
نظر إليها "محمد حسنين هيكل" وكان وقتها حليفا للسادات على أنها
"قضية هذا الجيل" فى مقاله "بصراحة" الذى نشرته
"الأهرام" يوم 28 يناير.. واعتبر أن المسألة صراع أجيال.. جيل يحكم
ويسيطر بقيادة السادات, وجيل باحث عن أفق بعد نكسة 1967.. وعبر "هيكل"
عن اعتقاده بأن غضب الشباب يرجع إلى روح العصر وثورة المواصلات!! وكان طبيعى أن
يتهم "موسى صبرى" الطلاب بأن هناك من يحركهم.. والمثير أن رؤية
"إحسان عبد القدوس" اتفقت مع رؤية "موسى صبرى" لكنه اختلف فى
إعلان انحيازه للطلاب ورافضا تشويههم.. وانحاز "عبد الرحمن الشرقاوى"
للطلاب معتبرا أن فعلهم يرجع لحرصهم على ثورة 23 يوليو.. بينما كان "محمد
عودة" واضحا بمقال نشرته جريدة "الجمهورية" يوم 29 يناير, عندما
اتهم المؤسسات الشعبية بالتقصير فى توعية الطلاب.. واعتمد الموقف والرؤية ذاتها
"محمد سيد أحمد" بمقال فى "الأهرام".. كان هناك تنوعا فى
الرؤى.. وكان من يحملون أمانة الكلمة, يمارسون دورهم – تأييدا أو رفضا – دون توجيه
من أجهزة أمنية أو مؤسسة سياسية!! وذلك يعتبره "السادات" يمثل عائقا
يقلل من سرعته فى الاتجاه الذى اختاره..
طلب من البرلمان تشكيل "لجنة تقصى حقائق حول تجدد التحركات
الطلابية والعمالية" فحدث ما لا يتخيله عقل!!
انتهى تقرير البرلمان إلى نتائج أمنية, بزعم أن جهات أجنبية كانت
وراء تحرك الطلاب.. وتحدث بعض النواب عن خطأ فتح أبواب التعليم الجامعى للذين
يفتقدون لأصول اجتماعية مناسبة.. والتقط "السادات" هذا الخيط ليتحدث عن
"الحقد" فى إشارة إلى صراع طبقى بين فقراء وأثرياء جدد يتم تصنيعهم منذ
اللحظة الأولى لتوليه المسئولية.. واعتبر اعتداءات طلاب يمثلون نواة الجماعات
الإسلامية على زملائهم, بأنه خروج عن "أخلاق القرية"!!
وأخذ الرأي العام إلى دروب
المؤامرة على الأخلاق والدين, وأطلق يد الأجهزة الأمنية لتتهم صحفيين وكتاب
بالمشاركة فى مؤامرات لصالح جهات أجنبية..
وتم اتهام "سمير تادروس" الكاتب الصحفى بالأخبار بأنه
كانت فى حوزته أشعار ثورية بمطار القاهرة, وقت استعداده للسفر إلى ألمانيا
الشرقية.. ليتحدث بعدها "السادات" أمام البرلمان فيقول: "ليست هناك
حرية بلا ضوابط".. ويؤكد على أن مؤسسات الدولة تحوز ثقته.. ثم يتحدث عن ضرورة
صيانة الوحدة الوطنية.. ويؤكد على ضرورة انصراف الجميع إلى الاستعداد للمعركة.
يتناول الدكتور "كمال أبو المجد" ما يحدث – وكان وقتها
وزيرا للشباب – فى مقال يوم 5 سبتمبر عام 1972 تم نشره بمجلة الشباب ليقول أن الأزمة
لها سببين..
أولهما المادية الرافضة للأديان..
وثانيهما علاج المشكلة
الاجتماعية من موقف الحقد المنفعل, وتعميق التناقضات سعيا إلى تفجير صراع!!
وفى هذا الوقت نشرت مجلة "البلاغ" الصادرة فى بيروت يوم
8 يناير عام 1973, تصريحات للرئيس الليبى "معمر القذافى" قال فيها:
"مصر على أبواب تسوية سياسية قريبة.. وليبيا تعارض هذه التسوية"!!
واعتبارا من هذه اللحظة تباعدت المسافات بينه وبين "السادات"!!
كان هناك جيل جديد من الكتاب يمثل إزعاجا شديدا لصاحب "منهج
الخداع الاستراتيجي" بينهم "محمد عفيفى مطر" و"أمل دنقل"
و"إبراهيم أصلان" و"خليل كلفت" و"جمال الغيطانى"
و"إبراهيم منصور" و"صبري حافظ" و"سيد حجاب"
و"محمود دياب" و"فاروق عبد القادر" و"صلاح عيسى"..
