نصر القفاص
كان مفزعا أن تشهد دولة حققت أعظم انتصاراتها العسكرية فى العصر
الحديث.. كارثة عنوانها "الكلية الفنية العسكرية" فى قلب العاصمة..
محاولة انقلاب على النظام والرئيس.. وضد المجتمع.. ينفذها شباب بطريقة درامية
ودامية.. ويتم التعامل مع الكارثة برفع شعار "العلم والإيمان" ومحاولة
إقناع الرأي العام بأنهم "قلة منحرفة"!!
تدور ماكينات الإعلام
لتقول للشعب أن هؤلاء فاشلين.. فقدوا عقولهم.. يعانون أمراضا اجتماعية بسبب
الفقر.. الحل أن تأخذ مصر طريق "الرخاء والرفاهية" ومفتاحه دخول
"متاهة" سياسية..
بتطوير "الاتحاد الاشتراكى" عبر "المنابر"..
ثم "متاهة" اقتصادية اسمها الانفتاح.. و"متاهة" طائفية يترعرع
داخلها الإرهاب.. كان مطلوبا تمكين أقلية من مفاصل الدولة والمجتمع بأسرع وقت.. لا
سبيل لتحقيق ذلك غير السلام!!
يقدم الأزهر مشروع "قانون الحدود" لتطبيق الشريعة
الإسلامية للرد على التطرف الديني.. يزحف الحجاب.. تظهر مساجد شرعية وجمعيات خيرية
إسلامية.. تتحول صلاة الجمعة إلى مظاهرات دينية صاخبة.. يقطع مجلس الشعب جلساته
إذا حان وقت الصلاة.. تخصص الصحف صفحات دينية.. ينقل التليفزيون حوارات ومناقشات
تناقش قطع يد السارق أو رجم الزانية مع تحريم الخمر.. تغرق الجامعات فى مجلات حائط
دينية.. يدور الحوار بالجنزير والبلطجة من جانب الجماعات الإسلامية.. تظهر نغمة
"الإسلام المعتدل" لتقديم جماعة "الإخوان" لتبدأ صناعة
الاستقطاب الطائفي.. يرصد إحصاء صادر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون أن عدد ساعات
البرامج والأحاديث الدينية التى يتم بثها 32 ساعة فى اليوم الواحد فى كل المحطات..
وإذا حاولت أن تمد الخط على استقامته ستفهم سر مئات الساعات من هذه البرامج.. بل
ظهور قنوات إسلامية وأخرى مسيحية!!
وتقوم الجامعة الأمريكية
بإعداد دراسة إحصائية تقول أن عدد الصفحات الدينية بلغ 120 صفحة بين الصحف
والمجلات.. وتشير "دار الكتب" إلى أنه صدر 1035 كتاب دينى فى عام واحد..
ويذكر تقرير صادر عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن عدد
"كباريهات" شارع الهرم زاد بنسبة 375 بالمائة خلال عامى 1976 و1977..
وأن عدد الشقق المفروشة لأغراض الدعارة السرية زاد بنسبة 1000 فى المائة – ألف –
وتزيد حوادث خطف الفتيات والاغتصاب بمعدل 400 بالمائة!!
تتحدث عواصم الغرب عما تسميه "المسألة القبطية" وتصدر من
باريس مجلة "العالم القبطى" باللغة الفرنسية.. وينعقد على الجانب الآخر
مؤتمر "الهيئات والجماعات الإسلامية" برعاية الشيخ "عبد الحليم
محمود" شيخ الجامع الأزهر الذى يطالب بالتطبيق الفورى للشريعة الإسلامية دون
تأجيل أو تدريج.. ويعلن المؤتمر تقديره لإعلان الرئيس بأنه سيقوم بتطهير أجهزة
الدولة من الملحدين!!
ينتصف ليل القاهرة يوم الثالث من يوليو عام 1977.. يدور همس صاخب
حول جريمة غير مسبوقة فى تاريخ مصر.. تم خطف أحد كبار علماء الأزهر.. فى الصباح
يتلقى عدد من المسئولين والصحفيين اتصالات من شاب يتحدث بصوت هادى ويقول:
"نعلن أننا اختطفنا الدكتور حسين الذهبى عقابا له على مقاله الذى نشره ضد
جماعتنا يوم 30 مايو فى جريدة الأخبار الكافرة"!!.. ينتشر الخبر الصاعق..
يتفرغ رئيس الوزراء "ممدوح سالم" للأزمة – الكارثة الجديدة – وسط كومة
هائلة من الأسئلة.. كان الرئيس فى جولة خارجية تشمل رومانيا وإيران والسعودية..
فقد كان مشغولا بإعداد وإعلان طبخة السلام!!
ثلاثة أيام عصيبة.. تعثر أجهزة الأمن على الشيخ الجليل مقتولا!!
