أبو أحمد المهندس
كـتب الفيلسوف الإسلامي الكبير بـاقر الـصدر ( رحمه الله ) مقالة تحت
عنوان ( ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي )، جــاء فـيها :-
( عـلينا في البـدأ ونحن نتحدث عن شمول الشريعة للاقتصاد الإسلامي
، ان نعرف اننا نتحدث عن مذهب اقتصادي ، وليس علماً للاقتصاد. فنحن حين نقول : ان
الإسلام جاء بمذهب اقتصادي ، لا نحاول ان نزعم ، ان الإسلام جاء بعلم الاقتصاد.
وذلك ان الإسلام ، لم يجئ ليكتشف أحداث الحياة الاقتصادية ، وروابطها وأسبابها
وليس من مسؤولياته ذلك. كما ليس من مسؤوليته ، ان يكشف للناس قوانين الطبيعة ، او
الظواهر الفلكية ، وروابطها وأسبابها. فكما لا يجب ان يشتمل الدين ، على علم الفلك
، وعلوم الطبيعة كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد.
وإنما جاء الإسلام ، لينظم الحياة الاقتصادية ، بدلاً عن كشفها. ويضع
التصميم ، الذي ينبغي أن تنظم به ، وفقاً لتصوراته عن العدالة. فالاقتصاد الإسلامي
، يصور وجهة نظر الإسلام عن العدالة وطريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية ، ولا
يعبر عن كشوف علمية ، لروابط الحياة الاقتصادية ، وعلاقاتها ، كما يجري الواقع.
وهذا معنى ، كون الاقتصاد الإسلامي مذهباً لا علماً.
وبتعبير آخر : لو أن الإسلام ، جاء ليحدثنا عن الحياة الاقتصادية
في الحجاز ، وما هي الأسباب التي تؤدي في المجتمع الحجازي ، مثلاً ، الى ارتفاع
سعر الفائدة الربوية ، التي يتقاضاها المرابون ، لكان حديثه علمياً ، ومن علم الاقتصاد.
ولكنه بدلاً عن ذلك ، جاء ليقيم نفس الفائدة الربوية ، فحرمها ونظم العلاقة بين
رأس المال ، وصاحب المشروع ، على أساس المضاربة ، بدلاً عن الربا والفائدة. وبذلك
، كان الإسلام يتخذ في اقتصاده الموقف المذهبي ، لا العلمي.
ونحن ، اذا عرفنا بوضوح ، طبيعة الاقتصاد الإسلامي وكونه مذهباً
اقتصادياً ، لا علماً للاقتصاد ، أمكننا أن ندحض أكبر العقبات ، التي تحول دون
الاعتقاد ، بوجود اقتصاد في الإسلام. وهذه العقبة الكبيرة ، التي يستند اليها كثير
من الناس لرفض الاقتصاد الإسلامي ، نشأت من عدم التمييز ، بين علم الاقتصاد والمذهب
الاقتصادي. فان هؤلاء الذين لم يتح لهم التمييز بين العلم والمذهب ، اذا سمعوا
شخصاً يقول : ان في الإسلام اقتصاداً ، يبادرون قائلين : وكيف يمكن أن يكون في
الإسلام اقتصاد ؟ ونحن لا نجد فيه بحوثاً ، كالبحوث التي نجدها عند علماء الاقتصاد
، كآدم سميث ، وريكاردو ، وغيرهما. فالإسلام لم يحدثنا عن قانون الغلة المتناقصة ،
ولا عن قوانين العرض والطلب ، ولم يأت بقانون ، يناظر القانون الحديدي للأجور ،
ولم تؤثر عنه فكرة ، عن تحليل القيمة ودرسها علمياً كما درسها علماء الاقتصاد.
وكيف يطلب منا أن نصدق بالاقتصاد الإسلامي ، ونحن جميعاً نعلم بأن بحوث علم
الاقتصاد انما نشأت وتكاملت خلال القرون الأربعة الأخيرة على يد رواد الفكر
الاقتصادي الأوائل كآدم سميث ، ومن سبقه من التجاريين والطبيعيين. يقول المنكرون
للاقتصاد الإسلامي كل هذا ، ظناً منهم بأنا ندعي قيام الإسلام ، بالبحث العلمي في
الاقتصاد.
