حمدى عبد العزيز
17 سبتمبر 2021
عبد الغني لبده الذي يعرفه الكثيرون من فلاحي الإصلاح الزراعي في
محافظة البحيرة ، وكثيرون من المنخرطون في قضايا القطاع الزراعي المصري وقضايا
إنسان القرية المصرية .. فوجئت بصديقنا المشترك وصديق العمر مجدي شرابية يبلغني
بالأمس فقط
أثناء محادثة تليفونية بيننا أنه قد علم بالصدفة أنه توفي الأسبوع
الماضي .. فظل هذا الخبر من ساعة علمي به إلي ساعة البدء في كتابة هذه السطور
كغيمة رمادية اجتاحتني من انحاء وجداني الذي ملأته الثقوب الدامية من كثرة سهام
فقد رفاق العمر في السنوات الأخيرة ..
هبت في ذاكرتي علي الفور عاصفة نبيلة وحزينة تنفض أتربة المسافات
الزمنية والمكانية ، وتدفقت مشاهد أول لقاء لي بالمناضل الحقيقي الشريف الذي مات
مستور الحال ولم يمت متربحاً بقضايا الفلاحين كما يفعل بعض الفلاحين المزيفين
الذين نراهم اليوم علي الشاشات وعلي منصات بعض المكاتب والمراكز التي تدعي الدفاع
عن الفلاحين في حين أنها في حقيقة مجرد أكشاك للتكسب بقضايا الفلاحين وساكني
القرية المصرية وفقرائها البائسين ، وعبد الغني لبدة الذي وهب أوقاته وسنوات عمره
وحياته لقضايا القرية المصرية وخصوصاً أوضاع فلاحي الإصلاح الزراعي ، وكان أكثر
إلتصاقاً وانغماساً بها بحكم أنه أحد أبناء قرية الضبايشه التابعة لقري الإصلاح
الزراعي بمنطقة فيشا (أراضي الأمير عمر طوسون والخواجه بولاد) .
عبد الغني ظل طوال عمره ومنذ أن عرفته مقيماً بقريته ولم يغادرها
.. يعيش ويأكل ويشرب ويصلي في مسجد القرية مع أهل قريته ، ويفلح وحدة الأرض التي
ورثها عن أبيه ويأكل منها إلي جوار وظيفته كموظف بمجلس القرية ، ويناضل في نفس
الوقت من أجل قضية الفلاحين التي تبناها من صغره ، يكتب الشكاوي والعرائض ويجمع التوقيعات
عليها ويظل يجول بين أروقة المكاتب والوزارات بالمركز والمحافظة والوزرات دون كلل
أو ملل ، يخوض المعارك في جسارة الفرسان وفي تواضع المناضل العفيف الذي لايشغله أي
إدعاء أو مكسب ذاتي معنوي كان أو مادي ، ويضحي بجانب كبير من دخله البسيط ليدفع
تكلفة ذهابه وإيابه هنا وهناك من أجل قضيته دون أن يتحدث عن ذلك ، أو أن يطلب من
أحد أو جهة أن تشاركه التكلفة ..
أول الصور التي تدفقت في ذاكرتي بالطبع كان أول لقاءتي بعبد الغني
لبده في أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما كان مجدي مجدى شرابيه يزورني في البيت
مهنئاً بعد الإفراج عني في قضية توزيع بيان مناهض لإبرام اتفاق كامب ديفيد .. كان
مجدي يصطحب شاباً في مثل عمري (أو زيد سنوات معدودة) يرتدي جلباباً ريفياً عرفني
به قائلاً هذا هو الزميل عبد الغني لبده عامل بالترسانة البحرية في الإسكندرية
ولكنه قد ترك العمل في الإسكندرية وقرر مغادرتها للإقامة بقريته في فيشا
بالمحمودية لأنه لايستطيع الابتعاد عن أسرته وأهله في قرية (الضبايشه) التابعة
لمسئوليتك الحزبية وأنه من الآن سيكون زميلنا في البحيرة وزميلك في الحزب بمركز
المحمودية ، ومن وقتها عرفت عبد الغني لبده الذي زاملني في طوال مشوار انخراطي
السياسي اليومي في البحيرة حتي عام 2013 عندما تركت أنا حزب التجمع ثم تركت وظل
عبد الغني لبدة أحد قيادته ولكننا كنا نتقابل كأصدقاء وكرفاق عمر وكمهمومين بقضايا
عديدة مشتركة في مجتمعنا إلي أن انتقلت أنا للإقامة في الإسكندرية فبعدت بيننا
المسافات المكانية وقليل من المسافات سياسياً .. إلا أن المسافات الوجدانية ورحلة
عمر من النضال المشترك ظلت هي مايجمعنا حتي لو باعدت بيننا مسافات الجدران
التنظيمية والجغرافيا ومسافات الإقامة وشواغل الحياة اليومية التي تدهس الجميع .
عبد الغني لبدة
لم أره في أي معركة تخص الفلاحين إلا وكان مقداماً جسوراً مبادراً
ومندفعاً وسط مقدمة الصفوف التي تخوض المعركة كطرف من أطرافها الأصيلة واعياً
بتفاصيل المشكلة ملماً بكافة زوايا التعامل معها.
، كذلك كان موقفه في المعارك الجماهيرية والسياسية الكبري وهو مالم
يكن يقل عن مدي صدقه وإخلاصه وحماسته في الدفاع عن مصالح أهل الضبايشه وفلاحي
الإصلاح الزراعي بوجه عام ..
وأتذكر أنه عندما ترشح علي قوائم حزب التجمع لانتخابات مجلس الشعب
في عام 1984 لم يكن يدعو لنفسه قط في حين كان في كل جولاته وندواته والمؤتمرات
التي يشارك فيها كان يتحدث عن قضايا الشعب المصري ثم يدعو لانتخاب القائمة بغض
النظر عن شخصه هو ، وأتذكر ان هذا كان يحدث حتي في الندوات والجولات التي تتم وسط
أهله وفي قلب قريته ودائرة القري المحيطة بها ، وكان يقدم كافة مرشحي القائمة علي
نفسه في إشاراته للقائمة ..
، وكل هذا لم يكن غريباً علي عبد الغني لبده الذي دخل السجن أكثر
من مرة بينها مرة في اواخر الثمانينيات كادت أن تودي بحياته نتيجة أنه كان يعاني
من نزيف أثناء سجنه ، لأنه قد قبض عليه وهو يعاني من مشاكل صحية في حين لم يستجب
سجانيه لمطالباته بإحضار العلاج الخاص به .. كان عبد الغني لبده يخرج من السجن إلي
قريته كأنه قادم من الحقل بعد انتهاء العمل .. كان عبد الغني يعتقد أنه يدفع ضريبة
إيمانه بقضايا شعبه وبالتالي فلاحاجة ملحة إذن لتحويل قضية سجنه لموضوع يمن به علي
الناس أو لمجال للتفاخر والتباهي وإعلاء قيمة الذات ..
صديقي ورفيق عمري عبد الغني لبده كان يحتوي في ذاته علي جوهرة
إنسانية في غاية الندرة لكنه كان يضع عليها غطاءً كثيفاً من التواضع والطيبة
والتهذب الريفي الشديد ..
رحمك الله ياعبد الغني
ومنح روحك استحقاقاً من المجد والسكينة والنعيم الأبدي ..
______________
0 تعليقات