نصر القفاص
بذل "أنور السادات جهدا كبيرا حتى ركب القطار الأمريكي.. قدم
الكثير قبل الحرب وبعدها.. تمكن من بلوغ هدفه فى 14 يونيو 1974.. يومها وقع مع
"نيكسون" فى القاهرة "مبادئ العلاقات والتعاون بين مصر والولايات
المتحدة الأمريكية" ليتأكد تفرده.
المفارقة أن "معاهدة الصداقة المصرية – السوفيتية" التى
وقعها الرئيس نفسه, كانت مازالت قائمة.. وهنا يكمن تفرده.. ذلك ليس غريبا على نظام
من حكم بمنهج "الخداع الاستراتيجي" وتركه للذين حكموا بعده!! انطلق
"زمن تزييف الوعى" بعد أن اعتبر الرئيس الشعب – شعبى – والجيش – جيشى –
ومجلس الوزراء تحول إلى سكرتارية للرئيس.. وجعل البرلمان آلة تأييد لا تملك غير
التصفيق!! وكان كل ذلك مقدمة لإنهاء التنظيم السياسى, بالاتفاق مع أعدائه.. أعطيت
الإشارة الخضراء لكل من يرغبون فى تصفية حساباتهم مع "زمن ثورة 23 يوليو"
ولا مانع من دعوى الانتساب إليها.. فهذه حقيقة يصعب إنكارها.. وهى فى الوقت نفسه
ساعدت "واشنطن" على امتلاك ناصية الأمور فى "أغلى قطعة عقار"
وحولت "إسرائيل" من "كيان" مغتصب, إلى دولة انطلقت للإمساك
بعجلة القيادة فى الشرق الأوسط.
نص اتفاق المبادئ المصرية – الأمريكية يقول كل شىء بوضوح.. ينص على
الذهاب إلى السلام بالتفاوض.. يؤكد على تدعيم التعاون الاقتصادي والعلمى والفنى
والسياحى.. وتفويض وزيرى خارجية البلدين بالتشاور لتحديد البرامج المشتركة, فى ضوء
لجنة تعاون تم إعلانها يوم 31 مايو 1974.. كما نص الاتفاق على "دعم الولايات
المتحدة لمركز مصر المالى"! ولعلنا نلاحظ أن الاتفاق أهمل أى إشارة إلى
الصناعة والزراعة.. ولم يهمل التعاون فى مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية..
شريطة تعهد القاهرة بتقديم ضمانات تحددها الولايات المتحدة الأمريكية لمنع استخدام
المفاعلات النووية فى أغراض عسكرية.. وبقيت الضمانات التى حددتها
"واشنطن" سرا ممتد المفعول!! ونص الاتفاق على تشكيل مجلس اقتصادي مشترك
يضم ممثلين من القطاع الخاص.. ومعاونة مصر على إعادة بناء دار الأوبرا!! ونشرت
التفاصيل صحف يوم 15 يونيو, دون أى تعليق حول تناقض الاتفاق مع إحدى مواد معاهدة
الصداقة مع السوفيت التى تنص على أن "يتعهد الطرفان بعدم الدخول فى اتفاقيات
دولية تتنافى مع المعاهدة".. واستمر هذا الوضع قائما حتى تقدم "أنور
السادات" بمشروع قانون يلغى المعاهدة إلى مجلس الشعب يوم 14 مارس 1976.. وافق
المجلس الذى أصدر قانون المعاهدة على إلغائها.. صفق المجلس للقانون وعكسه.. إنها
الديمقراطية!!
أصبح العدو هو الشيوعية.. تنشر جريدة "الأخبار" مقالا
للدكتور "وحيد رأفت" يذكر فيه أن: "الخطر الشيوعى يهدد أمن المنطقة
وسلامتها, ويفوق فى خطورته الخطر الصهيونى الذى تفرغنا لمحاربته".. وربطت السعودية
دعمها الاقتصادي بإلغاء الاشتراكية.. انفتحت أبواب الاستدانة لتبلغ فى عامين – بعد
الحرب – ستة مليارات دولار حسب تقرير رسمى للإدارة العامة للبحوث والإحصاء بالبنك
الأهلى, وتحمله صفحات نشرته الاقتصادية.. أصبحت مواقف مصر السياسية متطابقة مع
الموقف الأمريكى.. فى مؤتمر القمة الإفريقية بأديس أبابا, وقف نائب الرئيس – حسنى
مبارك – ليقول ذلك عند عرض موقف مصر من الصراع فى أنجولا.. وبعدها ذهب "أنور
السادات" إلى "كمبالا" للمشاركة فى مؤتمر يناقش مشروع قرار يجرى
إعداده للعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة يقضى بطرد إسرائيل من المنطقة
الدولية.. يعلن "السادات" خلال توقفه فى "الخرطوم" فى طريقه
إلى "أوغندا" أنه لا يرى فائدة من طرد "إسرائيل" لأنها لو حدث
ذلك لن تلتزم بالقرارات!! ليصبح واضحا بعد ذلك أن أبواب إفريقيا تم فتحها أمام إسرائيل,
التى تحركت بسرعة فى ملاعب راحت مصر تنسحب منها وتتركها لها!!
