خالد عكاشة
لم يكن غريبا؛ أن يتبنى تنظيم "داعش" ولاية خراسان تفجير
مطار كابول الذي وقع الخميس الماضي، باعتباره المكون المسلح الأبرز الذي يناصب كلا
من "طالبان" والولايات المتحدة العداء قولا وفعلا، ليسجل هذا الهجوم
الإرهابي باعتباره من أكبر العمليات التي تعرضت لها القوات الأمريكية على مدار 20
عاما، قضتهما على هذه الأرض ذات الرمال المتفجرة. بحصيلة بلغت 13 قتيلا من قوات
المارينز الأمريكية التي كانت تعلم قبلها بيومين على الأقل، أن هناك عمل إرهابي
وشيك سيستهدف المطار، لكن تموضع القوات وتدافع الأحداث وضعت اجراءات الحماية
الاحترازية لهذه القوات وظهرها إلى الحائط، فقد وجدت نفسها أمام معضلة شائكة تتعلق
بضرورة الحفاظ على منطقة تواجد الطائرات الأمريكية في درجة أمان، لا تسمح بنفاذ أي
عنصر مهدد قد يصل إليها على المدرج المفتوح، حيث التدافع البشري ومستوى الفوضى غير
المسبوق. لهذا أضطرت قوة تأمين المطار إلى التمسك بمواقعها رغم ارتفاع فرضية
التهديد، فالسيناريو البديل لا يحتمله مجمل المشهد الأمريكي الأفغاني الذي باتت
المجازفة فيه أقرب الطرق من أي احتمال آخر.
تنظيم ولاية خراسان لم يكن يعوزه أكثر من مكونات هذه الساحة
المرتبكة، كي يتقدم ويخترق صفوف الجموع لينتقي أفضل نقطة اقتراب من تجمع للقوات
الأمريكية، ومن ثم يفجر الانتحاري "عبد الرحمن اللوغري" نفسه ليحصد هذا
العدد الباهظ. عادة عناصر الاستكشاف تكون قد وطأت أرض تنفيذ العملية مرات قبل أيام
من التنفيذ، كي تدرس على الطبيعة كافة الاحتمالات لتعد لها ما يلزمها من ترتيبات
عملياتية تمكنها من تنفيذ مهمتها. الواضح في تلك العملية أن الأمر لم يستغرق طويلا
أمام هؤلاء، فاستكشاف سريع لمسارات الازدحام الفوضوي الخانق في الشوارع المؤدية
إلى نقاط التفتيش، تمثل بيئة نموذجية تسمح بالاقتراب اللصيق الذي يفضي من خلفه إلى
ساحات مبنى المطار. احتاج التكتيك الخططي فقط إلى "فعل اشغال" وصرف جزئي
لانتباه قوات الاسناد كي لا تكون حاضرة الجاهزية، وهذا نفذته عناصر التنظيم في
التفجير الثانوي الذي جرى أمام فندق "البارون" القريب من مسرح العملية،
وكان كفيلا بالفعل بتحقيق المرجو منه، حيث هرعت إليه عناصر طالبان بمجرد سماع
دويه، لينفتح الطريق أمام عنصر التنفيذ الانتحاري كي يصل إلى أحضان القوات
الأمريكية مباشرة.
وثيقة الدم التي وقعها التنظيم في هذه العملية بهذا التنفيذ السلس، يشي بأنه ملم بشكل كاف بمكونات المشهد الذي يستهدفه، فهو ليس غريبا عن هذه الأرض بل يتحرك باعتباره مالكا أصيلا قادر على انفاذ رسائله من دون تعجل، ووفق رسائل محددة لم تخطئها العيون التي انطفأت فقط بقدر الجسامة وحدها. فـ"ولاية خراسان" سجلت حضورها الأول في أفغانستان عام 2015، عندما عين "حافظ سعيد خان" أميرا للتنظيم على الولاية الداعشية الوليدة حينذاك، بعد أن قبل أبوبكر البغدادي البيعة من المجموعات المحلية التي اتحدت تحت تلك الراية، استعدادا للتمدد في أفغانستان وباكستان والهند وبنجلاديش وسيرلانكا وأوزبكستان وطاجيكستان، فضلا عن أجزاء من إيران بحسب انتماءها لمصطلح "خراسان" الذي يضم هذه المنطقة الشاسعة، بحسب "أبي محمد العدناني" المتحدث باسم القيادة المركزية للتنظيم الذي وصف هذا التدشين بالفتح المبين.