وأما بعد ان نعرف الفرق ، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ،
وان الاقتصاد الإسلامي ، مذهب وليس علماً. فلا يبقى موضع لكل ذلك القول ، لان وجود
المذهب الاقتصادي في الإسلام ، لا يعني تحدث الإسلام الى الناس ، عن قوانين العرض
والطلب ، بل يعني ان الإسلام ، دعا الى تنظيم متميز للحياة الاقتصادية ، وحدد ما
ينبغي ان تقام عليه تلك الحياة من أسس ودعائم.
ويبدو الايمان ، بوجود الاقتصاد الإسلامي ، على هذا الضوء أمراً
معقولا ، ولا غرابة فيه. ان شمول الشريعة واستيعابها ، لجميع مجالات الحياة ، من
الخصائص الثابتة لها ، لا عن طريق تتبع أحكامها ، في كل تلك المجالات فحسب ، بل عن
طريق التأكيد على ذلك ، في مصادرها العامة أيضاً. فنحن نستطيع ، ان نجد في هذه
المصادر نصوصاً تؤكد بوضوح ، على استيعاب الشريعة ، وامتدادها الى جميع الحقول ،
التي يعيشها الإنسان ، واغتنائها بالحلول لجميع المشاكل التي تعترضه في شتى
المجالات.
لاحظوا على سبيل المثال ، النصوص التالية :
1 ـ روى أبو بصير ، عن الإمام الصادق (ع) ، انه تحدث عن الشريعة
الإسلامية ، واستيعابها ، وإحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها. فقال : فيها كل
حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج الناس إليه ، حتى الارش في الخدش. وضرب بيده الى أبي
بصير ، فقال : أتأذن لي يا أبا محمد ؟ فقال له أبو بصير : جعلت فداك ، انما أنا لك
، فاصنع ما شئت. فغمزه الإمام بيده وقال : حتى أرش هذا!
2 ـ وعن الإمام الصادق (ع) ، في نص آخر ، انه قال : فيها كل ما
يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية ، إلا وهي فيها حتى ارش الخدش. ( أي الغرامة التي
يدفعها الشخص الى آخر اذا خدشه ).
3 ـ وفي نهج البلاغة ، ان أمير المؤمنين علياً عليه السلام قال يصف
الرسول (ص) ، والقرآن الكريم :
أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأمم وانتقاص من
المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن ،
فاستنطقوه ، ولن ينطق ؛ ولكن أخبركم عنه ، الا ان فيه ما يأتي ، والحديث عن الماضي
، ودواء دائكم؛ ونظم ما بينكم.
ان هذه النصوص ، تؤكد بوضوح ، استيعاب الشريعة لمختلف مجالات
الحياة. واذا كانت الشريعة ، تضمن الحلول حتى لأتفه المشاكل وحتى لارش الخدش ، ـ
أي الغرامة التي يجب على الإنسان دفعها الى الآخر ، اذا خدشه ـ ، فمن الضروري ،
حتماً ، بمنطق تلك النصوص ، أن تكون في الشريعة ، حلول للمشاكل الاقتصادية وطريقة
لتنظيم الحياة ، في الحقل الاقتصادي. والا فأي معنى لاستيعاب الشريعة وشمولها ،
اذا كانت تغفل جانباً من أهم جوانب الحياة ، وأوسعها ، وأكثرها أهمية وتعقيداً.
هل تتصور أن الشريعة ، تحدد الغرامة التي من حقك الحصول عليها ،
اذا خدشك شخص خدشاً بسيطاً ، ولا تحدد حقك في الثروة المنتجة ، ولا تنظم طريقة
اتفاقك مع عمالك او مع الرأسماليين ، في مختلف ألوان العمل ، التي تحتاج فيها الى
عامل ، أو رأسمالي.
وهل من المعقول ، ان تحدد الشريعة ، حقك حين تخدش ولا تحدد حقك ،
حين تحيي أرضاً ، او تستخرج معدناً ، أو تستنبط عين ماء ، أو تستولي على غابة.
وهكذا نعرف ان من يؤمن بالشريعة ومصادرها ، ونصوصها يستنتج من تلك
النصوص ، علاج الشريعة ، للمشاكل الاقتصادية وتنظيمها للحقل الاقتصادي ، وبالتالي
وجود اقتصاد إسلامي يمكن استخلاصه من الكتاب والسنة.
