محمود جابر
طرحنا فى الحلقة الماضية تسع أسئلة حول قضية جمع القرآن بعد وفاة النبي
الأكرم، وللحقيقة موضوع جمع القرآن مثل فى المٌخيلة الشعبية العربية والإسلامية أسطورة
كبيرة، هذه الأسطورة جاءت من أجل أن تعطى لبعض الناس أدوارا روحية وقيمة فى صناعة الإسلام
لا بكونهم أهلا للسلطة وللدولة وللنظام وللحكم وللتاريخ، لا باعتبارهم كانوا شركاء
فى صناعة الدين وحفظ الإسلام واخص خصوصيات الرسالة بل هى الرسالة ذاتها وهو القرآن
الكريم، ولعل قصة جمع القرآن عند السنة تدور رحاها كلها حول شخصية مثل المصدر
الوحيد أو الأكثر فى انتشار روايات الجمع، سواء كان هو مصدرها أو نسب القصاصون له
تلك الحكايات التى تحولت مع الوقت الى روايات وأثر ضمنها كتب التاريخ وكتب الأثر
وكتب الحديث ...
وهذه الأساطير كان لها فعل السحر يوم الجمعة واجتماع الناس حول
وعاظ السلاطين وهم يحاولون ان يوحى للناس ان فلان وفلان الذين يستمد منهم الشرعية
السياسية والدينية كان لهم اثر بالغ فى حفظ القرىن ولولاهم لذهب القرآن ولم يكن
موجودا بين أيديكم...
أجواء تلك القصص و الحكايات ، تم إيداعها فى مستودع الذاكرة الجمعية
بفعل الإلحاح الوعظي السلطوي لتعيش معنا على مدى سنين العمر ، لننقلها فيما بعد
للأبناء و الأجيال اللاحقة .
وعندما يُسأل عن مؤلف تلك الحكايات فإن الإجابة المطلقة الدائمة
تكون : إنها متواترة أو موجودة فى كل كتب الأولين السابقين !!
أن هذه الحكايات قد أصبحت بعد تواتر الأجيال أدباً جماعياً لا
باعتبار أصلها ، ولكن باعتبار مصيرها . و لأنها تعكس الروح الجماعية للجماعة ،
وبذلك يكون مؤلف الحكاية جمع من كل أولئك الذين شاركوا في رواية هذه الحكاية و إن
كانت بشكل حتمي في الأصل عملاً سلطويا ....
فى الحلقة الماضية انطلقنا من حديث البخاري الذي رواه الزهري وكان
محور الحديث ما قام به أبو بكر فى جمع الحديث، ثم طرحنا أسئلة مفصلية حول ما يخص
ما سمى بالجمع الأول ...
واليوم سوف نقوم بنفس المنهج منطلقين من حديث ابن حبان فى الجمع الثاني
والذى قام به عثمان بن عفان ....
4506 –
قال إبراهيم بن سعد : وحدثني ابن شهاب عن أنس بن مالك أن حذيفة قدم
على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام وأهل العراق وفتح أرمينية وأذربيجان فأفزع
حذيفة اختلافهم في القراءة فقال : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا
في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى فبعث عثمان إلى حفصة : أن أرسلي الصحف
لننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فبعثت بها إليه فدعا زيد بن ثابت و عبد الله بن
الزبير و سعيد بن العاص وأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف وقال لهم : ما اختلفتم
أنتم و زيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم وكتب الصحف في
المصاحف وبعث إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر مما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة
أو مصحف أن يمحى أو يحرق..
قال ابن شهاب : فأخبرني خارجة بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت يقول :
فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت المصحف كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقرؤها فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما
عاهدوا الله عليه } فألحقتها في سورتها في المصحف.
قال ابن شهاب : اختلفوا يومئذ في ( التابوت ) فقال زيد : التابوه
وقال ابن الزبير و سعيد بن العاص : التابوت فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله
عليه فقال : اكتبوه ( التابوت ) فإنه لسان قريش
قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرطهما
(صحيح ابن حبان:
10/359/4506)
ذلك الشطر الثانى من رواية
ابن حبان، ومن يقف عند هذا الشطر من الرواية، ويمعن النظر فيها تختلج في ذهنه عدة
إشكالات، وعدة تساؤلات ....
الأول : كلنا نتذكر ان زيد بن ثابت لما فقد آية من سورة الأحزاب فى الجمع
الأول وجدها عند خزيمة الانصارى وما وجدها عند غيره!!