وبدأت أول هجمات الولاية الجديدة في
إبريل من ذلك العام، وقت كان التنظيم الأم يتربع على عرش "الإرهاب
الدولي" فيما سمي لاحقا بأعوام الذروة (2015، 2016، 2017). هذه الولاية التي
تتبع تنظيم "داعش" أيدولوجيا وتنظيميا خطط لها من البداية أن تمثل موطئ
قدم كبيرة في آسيا الوسطى، وتطورت المهمة لاحقا بعد انهيار مركز
"الخلافة" في سوريا والعراق ليمثل الفرع الخرساني قوات المقدمة، من أجل
تأسيس ساحة بديلة للانحسار المكاني الذي تجسد بمقتل أبوبكر البغدادي. التقديرات
الأمنية لأجهزة الاستخبارات التي عملت في أفغانستان خلال تلك الأعوام، حددت القوة
البشرية المؤكدة والمستقرة داخل صفوفها مابين 1500 إلى 2200 مقاتل من أصحاب
الجنسية الأفغانية وحدها، ورغم تكبدها لخسائر كبيرة ما بين عام 2015 و2020 جراء
ملاحقة القوات الأمريكية لها، عبر العمل الاستخباراتي الذي صاحبه قصف جوي مركز
للمناطق التي تتمكن الولاية من الاستقرار فيها، ولعل أشهر هذه الهجمات عندما قام
سلاح الجو في إبريل 2017 بقصف مجمع كهوف شرق أفغانستان، بأكبر قنبلة تقليدية في
الترسانة الأمريكية (20 ألف رطل) ليصيب الملاذ الأكبر للولاية بخسائر فادحة في
صفوف القيادات والمقاتلين. ورغم اعتبار العام 2020 هو الأسوأ في تضييق المساحات
أمام التنظيم بعد أن دخلت "طالبان" على خط المواجهات، بعدما بدأت تنسق
بشكل كبير مع القوات الأمريكية، إلا أن الولاية الداعشية تمكنت خلال الشهور
الماضية، من تعويض خسائرها بعمليات ضم واسعة لعناصر انتمت سابقا لـ"شبكة
حقاني" الذراع القتالي الأقوى لحركة "طالبان"، فضلا عن مجموعات من
"عسكر طيبة" و"جماعة الدعوة" من باكستان والحركة الاسلامية في
أوزبكستان.
هناك احصائية صادرة عن الأمم المتحدة نسبت لـ"ولاية
خراسان" قيامها بتنفيذ 77 هجوم خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021 وحده،
وهناك أخرى وفق الاصدار الإعلامي للتنظيم "النبأ، أعماق" ذكرت أن عملية
مطار كابول تعد الهجوم الـ 96 في غضون الثلاثة اشهر الأخيرة، وقد أكدت عناصر
طالبانية هذا الإحصاء الداعشي باعتباره أقرب للصحة بالفعل ما بين هجمات متوسطة
وكبيرة. اللافت أن 80% من العدد الذي ذكرته ولاية خراسان كان موجها ضد
"طالبان" بالخصوص، حيث تعتبرها الولاية في حكم "المرتدين"
هكذا تصفهم صراحة في كافة اصداراتها، للحد الذي ندد فيه التنظيم باستيلاء طالبان
على أفغانستان مؤخرا، لذلك فمن مصلحة الولاية حاليا شن هجمات تثير الفوضى في
البلاد بعد سيطرة الحركة لإحراجها وزعزعة مكانتها الداخلية، بل ومهاجمة
"الشرعية الدينية" لطالبان على الأرض. فالخلاف العقائدي العميق يكشف
التباين الكبير بين المشروع الطالباني، الذي يظل محكوم بالصبغة الوطنية القومية
التي تهدف إلى انهاء الاحتلال وإقامة نظام حكم إسلامي محلي، وبين ما تنتهجه ولاية
خراسان فيما يعرف بـ"الأممية الجهادية" التي لا تعترف بالقومية أو
الحدود. ووفق تلك المفاهيم تنشط ماكينات التجنيد التابعة لداعش، من أجل ضم أكبر
قدر من الأعضاء الأكثر تطرفا في صفوف طالبان أو غيرهم من المسلحين الذين يشعرون
بـ"التهميش".
