خالد عكاشة
استغرق الحديث الذي دار بين الرئيس التركي ونظيره الأمريكي جو
بايدن، نحو 50 دقيقة كاملة في قمة "حلف الناتو" التي انعقدت في يونيو
الماضي، ووصفت حينها بالأكثر سخونة بين اللقاءات التي ضمت رئاسة كلتا الدولتين،
بسبب تناولها لقضية استحواذ تركيا العضو في الحلف على منظومة الدفاع الجوي روسية
الصنع (S 400) بعيدة المدى، وما
استتبعها من فرض واشنطن لبعض من العقوبات على أنقرة والتي كانت أعمقها إيلاما، هو
طردها من "الكونسورتيوم" متعدد الجنسيات الذي تترأسه الولايات المتحدة
المنخرط في تطوير وتصنيع الطائرة (F 35) المقاتلة في جيلها الخامس. منذ هذا التاريخ وما بين تركيا
والولايات المتحدة يدور في فلك السيئ والأسوأ منه، دون أن يفصح الطرفين عن توصلهما
لما يمكن وصفه بنقطة منتصف يمكن البناء عليها.
القريبون من إدارة ملف العلاقات الأمريكية التركية، يدركون جيدا أن
هناك تشوهات عديدة أصابت طبيعة ومتانة العلاقات بين الحليفين مؤخرا، أبرزها احتلال
تركيا لشمال سوريا وشراكة الولايات المتحدة مع أكراد سوريا، فضلا عن سياسات أنقرة
الاستبدادية التي أزاحت تماما قضية حماية حقوق الإنسان من المشهد التركي، وفي جانب
آخر استعراضات القوة التركية التي تجري في شرق المتوسط في الآونة الأخيرة، ثم
اعتراف الرئيس جو بايدن الرسمي بالإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 التي تسببت في
حالة غضب واسع وشعور تركي بالإهانة. لكن هؤلاء القريبون الذين يمثلون رجال
الاستخبارات وأعضاء الخارجية البارزين وقيادات المؤسسات العسكرية في كلا البلدين،
يجمعون على أمر واحد بحكم اقترابهم اللصيق من درجة حرارة العلاقة التي ظلت لعقود
متشابكة للحد الذي كان يظن أن أي خلاف فيما بينهما، لا يمكن أن يتجاوز مداه ولا
يمكنه تهديد "المتانة" بأي صورة. الأمر المجمع عليه من كلا الجانبين أن
قرار أنقرة رصد 2.5 مليار دولار لشراء صواريخ (S 400) المضادة للطائرات من روسيا، بالرغم من
تحذيرات واشنطن وحلف شمال الأطلسي المستمرة، يلقي بظلاله على كل شيء آخر ويمثل
مهدد حقيقي عميق.
لدى خبراء واشنطن العسكريين وجهة نظر؛ مختصرها المباشر أن أنظمة
الرادار الروسية في حال نشرها بإحدى دول الناتو الذي يستخدم طائرات (F 35)، كفيل باختراق معلومات استخباراتية حول
تقنيات التخفي للطائرة، ومن ثم تقويض فعاليتها القتالية. لذلك جاء حرمان تركيا من
هذا الطراز بالتحديد باعتباره "عقوبة أولى" في قائمة محتملة نقلت إلى
الجانب التركي الذي بدا غير مكترث بالتهديد، إلى أن صدم بتنفيذه بعد استلامه
الدفعة الأولى من الصفقة الروسية في يوليو2019، لذلك امتنعت عن تشغيلها أو نشر
راداراتها لمدة عام كامل في محاولة لاسترضاء واشنطن بالطرق التقليدية، لكن الأمر
لم يسر وفق ما خطط له أردوغان الذي راهن على أن الأمريكيين سوف يلينون في النهاية،
كما فعلوا في معظم المناسبات السابقة بين الجانبين. فهو ظل لفترة يقدر أن واشنطن
ترى أنه من غير الممكن عزل تركيا، التي تمتلك ثاني أكبر جيش في الناتو وتحتل مركزا
جيواستراتيجي قيما للولايات المتحدة ولدول الحلف على السواء. تلك العقوبة لم تحبط
أردوغان وحده، فقد مثلت للقوات الجوية التركية ولكبار القادة العسكريين الأتراك
صدمة مماثلة، حيث بنيت خططهم المستقبلية على افتراض أنهم سيحصلون على ما لا يقل عن
(100 طائرة) من طائرات (F
35)
بدءا من عام 2020.