وأخذ هؤلاء على عاتقهم أن يحملوا رايات التنوير والمقاومة بعد نكسة
67, فأصبحوا مستهدفين طوال فترة حكم "السادات" ومنهم من استمر يقاوم..
وبعضهم هادن "المنهج" فى زمن "مبارك"!..
لكنهم كانوا يصارعون من اختاروا الدفاع عن "السادات"
ومنهجه وبينهم "صالح جودت" و"عبد العزيز الدسوقى"
و"إبراهيم الوردانى" و"سهير القلماوى" و"ثروت
أباظة".. وكلهم كانوا خلف "يوسف السباعى" وكل هذه الأسماء بأوزانها
سواء اتفقت مع أصحابها أو اختلفت ترسم صورة مجتمع ووطن كان يعيش نكسة عسكرية
ويحاول أن يتخلص من آثارها.. ويجوز مقارنتها بما وصلت إليه مصر بعد ما يقرب من نصف
قرن على أهم وأكبر انتصار عسكري, وأقل منها بقليل فى ظل السلام الذى راهن عليه
"السادات" وسار على دربه الذين جاءوا بعده.. ويجوز القياس فى كافة مناحى
الحياة.. ثم يقولون أن ثورة 23 يوليو هى التى خربت مصر, مع التجميل بالكذب لزمن
"الملكية" والتجميل بالتزوير لزمن "أنور السادات" الذى استمر
طويلا بعد رحيله!!
وضح أن مصر تعيش صراعا.. الأمل يقاوم اليأس.. التحدى يواجه الإحباط..
الإصرار على تجاوز نكسة 67 لا يقبل أى محاولة لتأجيل الحرب.. الثورة ترفض رفع
الراية البيضاء.. يجتمع عدد من الكتاب والفنانين بنقابة الصحفيين يوم 25 يناير
الصاخب.. قرروا إعلان "لجنة وطنية" أرسلت إلى رئيس الجمهورية ورئيس
الوزرا ورئيس مجلس الشعب, بأنهم سيعقدون مؤتمرا عاما للأدباء والفنانين يوم 27
يناير 1972.. وقع على البيان شباب هذا الزمان, وبينهم "أحمد عبد المعطى
حجازى" و"سمير فريد" و"عز الدين نجيب" و"فريدة
النقاش" و"رضوى عاشور" و"رأفت الميهى" و"عبد الحكيم
قاسم" و"سامى المعداوى" و"إبراهيم منصور" و"غالى شكرى"..
وأكدوا على أنه إذا كانت السلطة ترفع شعار الحرب, فالشعب لا يطلب أكثر من
التنفيذ.. وسبيل ذلك هو إعداد البلاد لمعركة مصير, فى مواجهة الاستعمار الأمريكي
والعدو الصهيونى.. وكشفوا عن أن المؤتمر سيطالب بالإفراج عن جميع المعتقلين
السياسيين, وعدم محاكمة أى طالب.. وأعلن الرفض الكامل لكافة أشكال الحل السلمى..
وتأكيد مبدأ لا صلح, لا تفاوض, لا اعتراف بإسرائيل..
وطالبوا بتصفية المصالح الأمريكية فى مصر.. وأكدوا على ضرورة تحويل
الاقتصاد المصرى, إلى اقتصاد حرب يحمل أصحاب الدخول العليا مسئوليتهم والعبء
الأكبر فى هذه الظروف..
لذلك يجب وضع حد لانفلات التفاوت فى الأجور.. ووضع سياسة إعلامية
وسياسية وثقافية تتناسب مع اقتصاد الحرب.. ورفع الرقابة على الصحافة والنشر
والمسرح والسينما والراديو والتليفزيون, إلا فى حدود ما يمس الأسرار العسكرية.
قبل موعد انعقاد المؤتمر بساعتين.. تقرر إلغاؤه من جانب الحكومة.
اتفق كبار الكتاب على أن تكون لهم كلمة.. اجتمع "لويس
عوض" مع "توفيق الحكيم" و"نجيب محفوظ" و"أحمد بهاء
الدين" و"حسين فوزى".. وأصدروا بيانا اعتبروا فيه مظاهرات الطلاب
حركة وطنية قامت من أجل مصر, وطالبوا بضرورة الحوار مع الطلبة بدلا من القمع
وتكميم الأفواه.. وأرسلوا بيانهم إلى رئاسة الجمهورية.. نشرت جريدة
"الأنوار" اللبنانية نص البيان, الذى لم ينشر فى مصر.. استشاط
"السادات" غضبا, فقرر الالتفاف والخداع!!..
يتبع
0 تعليقات