ثم حينما عاد إلى تلك الصحف في عهد عثمان بن عفان، فقد مرة أخرى
آية من سورة الأحزاب، كان يسمع رسول الله يقرؤها، فالتمسها فوجدها مع خزيمة بن
ثابت الأنصاري، فألحقها في سورتها في المصحف! أهكذا كان الأمر؟!!
الثانى : قول عثمان للجنة "ما
اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم "
وهذا يعني أن القرآن مازال موضع اختلاف، وموضع نقاش إلى عهد عثمان!
وهو لمّا يأخذ شكله
النهائي، وقد مضى على وفاة من نزل عليه أكثر من خمسة عشر عاما!
ومن تلك الصور للاختلاف ما رواه ابن شهاب (الزهرى): اختلفوا يومئذ
في (التابوت) فقال زيد: التابوه، وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص: التابوت. فرفع
اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه لسان قريش.
الثالث :
تذكر لنا الروايات عن زيد بن ثابت أنه قال: " فلما فرغتُ
عرضته عَرْضةً، فلم أجد فيه هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا [سورة الأحزاب: 23] قال: فاستعرضتُ
المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدْها عند أحد منهم، ثم استعرضتُ الأنصارَ أسألهم
عنها، فلم أجدها عند أحد منهم،، حتى وجدُتها عند خُزيمة بن ثابت، فكتبتها، ثم
عرَضته عَرضَةً أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة: 128،
129] فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصارَ أسألهم
عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رَجل آخر يدعى خُزيمة أيضًا، فأثبتها
في آخر "براءة"، ولو تمَتْ ثلاثُ آيات لجعلتها سورة على حِدَةٍ."
(تفسير الطبري: 1/60-61)
هكذا، بهذه السهولة:
لجعلتها سورة على حِدَةٍ !!
كأن السور في القرآن ليست من صنع الله، ولم تزل في الأمر سعة إلى
عهد عثمان أن تضاف سورة إلى سور القرآن!!
ما هى الرسالة الخفية التى أرادوا أن يقولونها للناس ولنا ؟!!
قصة الاختلاف ولسان قريش
يحاول صناع روايات تدوين القرآن الإيحاء بحوادث تبرر عمليات الجمع
والنسخ، ومن تلك الحكايات اختلاف الصحابة بينهم وبين بعض، واختلاف التابعين فى
الرسم ومرادفات الكلمة ..
رأي ابن جرير في سبعة أحرف
قال أبو جعفر الطبري بعد ماسرد جمعا من الروايات التي وردت في نزول
القرآن على سبعة أحرف، وبعد ماذكر مافعله عثمان في شأن تلك الأحرف:
"وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتابُ،
والآثار الدالة على أن إمامَ المسلمين وأميرَ المؤمنين عثمانَ بن عفان رحمة الله
عليه، جمع المسلمين - نظرًا منه لهم، وإشفاقًا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حِذارَ
الردّةِ من بعضهم بعدَ الإسلامَ، والدّخولِ في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم
بمحضَره وفي عصره التكذيبُ ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع
أصحاب رسول الله من رسول الله النهيَ عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أنّ
المِراء فيها كفر- فحملهم رحمةُ الله عليه، إذْ رأى ذلك ظاهرًا بينهم في عصره،
ولحَدَاثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله إياهم بما أمِنَ عليهم معه عظيم
البلاء في الدين من تلاوة القرآن - على حرف واحد. وجمعهم على مصحف واحد، وحرف
واحد، وحَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ
مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه، أن يحرقه. فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة
ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم
عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها
من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد
اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض
القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها ولكن نظرًا منها لأنفسها
ولسائر أهل دينها. فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم
إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. (جامع البيان في
تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري:1/63-64)
ذلك ماقاله الطبري في أمر حرق المصاحف. تلك وجهة نظره، وهناك وجهات
أخرى في الموضوع، والمقام لايتسع لتفصيلها، ولكن ليس من المعقول أبدا القول بإلغاء
عثمان لستّ قراءات نزل بها القرآن، ولوكان بمشورة الصحابة أجمعين.
فالشيء الذي شرعه الله، لاينسخه غير الله، والصحابة عن آخرهم لم
تكن عندهم صلاحيات النسخ لشرع الله!
وما كان الصحابة ليجتمعوا على إلغاء قراءة شرعها منزل القرآن.