قبل مبادرة السلام الأخيرة.. قبل توقيع اتفاقية "كامب
ديفيد" تم توقيع "إتفاقية سيناء" أول سبتمبر 1975 والتى تنص فى أول
سطورها على: "اتفقت حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة إسرائيل على ما
يلى" وفى المادة الثانية تقول: "يتعهد الطرفان بعدم استخدام القوة أو
التهديد أو الحصار العسكرى فى مواجهة الطرف الآخر" ليصبح إعلان
"السادات" بعد ذلك استعداده الذهاب إلى القدس نتيجة طبيعية.. وإذا كان
الرأى العام فى مصر والعالم, قد أخذتهم المفاجأة المدوية.. فهذا يرجع إلى أن كل ما
سبق إعلانه كان سريا حينها.. تمت التغطية عليه "بزفة" الكلام عن الرخاء
والرفاهية.. التبشير بسنوات السمن والعسل القادمة.. إفتعال قضايا داخلية تثير
جدلا, وتشغل الرأى العام لانقسام أصحاب الرأى حولها.. مثل ان يتقدم 38 نائبا فى
البرلمان بمشروع قانون "منع شرب المسكرات فى الأماكن العامة على
المصريين" ليدخل رجال الدين على الخط وتنتعش جماعة "الإخوان" إضافة
إلى "الجماعات المفقوسة عنها" ويدور الحديث حول غناء المرأة وما إذا كان
حلالا أم حراما.. ومناقشة مسألة صوت المرأة باعتباره عورة, ثم الحديث عن الحجاب
وضرورته كدليل على الإيمان والتدين.. بل يصل الأمر إلى مناقشة عودة المرأة إلى
البيت!!
بدأت مصر تسمع كثيرا عن كلمتى "الاستثمار"
و"المستثمرين" إنتشر "السماسرة" بعد أن أصبح اسمهم "رجال
أعمال" ولعل المبدع "أسامة أنور عكاشة" تناول الموضوع بذكاء شديد
فى مسلسل "ليالى الحلمية" حين قدم شخصيتى "بسة"
و"الخمس" اللذان بدآ فى "جمع أعقاب السجائر" قبل ثورة 23
يوليو, وأصبحا رجلى أعمال فى توظيف الأموال خلال "زمن السادات ومبارك"
واستمرا بعدهما!! وأصبح المغامرون والأفاقون الذين يمارسون التهريب وتجارة السوق
السوداء من رجال المرحلة.. نشط الذين يتكسبون من الشقق المفروشة والرشوة والخدمات
غير المشروعة, مثل الترويج لعلب الليل وإنتاج أعمال فنية أطلقوا عليها
"المسرح السياحى" و"سينما المقاولات"!!
راحت الصحف تحمل البشرى للشعب بالمشروعات التى وافق عليها مجلس
إدارة "الهيئة العامة لاستثمار المال العربى والأجنبى" وهكذا كان اسمها
قبل أن تصبح "هيئة الاستثمار" فقط.. ففى يوم 5 مايو 1974 إعتمدت عدة
مشروعات, شركة مشتركة رأس مال مصرى – سعودى لإقامة فندق يحل محل فندق
"سميراميس" وتديره شركة عالمية.. مزرعة لتربية الأغنام برأس مال مصرى –
بريطانى.. شركة ملاحية برأس مال مصرى – أمريكى.. بواخر نيلية لأغراض السياحة برأس
مال يونانى.. مطعم وحمام سباحة وكازينو برأس مال مصريين يحملون الجنسية
الأمريكية.. معمل فنى للتصوير بالألوان برأس مال مصرى – سعودى.. مصنع لتفصيل
الملابس الجلدية والشنط النسائية برأس مال مصرى – المانى.. وحدة تصنيع منتجات خان
الخليلى.. وهكذا!! وأصبح ميسرا لرأس المال المشترك "مصرى – أجنبى" أن
يؤسس بنكا شريطة أن يكون رأس المال المصرى 51%.. وكانت المفاجأة المذهلة أن
"أحمد أبو اسماعيل" وزير المالية يعلن بصراحة أن "عام 1975 هو أسوأ
عام اقتصادى فى تاريخ مصر"!! وكان الثمن إبعاده ليصبح فيما بعد واحدا من
قيادات "حزب الوفد الجديد" ولا يتورع الدكتور "إبراهيم عبد
الرحمن" وزير التخطيط أن يقول أمام مجلس الشعب يوم 10 فبراير عام 1976:
"إن منهج الخطة الاقتصادية وطريق الانفتاح ستؤدى بمصر للهاوية"! فيرحل
بعدها كما رحل "فؤاد مرسى" وزير التموين الذى قال: "الانفتاح
الاقتصادى هو السماح لرأس المال الخاص بالنمو الأفقى والنمو الرأسى.. بلا قيد أو
شرط.. وبصفة خاصة السماح للرأسمالية المحلية بأن تنمو إلى رأسمالية كبيرة.. وأن
ترتبط بالرأسمالية العالمية, للسماح لها بأن تستعيد مراكزها داخل اقتصادنا".
