آخر الأخبار

لماذا أحببت رواية "حانة الست" لمحمد بركة

 

 


 

روبير الفارس

 

 

"أم كلثوم تلك التي تزعمون إنها كوكب الشرق لا اعرف متي تتوقفون انتم المصريين عن تأليه البشر" هذه الجملة التي وردت في متن رواية حانة الست للكاتب محمد بركة. تعد خطوة كبيرة في طريق التراجع عن تأليه البشر. " أحببت هذه الرواية لأني أقوم بنفس الدور في تحطيم أصنام أخري "كان محمد واضحا بدا من عنوان الرواية الذي دمج فيه بين الإشارة الي أغنية حانة الأقدار التي عربدت فيها الليالي. والحانة كموضع لا حدود ولا رقابة للحديث فيها. فهذا هو المكان المناسب لتروي أم كلثوم قصتها المحجوبة. والتي التقط فيها محمد بركة الخيوط المسكوت عنها عن الست ومنها يبني أحداث بحروف من نار. تنزل بكوكب الشرق الي طين البشر. خاصة وان هذه الخيوط لها أثار وظلال في المخيلة الشعبية التي احتفظت بالكثير من القصص السوداء عن أم كلثوم التي اشتعلت فيها نار الغيرة من أسمهان وصوتها الملائكي. فراجت تهمة وإشاعة دور أم كلثوم وراء قتلها. وهي تهمة ظلت يقظة عند قطاع كبير من العجائز. أمي حتى هذه اللحظة تملك هذا اليقين الغريب فتقول كوكيل نيابة مخضرم "أم كلثوم قتلت أسمهان " وهو الكلام نفسه الذى كان يردده حمايا رحمة الله عليه .(أي ان هناك قطاع شعبي لم يشارك في حالة تقديس أم كلثوم مع عشقه لصوتها ) نقد أم كلثوم أيضا شارك فيه من قبل الشاعر احمد فؤاد نجم في قصيدته الشهيرة" كلب الست "عندما عض كلب أم كلثوم شاب غلبان كان يمشي بجوار فيلتها بالزمالك والقضية أغلقت بعد ان سجن الشاب واعتبروا إن الشاب هو "الذي عض الكلب"....وانتقد نجم نفوذ وسطوة أم كلثوم بقسوة شديدة في القصيدة . وقتها توعدت أم كلثوم نجم وقالت للصحفي جليل البنداري : الشاعر اللي كتب القصيدة دي أنا حاخرب بيته!

 

جليل البنداري: أحب اطمنك. معندهوش بيت!

 

أم كلثوم: أنا حاشرده!

 

جليل: أحب أقول حضرتك، هو مُشرَّد جاهز!

 

ولاندري ماذا كانت سوف تفعل أم كلثوم إذا قرأت رواية حانة الست لمحمد بركة. فمن المؤكد أن الرواية اشد قسوة وأكثر إيلاما من القصيدة

 

داخل الحانة

 

تقع الرواية في نحو ٢٩٠ صفحة. حيث تروي أم كلثوم الأحداث بلسانها. الأمر الذي يعطي القارئ مصداقية فنية عالية. الي جانب متعة النميمة وتعرية النفس. ويبرر بركة هذا الحكي علي لسان الست التي تقول في صفحة ٩" لقد تحولت الي تمثال من شمع يقدسه الجميع هرم من الكريستال ينتصب شامخا علي البعد دون ان يجرؤ احد علي الاقتراب منه واختبار ملمسه لا ذرة تراب. لا سطر شخبطة علي الورق المصقول بعد كل هذه السنوات علي صعودي.

 

 لم تعد تلك الصيغة مريحة جاء جيل مختلف متمرد لن يحبني الا اذا راي ضعفي وتحسس هشاشتي وعاين علي الطبيعة إنسانيتي "وأكد محمد بركة ذلك في تصريح له قال فيه "ان كتاب ومؤرخو السيرة الذاتية لأم كلثوم ظلموها على طريقة الدبة التي قتلت صاحبها حين قدموها في صورة مثالية تكاد تكون مقدسة وتجاهلوا إنسانيتها وضعفها البشري ظنا منهم أن ذلك يسيئ إليها، في حين أن العظمة الحقيقية لتلك المرأة الخرافية تتأكد حين نعيد اكتشاف إنسانيتها . وهذا ما فعلته في الرواية".

