آخر الأخبار

نظرة في العلاقات الإثيوبية – الصينية

 





 

أحمد هراد

كاتب وباحث في شؤون القرن الأفريقي

 

لم تكن العلاقات بين إثيوبيا والصين وليدة خروج الصين إلى العالم في العصر الحديث، بل كانت جذورها التاريخية ممتدة إلى ما قبل الميلاد مثلما ذكرت سجلات أسرة الهان التي حكمت الصين في القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت هذه العلاقات في جلها تجارية مرتكزة على تبادل السلع بين الطرفين، واستمرت هذه العلاقات إلى العصور الوسطى بدون انقطاع.


أما العلاقات بين الطرفين في العصر الحديث فقد مع الغزو الإيطالي لإثيوبيا، حيث كانت الصين واحدة من خمس دول في العالم فقط التي لم تعترف بالحكومة الفاشية التي أعلنت في اديس أبابا في 1936م، ولكن بسبب الضغوط الأميركية والغربية لم تتمكن إثيوبيا من إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الصين بعد الغزو وصولا إلى 1970م حينما تبنى الإمبراطور هيلاسيلاسي الأول سياسة دبلوماسية جديدة وبناءة تجاه الصين، وذلك في الاعتراف بها ودعم حكومة الصين الشعبية في الحصول على مقعد في الأمم المتحدة، ثم عُطفت بزيارة الإمبراطور للصين في 1971م، وفي المقابل أوقفت الصين دعمها العسكري للفصائل الإريترية الانفصالية والتي بدأت بشكل رسمي في 1967م



لم تتطور العلاقات بين البلدين بعد زيارة الإمبراطور كثيرا إلا بعد سقوط النظام الملكي بيد مجموعة ضباط إثيوبيين – الديرغ – في سبتمبر 1974م وإعلان أن إثيوبيا دولة اشتراكية، ولكن هذه الانفراجة في العلاقات سرعان ما تدهورت بسبب ميل الديرغ إلى خط الاتحاد السوفييتي في الاشتراكية -الإشتراكية اللينينية – الستالينية – في الوقت الذي انقسم فيه المعسكر الشيوعي بين موسكو وبكين، وهو ما أدى إلى دعم الصين لكل من جمهورية الصومال والثوار الإريتريين ابتداء من الحرب الإثيوبية – الصومالية في 1977-1978 وصولا إلى الثمانينيات من القرن الفائت.




العلاقات الإثيوبية – الصينية بعد 1991م



شهدت العلاقات بين إثيوبيا والصين تحسنا كبيرا مع سقوط نظام منغستو هيلامريام واستلام جبهة تحرير تيغراي TPLF للسلطة في أديس أبابا في مايو 1991م، حيث قامت الصين بدعم إثيوبيا في العديد من المشاريع التنموية، مثل تدشين الطرق والجسور وإقامة مشاريع للري والمياه والسدود والاتصالات وغيرها وصولا إلى الدعم العسكري المتمثل في تقديم الأسلحة لإثيوبيا في الحرب الإثيوبية – الإريترية 1998-2000م.


كانت سياسة الصين تجاه إثيوبيا ضمن رؤية صينية شاملة للقارة الأفريقية المرتبط بمشروعها الكبير طريق الحرير الجديد المعروف باسم مبادرة الحزام والطريق –
Belt and road Initiative -، وكانت هذه المقاربة تعتمد على خطة من أربعة شعاب غطت الاستثمارات الصينية في:


المجال الاقتصادي وذلك بتوفير القروض والمنح وتقديم الاستثمارات للدول الأفريقية.

 

المجال الأيديولوجي وذلك من خلال تلميع النموذج الصيني في الإصلاح الاقتصادي والتنمية الذي يقوم به نظام الحزب الواحد والعمل على تسويقه.

 

المجال السياسي من خلال السعي لاكتساب دعم الدول الأفريقية وأصواتها لصالح السياسة الصينية الخارجية في محافل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية.

 

المجال الأمني من خلال توفير الحماية والأمن للمواطنين الصينيين في الخارج خصوصا في البلدان والأقاليم المتلهبة بالإضافة توسيع نشاطها في الأمن العالمي.