وفي ضوء تلك النصوص ، يعرف القارئ ، خطأ القول الشائع ، عند البعض
، بأن الشريعة تنظم سلوك الفرد ، لا المجتمع ، والمذهب الاقتصادي ، تنظيم اجتماعي
، فهو خارج عن نطاق الشريعة ، التي تقتصر في تشريعها ، على تنظيم سلوك الفرد فحسب.
ان النصوص السابقة ، تبرهن على خطأ هذا القول ، لأنها تكشف ، عن
امتداد الشريعة ، الى كل ميادين الحياة ، وتنظيمها للمجتمع والفرد على السواء.
والحقيقة ، أن القول بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد لا المجتمع ،
يتناقض مع نفسه ، إضافة الى اصطدامه بتلك النصوص لأنه حين يفصل سلوك الفرد ،
وتنظيمه ، عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير ، من ناحية ، ان النظام الاجتماعي ،
لأي جانب من الجوانب العامة في المجتمع ، سواء كان اقتصادياً ، أم سياسياً ، أم
غير ذلك ، يتجسد في سلوك الفرد ، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد ، بصورة منعزلة عن
تنظيم المجتمع.
خذ اليك النظام الرأسمالي ، بوصفه تنظيماً اجتماعياً ، فانه ينظم
الحياة الاقتصادية ، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية وهذا المبدأ يتجسد في سلوك
الرأسمالي ، مع العامل ، وطريقة إبرامه معه عقد العمل ، وفي سلوك المرابي ، مع
زبائنه ، الذين يقرضهم بفائدة ، وطريقة إبرامه معهم عقد القرض. وهكذا كل تنظيم
اجتماعي ، فانه يتصل بسلوك الفرد ، وينعكس عليه ويتجسد فيه.
فاذا كانت الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، فلها طريقتها اذن ، في
تنظيم سلوكه ، حين يقترض مالاً ، أو حين يستأجر عاملاً ، او حين يؤجر نفسه ، وهذا
يرتبط حتماً ، بالتنظيم الاجتماعي. فكل فصل بين سلوك الفرد والمجتمع في التنظيم ،
يحتوي على تناقض.
فما دمنا نعترف ، بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، وان كل فعل من
أفعال الإنسان ، له حكمه الخاص ، في الشريعة. ما دمنا نعترف بذلك ، فلا بد ان
ننساق مع اعترافنا الى النهاية ونؤمن بوجود التنظيم الاجتماعي في الشريعة.
ولا أدري ، ماذا يقول هؤلاء الذين يشكون في وجود اقتصاد إسلامي ،
او علاج للمشاكل الاقتصادية في الإسلام. ماذا يقولون عن عصر التطبيق في صدر
الإسلام ؟
أفلم يكن المسلمون ، يعيشون في صدر الإسلام ، بوصفهم مجتمعاً له
حياته الاقتصادية ، وحياته في كل الميادين الاجتماعية ؟
أفلم تكن قيادة هذا المجتمع الإسلامي ، بيد النبي والإسلام.
أفلم تكن هناك حلول محددة ، لدى هذه القيادة ، يعالج بها المجتمع ،
قضايا الإنتاج والتوزيع ، ومختلف مشاكله الاقتصادية ؟
فماذا لو ادعينا ، أن هذه الحلول ، تعبر عن طريقة الإسلام في تنظيم
الحياة الاقتصادية ، وبالتالي عن مذهب اقتصادي في الإسلام ؟.
نحن اذا تصورنا ، المجتمع الإسلامي على عهد النبي (ص) فلا يمكن أن
نتصوره ، بدون نظم اقتصادي ، اذ لا يمكن أن يوجد مجتمع ، بدون طريقة يتبناها ، في
تنظيم حياته الاقتصادية وتوزيع الثروة بين أفراده.
ولا يمكن ان نتصور النظام الاقتصادي ، في مجتمع عصر النبوة ،
منفصلاً عن الإسلام ، وعن النبي ، بوصفه صاحب الرسالة الذي يتولي تطبيقها. فلا بد
ان يكون النظام الاقتصادي ، مأخوذاً منه ، قولاً او فعلاً او تقريراً ، أي مأخوذاً
من نصوصه وأقواله أو من أفعاله ، وطريقته للعمل الاجتماعي بوصفه رئيساً للدولة أو
من تقريره لعرف سائد وقبوله به. وكل ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.