الثابت أن القوات المسلحة التركية تعتمد منذ أواخر الثمانينيات على
طائرات (F 16)، وتتوسع في استخدام
جيلها الرابع في كلا من سوريا والعراق بل وضد المسلحين الأكراد الانفصاليين في
جنوب شرق تركيا، وتمثل لها الأداة الرئيسية في الجهد العسكري المهدد اليوم بالتآكل.
ففي الوقت الذي تمتلك تركيا تقريبا نحو ( 280 طائرة) سيتعين على الجيش التركي
التخلص التدريجي من معظم هذه الطائرات في غضون السنوات العشر المقبلة، على أساس
ضرورة تحديثها وفق تقنيات عملها وصيانتها، ومن إشارات القلق الداهم الأخرى ما إذا
كان الكونجرس في ظل هذا الخلاف المحتدم، سيسمح ببيع قطع غيار الطائرات المقاتلة
وتقديم الخدمات لمثل عمليات التحديث المطلوبة. مما جعل المساحات تضيق أمام الساسة
الأتراك أمام تلك المعضلة الموصدة التي لا يبدو لها انفراجا، يطمئن هواجس
العسكريين الذين يقيسون مسافات الحركة بميزان القدرة على الردع، وامتلاك الخيارات
التي تتجاوب مع متطلبات مهامهم العسكرية المتنوعة. الساسة مع الإدارة الأمريكية
الجديدة لم يجدوا سوى سلاح الابتزاز، الذي يجيده نظام أردوغان وقام باختباره أكثر
من مرة مع الجانب الأمريكي ونجح في ملفات عدة من قبل، لهذا بدأ مؤخرا في المضي
قدما بتسريب احتمالية لجوء أنقرة إلى اختيار المقاتلة الروسية الشهيرة (SO 57)، في حال شعرت بأنها مهددة بسبب عدم وجود
طائرات مقاتلة من الجيل الجديد. وواشنطن تعرف أن هذا خداع ولا يعدو كونه مناورة
ليس من السهل اللجوء إليها، وأن هذا النموذج لا يتشابه مع منظومات الصواريخ
الدفاعية، فالتحول التسليحي الجوي ليس بهذه البساطة حيث يلزمه بناء هيكل تشغيلي
جديد كليا، يشمل تعديل القواعد الجوية، ونظم الإصلاح والخدمة والصيانة الجديدة
المعلوم أنه مكلف للغاية ويستغرق وقتا طويلا، وصعوبته من الناحية التكنولوجية تكمن
في بنية تحتية صممت على مدار 70 عاما مضت، على النسق الغربي الذي يستخدمه
"حلف الناتو"، لا يتصور تبديله بالكيفية التي يتحدث بها الساسة الأتراك.
المخاطرة التي تخوضها تركيا الآن ليست قاصرة على مجابهة تآكل قدرات
ردعها العسكري، بل تطال علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة في ظل ما لوحت به
حديثا على لسان وزير خارجيتها، من أن قضية الاستحواذ على النظام الروسي للصواريخ
المضادة للطائرات بات محسوما بشكل نهائي، ويجب على الولايات المتحدة القبول بذلك،
في ظل احتجاج وقلق مكتوم ليس من الجانب الأمريكي إنما من العسكريين الأتراك،
المدركين لحجم وطبيعة ما قد يكونوا مقدمين عليه رغما عنهم.
0 تعليقات