أبو أحمد المهندس
كـتــب المفكر المصري الكبير " فـؤاد زكــريا " الحاصل
على دكتوراه فلسفة من جامعة عين شمس المصرية ، في كـتـابـه المهم " خطاب الى
العقل العربي " قـائــلا :-
( فـي رأيـي أنـه إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا
واستسلامنا أمام التحديات ، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب ، مرض عربي اسمه
الطاعة!! ، إنها بغير تحفظ، رذيلتنا الأولى ، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا.…
فالأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لا تريد من المواطن إلا أن يكون
"مطيعاً" لأوامر الحاكم، وأداة "طيعة" في يده، وقد تتخذ هذه
الدعوة إلى الطاعة شكلاً سافراً، فتتولى أجهزة الإعلام المأجورة أو المنافقة تصوير
الحاكم بأنه مصدر الحكمة ومنبع القرار السديد، ومن ثم فأنه أقل ما على المواطنين
هو أن يوكلوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه،
فهو الذي يفكر بالنيابة عنهم، وهو الذي يعرف مصلحتهم خيراً مما
يعرفون، وهو الذي يعفيهم من مشقة اتخاذ أي قرار. وفي مقابل ذلك فإن أي نقد أو
اعتراض أو تساؤل يوصف بأنه "عصيان"، هو إثم لا يغتفر. فكبيرة الكبائر هي
"شق عصا الطاعة" (لاحظ الارتباط، في التعبير اللغوي التراثي، بين
"الطاعة" و"العصا"!)، وجريمة الجرائم – كما كان يؤكد دائماً
أحد الحكام العرب – هي "رذالة المثقفين"، أي مماحكاتهم وتساؤلاتهم في
الأمور التي ينبغي أن يترك زمامها للحاكم.
ولكن دعوة الحكام إلى الطاعة قد تتخذ طابعاً غير مباشر، حين يصبح
الشعار الذي يسود المجتمع هو "الاتحاد والنظام"، أو حين يطلب إلى الشعب
الاستغناء عن ديمقراطية النقد والمعارضة، والاكتفاء "بديمقراطية
الموافقة"، أو حين تخنق كل صيحة احتجاج بحجة أنه "لا صوت يعلو فوق صوت
المعركة".
على أن أشهر هذه المحاولات المستترة لتأكيد مبدأ الأمر والطاعة في
علاقة الحاكم والمحكوم هي تحويل هذه العلاقة إلى رابطة عائلية، بحيث يصبح الحاكم
"كبير العائلة"، وينظر إلى المجتمع كله على أنه "عائلة
واحدة"، أو ما يسمى – في مصطلح العلوم الاجتماعية – باسم "النظام الأبوي
أو البطريركي" (وكلمة بطريرك ... الانجليزية مشتقة من اللفظ اللاتيني باتر Pater ويعني "الأب").
ذلك لأن السمة المميزة لعلاقة رب الأسرة بأفرادها هي أن له عليهم
حق الطاعة.
وهكذا فإن الحاكم، حين يصبح "كبير العائلة" أو "رب
الأسرة الواحدة"، يطالب لنفسه بحقوق الأب!! ، الذي لا يخضع لمحاسبة أبنائه،
والذي تطاع أوامره، مهما كانت قسوتها، برضاء واختيار، والذي ينبغي أن تقابل صرامته
بالحب، لأنها تستهدف دائماً صالح "العائلة"، والأهم من ذلك أن
"الأب أو "الكبير" هو الذي جمع الخبرة والمعرفة والرأي السديد، وكل
من عداها أقل منه قدرة، ومن ثم ينبغي أن يترك القرار له وحده، وعلى الآخرين أن
يسعدوا ببقائهم في الظل. حتى لو بدا أن في قراراته ظلماً أو عدواناً، فإن ذلك يرجع
إلى جهلهم بمصالحهم الحقيقية، التي يعرفها "الرجل الكبير" خيراً من أي
فرد من أفراد "الأسرة"!!!
وهكذا ففي كل مجال من مجالات الحياة يجد الإنسان العربي مبدأ
الطاعة مفروضاً عليه، يدفعه إلى المسايرة والخضوع والاستسلام، ويقضي على كل
إمكانات التفرد والتمرد في شخصيته.إن الطاعة تحاصرنا من كل جانب، وتلازمنا في جميع
مراحل حياتنا، وتفرض نفسها حتى على من يدعون "الثورية" في مجتمعاتنا.
على أنك حين تطيع، لا تكون ذاتك، بل تمحو فرديتك وتستسلم لغيرك.
وأكاد أقول إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن
يكونوا "مطيعين": فالمصلحون الذين غيروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما
تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء
السائدة عن العلم في عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التي
كان يسير عليها أسلافهم.
وهكذا ، فمع كل شيء عظيم أنجزته البشرية كان مقترناً بقدر من
التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة. وأكاد أقول إن الإنسان لم يكتسب مكانته في
الكون إلا لأنه رفض أن "يطيع" الطبيعية ويستسلم – كما تفعل سائر
الكائنات الحية – لقواها الطاغية. وهكذا فإن الإنسان الذي يعرف معنى وجوده هو ذلك
الذي يهتف في اللحظات الحاسمة من حياته: أنا متمرد إذاً أنا موجود. )!!!
0 تعليقات