ونحن حين نقول ، بوجود اقتصاد إسلامي ، أو مذهب اقتصادي في الإسلام
، لا نريد بذلك ، اننا سوف نجد في النصوص بصورة مباشرة نفس النظريات الاساسية في
المذهب الاقتصادي الإسلامي ، بصيغها العامة. بل ان النصوص ومصادر التشريع ، تتحفنا
بمجموعة كبيرة من التشريعات ، التي تنظم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان ،
بأخيه الإنسان ، في مجالات إنتاج الثروة وتوزيعها ، وتداولها. كأحكام الإسلام ، في
إحياء الأراضي والمعادن ، وأحكامه في الإجارة والمضاربة والربا ، وأحكامه في الزكاة
والخمس ، والخراج وبيت المال. وهذه المجموعة من الأحكام والتشريعات ، اذا نسقت
ودرست دراسة مقارنة بعضها ببعض ، أمكن الوصول إلى أصولها والنظريات العامة التي
تعبر عنها ، ومن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام.
فليس من الضروري ، مثلاً ، أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة ، صيغة
عامة لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي ، أو يماثله.
ولكننا نجد في تلك النصوص والمصادر ، عدداً من التشريعات ، التي يستنتج منها ،
موقف الإسلام من مبدأ الحرية الاقتصادية. ويعرف عن طريقها : ما هو المبدأ البديل
له ، من وجهة النظر الإسلامية.
فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربوي ، وتحريمه تملك الأرض
بدون إحياء وعمل ، وإعطاء ولي الأمر صلاحية الإشراف على أثمان السلع ، مثلاً كل
ذلك ، يكون فكرتنا ، عن موقف الإسلام ، من الحرية الاقتصادية ، ويعكس المبدأ
الإسلامي العام.
قد يقال : ان الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً
اقتصادياً ، وانما هو في الحقيقة ، تعاليم أخلاقية من شأن الدين ان يتقدم بها الى
الناس ، ويرغبهم في إتباعها. فالإسلام ، كما أمر بالصدق والأمانة ، وحث على الصبر
وحسن الخلق ، ونهى عن الغش والنميمة ، كذلك ، أمر بمعونة الفقراء ونهى عن الظلم ،
ورغب الأغنياء في مواساة البائسين ، ونهاهم عن سلب حقوق الآخرين ، وحذرهم من
اكتساب الثروة ، بطرق غير مشروعة ، وفرض عبادة مالية ، في جملة ما فرض من عبادات
وهي الزكاة. اذ شرعها الى صف الصلاة والحج والصيام ، تنويعاً لأساليب العبادة ،
وتأكيداً على ضرورة إعانة الفقير والإحسان إليه.
كل ذلك ، قام به الإسلام ، وفقاً لمنهج أخلاقي عام ، ولا تعدو تلك الأوامر
والنصائح والإرشادات ، عن كونها تعاليم أخلاقية ، تستهدف ، تنمية الطاقات الخيرة
في نفس الفرد المسلم والمزيد من شده الى ربه ، والى أخيه الإنسان ، ولا يعني ذلك
مذهباً اقتصادياً ، على مستوى تنظيم شامل للمجتمع.
وبكلمة أخرى ، أن التعاليم السابقة ، ذات طابع فردي أخلاقي ، هدفها
اصلاح الفرد ، وتنمية الخير فيه ، وليست ذات طابع اجتماعي ، تنظيمي ، فالفرق بين
تلك التعاليم ، والمذهب الاقتصادي ، هو الفرق بين واعظ يعتلي المنبر ، فينصح الناس
بالتراحم والتعاطف ، ويحذرهم من الظلم والإساءة ، والاعتداء على حقوق الآخرين ،
وبين مصلح اجتماعي ، يضع تخطيطاً لنوع العلاقات ، التي يجب أن تقام بين الناس ،
ويحدد الحقوق والواجبات.
وجوابنا على هذا كله : ان واقع الإسلام ، وواقع الاقتصاد الإسلامي
، لا يتفق إطلاقا مع هذا التفسير ، الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهب ،
الى مستوى نصائح وأوامر أخلاقية.