أيام قليلة ويتم الإعلان عن القبض على أمير الجماعة القاتلة.. اسمه
"شكرى أحمد مصطفى".. وتشهد عدة محافظات اعتقالات بالجملة لأنصاره من
الإسكندرية إلى أسوان.. يكتشف المجتمع أن السرطان انتشر فى جسده.. تلك أول حالة
اغتيال مع سبق الإصرار والترصد منذ اغتيال "حسن البنا" المرشد العام
لجماعة "الإخوان".. وتكشف أجهزة الأمن قائمة بأسماء آخرين كان هذا
التنظيم واسمه "المسلمون" – التكفير والهجرة – قد جهزها لقتلهم!!..
تتعامل ماكينة الإعلام مع
الجريمة الكارثية بالسذاجة نفسها التى عالجت بها كارثة "الكلية الفنية
العسكرية".. تنشر "الأهرام" يوم 8 يوليو على لسان رائد جماعة
"العشيرة المحمدية" عن الجماعة الإرهابية أنهم: "ليسوا جمعية دينية
بل عصابة للتدمير والكفر" ويتحدث رئيس "الجمعية الشرعية" ليقول:
"إن مبادئ التكفير والهجرة منافية لتعاليم الإسلام".. ويضيف رئيس جمعية
"شباب محمد" فى تصريحات صحفية: "الإسلام بريء من الهمجية والإرهاب
وتهديد أمن المجتمع".. ويقول الشيخ "حسنين مخلوف" مفتى الديار
السابق: "الجناة آثمون لا يبالون بالإفساد فى الأرض".. ويصف الدكتور
"أحمد شلبى" رئيس قسم التاريخ الإسلامي ما حدث بأنه: "ليس له نظير
فى التاريخ الإسلامي"!
فى "موسوعة العنف" التى أصدرها "مختار نوح"
نقرأ على لسان "طلال الأنصاري" أحد البارزين الذين شاركوا فى كارثة
"الفنية العسكرية" قوله: "شهد عام 1971 مرحلة جديدة للتيار الإسلامي
فى مصر.. حيث أمر السادات أجهزته الأمنية برفع يدها عن النشاط الإسلامي فزادت
الصحوة الإسلامية وانتشرت.. خاصة فى الإسكندرية.. وصاحبها موجة تشدد مسيحية وشهدت
مصر لأول مرة منشورات من الأقباط يطالبون فيها بمزيد من المكاسب السياسية..
باعتبارهم أصحاب الحق الأول فى مصر وأن المسلمين مغتصبين لمصر منهم وصاحب ذلك موجة
شائعات كبيرة عن تنصير المسلمين.. فقد كان مجيء السادات دفعة للتيار الإسلامي"!!
ويمضى "طلال الأنصاري" فى شهادته ليقول: "تحدث معى
صالح سرية بالتفصيل عن أساليب وطرق الوصول للسلطة.. حصرها فى ثلاثة طرق.. إما
بأسلوب برلماني ديمقراطي.. وإما بأسلوب شعبى.. وإما عن طريق الانقلاب, والأخير هو
الأقرب لمصر".. وأوضح أن: "كل هذه الحوارات حدثت خلال جلسة تحضرها زينب
الغزالى التى كانت تبتسم فى رضا تام لما تشهده من حوار دار بينى وبين صالح سرية
الذى تربى فى حضن جماعة الإخوان المسلمين فى العراق.. وحين جاء إلى القاهرة نزل فى
ضيافة الجماعة وتعددت لقاءاته مع حسن الهضيبى"!!
استخدم "أنور السادات" قناعاته التى كونت "منهج
الخداع الاستراتيجي" مع جماعة "الإخوان" لضرب اليسار – ناصريين
وشيوعيين – إلى حين إعداد المؤمنين بمنهجه وتمكينهم.. فهو كان يعلم الطريق الذى
سيأخذه كحاكم.. كان يعرف هدفه الشخصي, وأنه يريد أن يكون جزءا من منظومة الغرب
بصفة عامة و"واشنطن" على وجه الخصوص.. لاعتقاده فى أن طريق "عبد
الناصر" كان صعبا وقاسيا, خاصة وأنه لا يراهن على غير الشعب المصري.. لذلك
أفرج مبكرا عن "شكري مصطفى" وأطلقه عام 1971 مع عدد من قيادات الجماعة
ليلعبوا دورا أخفاه فى رأسه.. وهم راهنوا عليه أملا فى أن يستخدموه ليصلوا إلى
السلطة.. لكن الخطير فى اللعب بهذه النار, أنها جذبت شباب من القوات المسلحة
والشرطة ليمارسوا أعمالا سرية وإرهابية.. فالذى قتل الشيخ "حسين الذهبى"
هو "أحمد طارق عبد العليم" ضابط الشرطة المفصول!!