كانت هذه مرحلة إعداد وتجهيز رموز "الأوف شور" من الذين
يقال عنهم "رجال أعمال" وهم فى حقيقة الأمر "رجال مال" وسنجد
أن أغلبيتهم العظمى يحملون جنسيات أمريكية, وكندية, وبريطانية, وإيطالية.. وهؤلاء
هم أنفسهم الذين زحفوا على السياسة فيما بعد, ليتم عقد قرآن المال على السياسة..
بحضور الجهل مع الفساد.. لتصبح مصر مسرحا "للمهراجانات"!! ونجحت
العملية.. أصبح الاقتصاد المصرى فى قبضة هؤلاء.. ثم زحفوا على السياسة وفرضوا
مكانهم ورجالهم, حتى وصلنا إلى لحظة شراء المقعد البرلمانى علانية.. ودون خجل..
وفى الخلفية كانت عمليات هدم وتفكيك وبيع القطاع العام, تجرى ببطء فى البداية ثم
راحت تتسارع.. عندما نفذ الذين تم تعيينهم لقيادته مهمتهم!! ليرتفع صوت الزيف
والجهل والكذب الذى يمثله "خدم الملكية والاستعمار" مع "جامعى
أعقاب السجائر" للقول بأن "عبد الناصر" هو سبب خراب الاقتصاد
المصرى.. ومهما ذكرت من أرقام أو أشرت إلى وثائق وحقائق.. يكرر الذين تم تمكينهم
من مفاصل صنع القرار, ورقبة الإعلام ما يريده "رجال المال" الذين يدورون
فى فلك "الأوف شور" وتتمتع أموالهم "بملاذات آمنة"!!
كان الخرق يتسع على الراتق.. الوزير الذى لا يحتمل صمتا على تدهور
الأوضاع يتم إبعاده.. الكاتب الذى يرفض أن يكون ترسا فى ماكينة التصفيق, تنطلق فى
وجهه حملات التخوين.. الشباب الذى يتمرد على ما يجرى, تطارده أجهزة الأمن وتقبض
عليه.. ثم يتم إعلان العفو عنهم, باعتبارهم من المغرر بهم!! الكاتب الذى يتناول ما
يدور بالتحليل الموضوعى, يتولى أمره رئيس تحرير يخشى على موقعه ومكاسبه.. الدراسات
التى تتناول الأزمات بأمانة.. يصبح دفنها واجب شرعى!!
تتمدد جماعات الإسلام السياسى.. تبرز جماعة "الإخوان"
وتذهب إلى السيطرة على النقابات المهنية.. تمارس "الجماعات المفقوسة
عنها" الإرهاب كنتيجة طبيعية لإطلاق أياديهم.. تظهر كلمة "الإرهاب"
جنبا إلى جنب مع موسيقى "الفتنة الطائفية" الجنائزية!!
يجد "أنور
السادات" فى هذه الصورة فرصة جديدة للقفز إلى الأمام.. يتخلص من "حافظ
إسماعيل" مستشاره للأمن القومى, والذى كان حلقة الوصل السرية مع الأمريكان..
فيرسله سفيرا فى "موسكو"!! يتم إبعاد "مراد غالب" وزير
الخارجية حين قال: "الأجهزة الأمنية تقدم المعلومات, وليس من شأنها تقديم
تصوراتها لحلول الأزمات.. أو اختيار قيادات ومسئولين" فيذهب سفيرا إلى
"بلجراد" بعد التخلص من "عزيز صدقى" و"عبد العزيز
حجازى".. ويتجاهل "السادات" تقارير رسمية تحذر من خطورة جماعة
"الإخوان" على المدى القصير.. تضاعف "الديمقراطية الرخيصة"
التى تم التحضير لإعلانها, من حركتها ونشاطها هجوما على "عبد الناصر"
وزمن 23 يوليو.. وفى الخلفية يتولى "محمود أبو وافية" عديل
"السادات" رئاسة لجنة الاستماع للحوار حول مستقبل الاتحاد الاشتراكى..
ثم يقوم "سيد مرعى" نسيبه.. بإعداد التقرير الختامى للمناقشات.. ومن هنا
كانت بذرة "التوريث" ضمن "المنهج"..
يتبع
0 تعليقات