صحيح ، ان الاتجاه الأخلاقي واضح ، في كل التعاليم الإسلامية.
وصحيح ، ان الإسلام ، يحتوي على مجموعة ضخمة ، من التعاليم
والأوامر الاخلاقية ، في كل مجالات الحياة ، والسلوك البشري وفي المجال الاقتصادي
خاصة.
وصحيح ، ان الإسلام ، حشد أروع الأساليب ، لتنشئة الفرد المسلم على
القيم الخلقية ، وتنمية طاقاته الخيرة ، وتحقيق المثل الكامل فيه.
ولكن هذا لا يعني ، ان الإسلام ، اقتصر على تربية الفرد خلقياً ،
وترك تنظيم المجتمع. ولا ان الإسلام ، كان واعظاً للفرد ، فحسب ، ولم يكن الى جانب
ذلك ، مذهباً ونظاماً للمجتمع ، في مختلف مجالات حياته ، بما فيها حياته الاقتصادية.
ان الإسلام ، لم ينه عن الظلم ، ولم ينصح الناس بالعدل ولم يحذرهم
من التجاوز على حقوق الآخرين ، بدون ان يحدد مفاهيم الظلم والعدل ، من وجهة نظره ،
ويحدد تلك الحقوق التي نهى عن تجاوزها.
ان الإسلام ، لم يترك تلك المفاهيم ، مفاهيم العدل والظلم والحق ،
غائمة غامضة ، ولم يدع تفسيرها لغيره ، كما يصنع الوعاظ الاخلاقيون. بل انه جاء
بصورة محددة ، للعدالة وقواعد عامة للتعايش بين الناس ، في مجالات انتاج الثروة
وتوزيعها وتداولها ، واعتبر كل شذوذ وانحراف ، عن هذه القواعد ، وتلك الصورة ،
التي حددها للعدالة ، ظلماً ، وتجاوزاً على حقوق الآخرين.
وهذا هو الفارق ، بين موقف الواعظ ، وموقف المذهب الإقتصادي. فان
الواعظ ، ينصح بالعدل ، ويحذر من الظلم ولكنه لا يضع مقاييس العدل والظلم ، وانما
يدع هذه المقاييس الى العرف العام المتبع ، لدى الواعظ وسامعيه. واما المذهب
الاقتصادي ، فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس ، ويجسدها في نظام اقتصادي ، مخطط ،
ينظم مختلف الحقول الاقتصادية.
فلو ان الإسلام ، جاء ليقول للناس ، اتركو الظلم ، وطبقوا العدل ،
ولا تعتدوا على الآخرين ، وترك للناس ، ان يحددوا معنى الظلم ، ويضعوا الصورة التي
تجسد العدل ، ويتفقوا على نوع الحقوق التي يتطلبها العدل ، وفقاً لظروفهم ،
وثقافتهم ، وما يؤمنون به من قيم ، وما يدركونه من مصالح وحاجات. لو أن الإسلام
ترك كل هذا للناس ، واقتصر على الامر بالعدل والترغيب فيه ، والنهي عن الظلم
والتحذير منه ، بالاساليب التي يملكها الدين للاغراء والتخويف ، لكان واعظاً فحسب.
ولكن الإسلام ، حين قال للناس ، اتركوا الظلم ، وطبقوا العدل ، قدم
لهم في نفس الوقت ، مفاهيمه عن العدل والظلم وميز بنفسه ، الطريقة العادلة ، في
التوزيع والتداول والانتاج عن الطريقة الظالمة. فذكر مثلاً ، ان تملك الارض بالقوة
، وبدون احياء ، ظلم ، وان الاختصاص بها ، على أساس العمل والاحياء ، حق ، وأن
حصول رأس المال ، على نصيب من الثروة المنتجة باسم فائدة ، ظلم ، وحصوله على ربح ،
عدل. الى كثير من الوان العلاقات ، والسلوك ، التي ميز فيها الإسلام بين الظلم
والعدل.
وأما حث الإسلام للاغنياء ، على مساعدة اخوانهم ، وجيرانهم من الفقراء
، فهو صحيح ، ولكن الإسلام ، لم يكتف بهذا الحث وهذه التربية الخلقية ، للاغنياء.