بدأ المجتمع يسمع عن "التكفير والهجرة" لأول مرة.. وتعلن
أجهزة الأمن عن عثورها على كميات من الأسلحة فى محافظة "قنا" تبلغ 3200
قطعة سلاح.. بينها الخفيف والثقيل ومدافع مضادة للطائرات!! وبدلا من ان يراجع
الرئيس "السادات" نفسه لحماية الوطن والمجتمع.. قرر أن يقفز للأمام
ويذهب إلى ما أطلق عليه "الديمقراطية" بإتمام تفكيك "الاتحاد الاشتراكي"
رغم أنه كان يعلم الحقيقة.. وهى ثابتة.. فالدكتور "الذهبى" الذى قتلته
جماعة "شكرى مصطفى" كان يدافع عن هؤلاء الشباب الذين يقدمون أنفسهم على
أنهم إسلاميين.. وقت أن كان وزيرا للأوقاف صدر كتيب عن الإدارة العامة للدعوة
الإسلامية فى الوزارة, جاء فى مقدمته: "أغلب الظن أن هذه الجماعات ليست إلا
فئة من الشباب ينشد التدين فى أسمى صوره وأبعدها عن مظاهر فساد الخلق وانحراف
السلوك".. ونشرت مجلة "روز اليوسف" تفاصيل تلك الرؤية يوم 11 يوليو
1977.. وكان آخر بحث انتهى إليه الرجل, وقدمه إلى مؤتمر الفقه الإسلامى الذى نظمته
جامعة الإمام محمد بن سعود فى "الرياض" كان عنوانه "أثر إقامة
الحدود فى استقرار المجتمع" وذكر فيه أن: "المجتمعات الإسلامية تشهد
الآن أملا فى عودة المسلمين إلى ربهم وإلى شريعتهم.. عودة من كان أعمى, فارتد
بصيرا.. بل عودة من أماته الله ثم بعثه"!! أى أن الرجل كان يتبنى من قتلوه
وأفكارهم.. كما تبناهم "أنور السادات" وكليهما كانت نهايته واحدة!!
انتقل الصراع الطائفى الذى تمت صناعته مع سبق الإصرار والترصد, إلى
خارج حدود مصر.. فانعقدت مؤتمرات للمسيحيين فى استراليا, وأخرى موازية للمسلمين فى
كندا.. فقد شهدت "ملبورن" فى "استراليا" إعلان قرارات المؤتمر
القبطى يوم 25 يونيو 1977.. وانعقد مؤتمر للجاليات الإسلامية فى
"تورنتو" منتصف شهر يوليو.. أى بعدها بأيام قليلة.. وبينهما كانت جريمة
اغتيال الدكتور "حسين الذهبى" إضافة إلى أحداث أخرى ساخنة شهدتها محافظة
"المنيا" بينما الرئيس لا يكف عن قذف "الملحدين" وتوجيه
الاتهامات لكل من "الشيوعيين" و"الناصريين".. خاصة وأن
انتفاضة 18 و19 يناير كانت قد أربكته, وخلطت أوراقه.. بل كادت تؤدى إلى إجهاض
مشروعه الذى ربط مصر بنظام "الأوف شور" اقتصاديا.. ثم أكمل خليفته
بإدخال مصر فى نظام "الأوف شور" سياسيا، أملا فى الفوز بتنفيذ
"التوريث" فى الحكم!!
يوم 9 نوفمبر عام 1977 ذهب "أنور السادات" إلى مجلس
الشعب ليلقى خطابا سياسيا مهما.. انتهى إلى أنه أصبح خطيرا!! فقد بدأ الخطاب
بقوله: "فى 18 و19 يناير تخرج قلة ضئيلة تستغل الغوغاء.. ثم تخرج إذاعة دولة
من الدول العظمى هى الاتحاد السوفيتى لتقول عن هذه الأعمال انتفاضة شعبية.. محاولة
حرق العاصمة والمجمعات الاستهلاكية وحرق الأتوبيسات فى عرفهم انتفاضة شعبية..
سنواجه هذا بمنتهى الحسم والعنف.. لا يمكن أسمح لأى فئة أن تفرض على هذا الشعب ما
لا يرضاه, أو تروج أن هذا الشعب المؤمن يقبل الإلحاد"!!
ثم أعلن فى نهاية الخطاب استعداده لزيارة إسرائيل.. تأخذ الصدمة الرأي
العام فى الداخل والخارج.. عشرة أيام فقط بعد هذا الإعلان.. تهبط طائرة الرئيس فى
القدس ويتلقى برقية تأييد من الدكتور "عبد الحليم محمود" شيخ الجامع
الأزهر الذي كان فى زيارة إلى "واشنطن"!!
كانت "متاهة" الانفتاح قد أصبحت واقعا..
و"متاهة" الفتنة الطائفية فرضت نفسها.. وملامح "متاهة"
السياسة أوشكت على أن تكتمل.. فقد قرر الرئيس أن يقود بنفسه حزبا جديدا اختار له
اسم "الحزب الوطني الديمقراطي" الذى أسرع "رجال الزمن الجديد"
بالانضمام إليه.. تركوا حزبهم الذى يقوده رئيس الوزراء "ممدوح سالم"..
والمفارقة أن اسمه كان حزب "مصر العربي الاشتراكي".. فقرروا إعلان
القطيعة مع مصر والعروبة والاشتراكية!! والذهاب إلى "الوطني الديمقراطي"
بصورة هزلية أطلق عليها "مصطفى أمين" فى عموده "فكرة" وصفا
تستحقه.. أسماها "الهرولة" لينال عقابه بمنعه من الكتابة فى "الزمن
الديمقراطى"!!..
يتبع
0 تعليقات