 

رأت الصين أن إثيوبيا وما تمثله من ثقل سياسي ودبلوماسي كبير في القارة الأفريقية كونها عاصمة الدبلوماسية في أفريقيا ومقر الاتحاد الأفريقي بالإضافة إلى ضخامة سوقها هي الأنسب لتطبيق مقاربتها، لذا بعد أن تم تأسيس منتدى التعاون الصيني – الأفريقي COCAF في بكين، كانت أديس أبابا هي أول عاصمة استضافت اللقاء الثاني للمنتدى في 2003م، وبدأت القروض والمنح الصينية بالتدفق على إثيوبيا بالإضافة إلى تقاطر الشركات الصينية على البلاد لإنجاز المشاريع التنموية في كافة المجالات، فبلغ عدد الشركات الصينية في إثيوبيا في ذورتها إلى ما يقارب سبعين شركة قامت بتدشين 1564 مشروع في كافة المجالات في الفترة ما بين 1998-2020م، تم خلالها إنجاز 987 مشروع، و 186 مشروع مازال قيد التنفيذ، في مقابل 391 مشروع في مرحلة الإعداد، وبلغت حجم الصادرات الصينية إلى إثيوبيا إلى 2.3 مليار دولار 2020م.


كانت حصيلة هذه المشاريع التنموية طوال العقدين الفائتين أن أصبحت إثيوبيا مثقلة بالديون الصينية، حيث بلغت الديون المعلنة والمباشرة ما يقارب 16 مليار دولار أي ما يعادل نصف حجم ديون الإجمالية لإثيوبيا، وهو ما دعى أن توصف جريدة الوول جورنال ستريت العلاقة بين البلدين، بأن نفوذ الصين على إثيوبيا ساحق.





العلاقات في عهد آبي أحمد



لم يخف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد امتعاضه من تركة الديون الصينية التي كبلت الاقتصاد الإثيوبيفور استلامه السلطة في أبريل 2018م، حينما قال أن هذه الديون أصبحت مُفسدة وأيضا مدمرة للاقتصاد الاثيوبي، لذا بدأت حكومة آبي أحمد في الحد من الاستدانة من الصين والاتجاه إلى الغرب، الذي هرع بتقديم مساعدات مالية قدرت بتسعة مليارات دولار لإسعاف الاقتصاد الإثيوبي وذلك من خلال المنح المباشرة للدول الغربية والحليفة أو من خلال صندوق النقد الدولي، هدفت إلى جذب إثيوبيا تجاه المعسكر الغربي في وقت يشهد فيه العالم استقطابا واضحا بين الغرب من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى.


ولكن سرعان ما انتهت هذه العلاقات الدافئة بين الغرب وإثيوبيا مع اندلاع أزمة تيغراي وظهور التباين الحاد بين المواقف في أديس أبابا والعواصم الغربية، نتيجة الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت إثناء عملية إنفاذ القانون التي قامت بها الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في الرابع من نوفمبر 2021م، وهو ما أدى امتعاض إثيوبيا من تلك المواقف التي رأتها تدخلا صارخا في الشؤون الداخلية الإثيوبية.


لم تكن الصين بمنأى عن تبعات أزمة تيغراي في شمال إثيوبيا، فالعديد من المشاريع الصينية قد توقفت بسبب اندلاع الحرب في شمال البلاد، حيث اضطرت الصين إلى إجلاء المئات من مواطنيها من إقليم تيغراي، فشركة الصين- جزهوبو
China-Gezhoubo المحدودة قامت بإجلاء 402 عاملا من إحدى المشاريع بالقرب من مقلي عاصمة الإقليم، وكذلك أجلت شركة كامك CAMC الهندسية 187 عاملا، وهو ماجعل الصين تشعر بقلق عارم حيال المشاريع التي لم تنجز بعد وأيضا حيال الخطط التي رسمتها للسنوات القادمة في ضخ ما يقارب 2.7 مليار دولار على شكل مشاريع تنموية في إثيوبيا.


ولكن من الناحية السياسية والدبلوماسية، قامت الصين بالتوافق مع روسيا والهند باعتراض مساعي مجلس الامن في الأمم المتحدة لإصدار قرار لوقف الحرب في إقليم تيغراي وإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في الخامس من مارس 2021م، وهو ما استحسنته الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا وترجمته فورا بعد يومين في توقيع مذكرة تفاهم من الحكومة الصينية تتعلق بتوفير الحماية الأمنية للمشاريع الصينية في البلاد.