والقراءة إذا كانت قراءة القرآن، وقد شرعها منزل القرآن، فلن تكون
فتنة للناس، ولن تكون موضع حرب وخصومة بين الناس. وإن رأينا رأي العين أن تلك
القراءات أصبحت تهدد وحدة الأمة، وتهدد سلامتها فلنعلم أننا كنا في غرور، وأنها لم
تكن من عندالله العليم الخبير، الذي لم يشرع أبدا لعباده شيئا، إلا إذا كان خيرا
لهم في معاشهم ومعادهم. ولا بد أن تكون لنا وقفة عند ما رواه ابن جرير عن زيد بن
ثابت، حيث قال: "ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها
ليردنها إليها فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء. فردَّها
إليها، وطابت نفسه، وأمرَ الناس أن يكتبوا مصاحفَ. فلما ماتت حفصةُ أرسل إلى عبد
الله بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها فغسلتْ غسلا." (تفسير
الطبري:1/61)
فإذا كان مصحف عثمان موافقا لصحيفة أبي بكر، ولم يختلفا في شيء،
فما الذي دعاه إلى أن يرسل إلى عبدالله بن عمر في الصحيفة بعزمة بعد وفاة أم
المؤمنين، وما الذي حمله على أن يغسلها غسلا ؟! نحن لا نتهم عثمان بن عفان في شيء،
كما لا نتهم زيد بن ثابت في شيء ؟
القصة مدخولة، والرواية غير محفوظة
وإنما نريد أن نقول فقط إن تلك القصة مع ذيوعها، وانتشارها،
ورواجها غير محفوظة، وغير موثوق بها؛ فقد اختلط فيها الحابل بالنابل، والتبس فيها
الحق بالباطل، فهي في صورتها الموجودة أقرب إلى الكذب منها إلى الصدق.
والقصة في جميع طرقها ما جاءت إلا عن الزهري، والزهري كانت عنده
مشاكل، وكانت عنده بلايا، حيث كان يدرج كلامه في الأحاديث، ولم يكن معنيّا بالصحة
والدقة في روايتها، وقال أبو ضمرة: حدثنا عبيدالله بن عمر، رأيت ابن شهاب يؤتي
بالكتاب ما يقرأه ولا يقرأ عليه، فنقول: نأخذ هذا عنك؟ فيقول: نعم. فيأخذونه وما
قرأه ولا يرونه.
وقال يونس بن محمد: حدثنا أبو أويس، سألت الزهري عن التقديم
والتأخير في الحديث، فقال: إن هذا يجوز في القرآن، فكيف به في الحديث؟ إذا أصيب
معنى الحديث، ولم يحلّ به حراما، ولم يحرّم به حلالا، فلا بأس، وذلك إذا أصيب
معناه. (الذهبي، سير أعلام النبلاء: 5/ 344-347 )
أي تقديم أو تأخير يجوز في القرآن؟ ومن الذي أجاز هذا التقديم أو التأخير؟
وكيف يصاب المعنى مع التقديم والتأخير؟ ألا يكون للتقديم والتأخير تأثير في المعنى؟
وذكروا عن الليث بن سعد، فقيه مصر، وهو من أصحاب الإمام مالك، أنه
ترك ابن شهاب الزهري، وانصرف عنه، فأرسل إليه الإمام مالك، رسالة أنكر عليه فيها
تركه للزهري، فردّ عليه الإمام الليث، وكتب في رسالته القيمة المستفيضة عن ابن
شهاب الزهري مايلي:
"وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه
بعضنا، فربما كتب إليه في الشيء الواحد، على فضل رأيه وعلمه، بثلاثة أنواع ينقض
بعضها بعضا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما
أنكرتَ تركي إياه." (ابن القيم، إعلام الموقعين، رسالة الليث إلى مالك:3/85)
وإذاً، فالروايات التي جاءت في جمع القرآن وتدوينه، كلها عن الزهري، وهي لاتصلح
أبدا لأن تكون عمدة لنا في أمر جمع القرآن وتدوينه. فإن الزهري ليس بذاك. وفيها من
المناكير الكبر، ومن الإشكالات العُضال، مارأينا وعرفنا. ولماذا تلك الروايات كلها
عن الزهري، وعن زيد بن ثابت فقط؟
فإن أمر جمع القرآن وتدوينه ماكان يخصهما، وكان المفروض أن تأتي
تلك الروايات عن جمع من الصحابة والتابعين.
وللحديث بقية
0 تعليقات