بل فرض ، على الدولة ، ضمان المعوزين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، فرضاً يدخل في
صلب النظام ، الذي ينظم العلاقات ، بين الراعي والرعية. ففي الحديث عن الإمام موسى
بن جعفر عليه السلام ، انه ذكر ، وهو يحدد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة : ان
الوالي ، يأخذ المال ، فيوجهه الوجه الذي وجه الله على ثمانية أسهم ، للفقراء
والمساكين ... يقسمها بينهم ، بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقية. فان
فضل من ذلك شيء ، رد الى الوالي ، وان نقص من ذلك شيء ، ولم يكتفوا به ، كان على
الوالي ان يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم ، حتى يستغنوا.
وواضح ، في هذا النص ، ان فكرة الضمان ، وضرورة توفير الحياة
الكريمة للجميع ، ليست هنا فكرة وعظية ، وانما هي ، من مسؤوليات الوالي في
الإسلام. وبذلك ، تدخل في صلب تنظيم المجتمع ، وتعبر عن جانب ، من جوانب ، التصميم
الإسلامي للحياة الاقتصادية.
ان هناك ، فرقاً كبيراً بين النص المأثور ، القائل ، ما آمن بالله
واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع وهذا النص الذي يقول : كان على الوالي ،
أن يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم حتى يستغنوا. فالأول ذو طابع وعظي ، وهو يبرز
الجانب الاخلاقي ، من التعاليم الإسلامية. واما الثاني ، فطابعه تنظيمي ويعكس ،
لأجل ذلك ، جانباً من النظام الإسلامي. ولا يمكن أن يفسر ، إلا بوصفه جزءاً من
منهج اسلامي ، عام للمجتمع.
والزكاة هي عبادة ، من أهم العبادات ، الى صف الصلاة والصيام ، لا
شك في ذلك. ولكن اطارها العبادي ، لا يكفي للبرهنة على انها ليست ذات مضمون
اقتصادي ، وانها لا تعبر عن وجود تنظيم اجتماعي ، للحياة الإقتصادية في الإسلام.
ان ربط الزكاة ، بولي الامر ، واعتبارها أداة يستعين بها على تحقيق
الضمان الإجتماعي ، في المجتمع الإسلامي ، ـ كما رأينا في النص السابق ـ هو وحده ،
يكفي ، لتمييز الزكاة ، عن سائر العبادات الشخصية ، والتدليل على انها ليست مجرد
عبادة فردية ، وتمرين خلقي ، للغني على الإحسان الى الفقير ، وانما هي على مستوى
تنظيم اجتماعي ، لحياة الناس.
أضف الى ذلك ، أن نفس التصميم التشريعي ، لفريضة الزكاة ، يعبر عن
وجهة مذهبية ، عامة للإسلام. فان نصوص الزكاة ، دلت على انها تعطى للمعوزين ، حتى
يلتحقوا بالمستوى العام للمعيشة. وهذا يدل ، على ان الزكاة ، جزء من مخطط اسلامي عام
، لايجاد التوازن ، وتحقيق مستوى عام ، موحد من المعيشة ، في المجتمع الإسلامي.
ومن الواضح ، ان التخطيط المتوازن ، ليس وعظاً ، وانما هو فكر تنظيمي ، على مستوى
مذهب اقتصادي
وأنا لا ادري ، لماذا يسخو المنكرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب
الإقتصادي ، على الرأسمالية والاشتراكية ، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب ، للاقتصاد
الإسلامي ، بل يجعلونه مجموعة من التعاليم الاخلاقية.
فمن حقنا ، أن نتساءل : بم استحقت الرأسمالية او الاشتراكية أن
تكون مذهباً اقتصادياً ، دون الإقتصاد الإسلامي ؟.
اننا نلاحظ ، ان الإسلام ، عالج نفس الموضوعات التي عالجتها
الرأسمالية ، مثلاً ، وعلى نفس المستوى ، وأعطى فيها أحكاماً ، من وجهة نظره
الخاصة ، تختلف عن وجهة النظر الرأسمالية ، فلا مبرر للتفرقة بينهما ، او للقول ،
بأن الرأسمالية مذهب ، وليس في الإسلام ، إلا المواعظ والاخلاق….)
0 تعليقات