ولاية خراسان اللاعب القديم الجديد على الأراضي الأفغانية، مرجح
لها وفق المعطيات المتوافرة حتى الآن على الأقل، أنها تراهن على استعادة فترة
"العمليات المروعة" الأولى التي صاحبت تأسيس الولاية وظهورها على
الأراضي الأفغانية. فمنذ بداية انطلاقها ـ كعادة التنظيمات الإرهابية ـ اعتبرت
طالبان عدو رئيسي لها، خاصة وأن العديد من مؤسسي الولاية وقادتها من المنشقين عن
حركة "طالبان الباكستانية"، فسرعان ما انخرطوا في مواجهات مع حركة
طالبان أفغانستان للسيطرة على مناطق رئيسية على الحدود مع باكستان مرتبطة بتهريب
المخدرات وسلع أخرى. ومن ثم سريعا انتقلت لتنفيذ سلسلة من التفجيرات الانتحارية في
كابول العاصمة ومدن أخرى، ضد الحكومة وأهداف عسكرية أجنبية سعيا منها لترسيخ
صورتها كحركة أشد عنفا وتطرفا من منافسيها الطالبيين. ولتحقيق هذا الهدف؛ تنوعت
هجمات "ولاية خراسان" ما بين عمليات إعدام بشعة لوجهاء القرى والقبائل،
وقتل موظفي الصليب الأحمر والعاملين بمجال الإغاثة، والأشهر منها بالتأكيد الهجوم
الذي نفذته في أغسطس 2020 باقتحام "سجن جلال آباد" المركزي بولاية
ننجرهار، حيث تمكنت خلاله من اطلاق سراح المئات من القيادات والمقاتلين التابعين
للولاية. فضلا عن شن هجمات انتحارية وسط الحشود في المناسبات بما في ذلك تنفيذ
سلسلة من العمليات الدموية ضد أهداف مرتبطة بالمنتمين إلى المذهب الشيعي.
المعلومات الاستخباراتية حددت جنسيات المنتمين لولاية خراسان،
بأنها تضم باكستانيين من جماعات متشددة سابقة ومتطرفين أوزبك إضافة إلى الأفغان،
في بادئ الأمر قاموا بالسيطرة على عدد محدود من المناطق الحدودية مع باكستان، قبل
أن ينجحوا في فتح جبهة ثانية رئيسية في الأقاليم الشمالية بما في ذلك مناطق
"جاوزجان، وفارياب"، ومنها إلى شمال شرق أفغانستان لا سيما مقاطعات
"قندوز، وكونار، وننجرهار، ونورستان". ومع القيادة الجديدة للولاية
"أسد الله أوراكزي" المكنى بـ"أسد الله المهاجر" الذي يتمتع
بمهارات تنظيمية استثانية، فضلا عن خبرات عسكرية وأمنية طويلة منذ الاعلان عن
تأسيس الولاية، ما مكنها من التكيف والصمود في وجه الضربات التي تعرضت لها، كما
نجح في إعادة بناء شبكاته القتالية في فترة زمنية وجيزة ولافتة، يصبح المشهد
القادم مفتوح على عديد من احتمالات تدشين فصل جديد من الاقتتال البيني بينه وبين
"طلبان"، خاصة مع فقدان الأخيرة للدعم الأمريكي الذي ظل لسنوات يمثل
عامل الترجيح للحركة في مواجهة "داعش"، اليوم الولاية تطمح لأن يكون
نطاقها الحيوي بأفغانستان مركزا بديلا تستعيد على أراضيه حلم الخلافة المفقود،
خاصة وكافة معطيات الداخل الأفغاني وجوارها الإقليمي يجعل هذا الحلم الآن مشروعا
بأكثر من أي وقت مضى.
0 تعليقات