أما فيما يتعلق في ملف سد النهضة، فالبرغم من الحديث المتكرر عن دور صيني محتمل يخدم الموقف الإثيوبي والإشارة المباشرة لعدد من الشركات الصينية بعينها، إلا أن هذا الحديث لا يعدو كونه جزء من الحرب الإعلامية بين الدول المتنازعة حول الملف، لأن سياسة الصين الخارجية الثابتة تعارض بشكل عملي هذه الاتهامات، فقد أظهرت الصين موقفها المحايد في النزاعات بين الدول، خصوصا أن الصين لم تستثمر في إثيوبيا فقط، بل أيضا في دولتي المصب مصر والسودان، فالبنوك الصينية تقوم بتمويل 85% من مشروع تشييد العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، بالإضافة إلى تزايد حجم الاستثمارات الصينية في مصر والتي بلغت 7 مليار دولار في السنوات الخمسة الفائتة، وكذلك قامت بتشييد ميناء حيدوب في السودان والمخصص لتصدير الثروة الحيوانية بقيمة 141 مليون دولار إلى جانب العديد من مشاريع التعدين والزراعة والبترول، علاوة على عدم توقيع الصين على أي اتفاقية مائية مع الدول المصب التي تتشارك معها في الانهار وهو ما يجعل سياسة الصين الحيادية حيال أزمة سد النهضة محدودا للغاية.





مستقبل العلاقات بين البلدين



إذا نظرنا للأوضاع الدقيقة التي تمر إثيوبيا في العديد من الملفات الراهنة، وفقدان الحكومة الفيدرالية التأييد الغربي في منحاها في أزمة تيغراي، ثم ازدياد حدة التباعد بين الطرفين حينما لجأت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على المسؤولين إثيوبيين، بالإضافة إلى تلويحها بتجميد عضوية إثيوبيا في القانون الأميركي لفرص التنمية الأفريقية AGOA، فإننا قد نستطيع تفهم عودة الدفء في العلاقات بين أديس أبابا وبكين بالتزامن مع انجذاب إثيوبيا إلى روسيا من خلال توقيعها تعاونا عسكريا مع موسكو في الثاني عشر من يوليو 2021م، فقد تكون هذه الخطوات مبررة في عالم السياسة، ولكن ورغم تظاهر الغرب بالصمت – بشكل رسمي – من هذا التقارب إلا أن دوائر صنع القرار في الولايات لم تخفي قلقها، مثلما صرح السفير الأميركي السابق لإثيوبيا ديفيد شين بوضوح في تغريدة له ” أن إثيوبيا تقترب من الصين وتبتعد عن الولايات المتحدة ” في تعليقه على خبر في صحيفة زينهوا Xinhua الصينية قبل عدة أيام، فالغرب مدرك تماما للثقل السياسي الكبير الذي تتمتع به إثيوبيا باعتبارها الدولة الأكبر في القرن الأفريقي بالإضافة إلى ثقلها في القارة الأفريقية، والذي قد تخسره لصالح الصين.



أما من الناحية الصينية، فعودة العلاقات بين البلدين هو انتصار للصين على حساب الغرب – الذي نجح انتزاع أديس أبابا من فلك بكين بشكل مؤقت-، بالإضافة إلى كونها مكسبا اقتصاديا كبير لمشروع الصين العظيم ” مبادرة الحزام – الطريق “، ومكسب جيوسياسي مهم لأن الصين ستكون قد كسبت ثلاث دول من أصل أربعة من القرن الأفريقي المكون من إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي.


أخيرا
، متابعة شخصية الدكتور آبي أحمد وعلاقاته المتشابكة مع الغرب تثبت أنه غربي الهوى بإمتياز، وهو ما قد يحصر فهم انجذاب الحكومة الفيدرالية الأخير نحو الشرق في إطار الاضطرار والضرورة والقلق التي تعيشه أديس أبابا، وهذه السياسة الخارجية التي تتشكل في إثيوبيا الآن ليست بجديدة، فالرئيس الأسبق منغستو هيلاميريام كان غربي الهوى في بداية الثورة قبل أن يولي وجهه شطر الاتحاد السوفييتي، ولكن الحرب الباردة التي نشهد بوادرها بين الشرق والغرب الآن قد تكون مختلفة بشكل كبير عن الحرب الباردة في القرن الماضي، فالصين قد بدأت بالفعل في الضغط على إثيوبيا في ملف الديون، حيث قام بنك إكزم بنك EximBank الصيني بحجز ما يقارب 340 مليون دولار كانت مقررة لتمويل بعض المشاريع في إثيوبيا في السادس عشر من أغسطس 2021م، وذلك للضغط على الحكومة الفيدرالية لدفع مستحقاتها المالية، على الرغم من ضغط نادي الدائنين – كلوب دو باريس – على الصين للانضمام إلى إطار مجموعة العشرين G20 لتخفيف عبء الديون على الدول الفقيرة، فلذا يجب أن تعي الخارجية الإثيوبية أن الصين ليست الاتحاد السوفييتي وإن تشابهت الظروف الدولية والداخلية.



 

إرسال تعليق

0 تعليقات