 

وعلي صفحات الرواية يظهر هذا الضعف وتلك الهشاشة واثر أنياب الفقر. علي طفولته أم كلثوم البائسة . فتذكر الرواية صفحة ١٣ عن والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي الذي أصابه الغم عندما علم انه رزق بانثي " كان استخدام الحمام امتياز خاصا ينعم به وحده أما نحن أولاده فلنا رب اسمه الكريم وشاطئ الترعة" وتصف الست هذه الطفولة فتقول' لم ارتد يوما ملابس زاهية ملونة لم أجرب رداء بنصف كم لم افرح مثل بقية البنات في زماني بتصفيف أمي لشعري لم أنافس الأخريات بشريط احمر من الستان يزين راسي وعيت علي الدنيا وأنا حبيسة جلابية سوداء تليق فقط بأرملة عجوز ".

 

هذا الفقر جعل الست تتلذذ وهي تنتقم بتحطيم ألواح الكتابة الخاصة بالأطفال الأثرياء في الكتاب وتشمت في موت شيخ الكتاب الذي سخر منها. وفي حربها علي أسمهان والموسيقار عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.

 

الرجال

 

حرقت الرواية كل الخطوط الحمراء لام كلثوم وخاصة في المنطقة التي يخاف الكثيرون الاقتراب منها وهي عن الرجال في حياتها تقول الست “تعلّمت أن الأنوثة عار، فعشت أجمل سنوات العمر متنكّرة في عقال بدوي، ومعطف أزرق وحزام يشد البطن، حتّى أبدو للجميع رجلاً من ظهر رجل، فتتجنّب عائلتي فضيحة أن لديها ابنة تغنّي” (ص6). ما تلبث أن تطرح البطلة على نفسها السؤال الذي حام حول ميول أم كلثوم، واحتمال أن تكون مثليّة، بقولها: “هل يعني هذا أنني عشت أعاني خطباً؟ اضطراب غامض في الميول والرغبات؟” (ص6).وترد حول الإشاعة عن ميولها المثليّة.

قائلة “أنا راهبة الإسلام، خاتمة المطربين والنساء، يأتي اليوم الذي تختصرون فيه تاريخي في شائعات رخيصة وهمساتٍ جبانة” (ص6).رغم اعترافها الذى قالت فيه : “نعم، أحببتُ النساء حبّاً رقيقاً ناعماً له ملمس الحرير، لكنه ليس ذلك الحبّ الشرير الذي يلهم قصيدة شريرة (…) لي أكثر من صورة أتبادل القبلات في الفم مع بعض المعجبات” (ص7).ومع ذلك تتحدث عن قوة تأثيرها علي الذكور صفحة ٣٩"فتقول

 

لم يهبني الله صوتا استثنائيا فقط. بل القدرة الرهيبة علي التلاعب باعتي الرجال. لم امتلك مثقال ذرة من أنوثة هند رستم أو دلع شادية لكني انا الفقيرة الي مولاها استطعت ان آتي بما لم تأت به هولاء النسوة يظل الواحد من هولاء نموذجا للرجل الحر الوسيم الموهوب شارب يقف عليه الصقر حتي يراني يسقط من عليايه وهو يصيح انا حمارك ياسيدتي فانعمي علي واركبني ".

 

وقدمت الرواية نماذج من هولاء الرجال مثل الشيخ أبو العلا محمد حبيبها الأول. الذي كانت تدلعه ب "لولو" واستغلالها للشاعر احمد رامي والذل الذي عاش فيه القصبجي وغيرها من القصص الغرامية الحراقة فعلا. وهو مجال وصلت فيه الحرب علي الست الي مدي بعيد كما جاء علي لسانها في صفحة ٢٥٢" كانت روزا اليوسف المجلة الوحيدة التي فشلت في كسب ودها لأنها أصبحت في جيبه الصغير - تقصد الموسيقار عبد الوهاب الذي ظلت طوال الرواية تصفه بصاحب فروة الرأس اللامعة دون ذكر اسمه- وتكمل (يحرر احدهم بابا ساخرا ليرد فيه علي رسائل القراءة لكن الباب لا يسمع به الناس الا حين يقول حضرة المحرر المحترم ان القاريء الفلاني أو العلاني بعثا إليه يسألانه هل لاتزال أم كلثوم انسة فما كان منه الا ان استخار الله سبحانه وتعالي ورد قائلا العلم عند الله لكن كل من ناموا معها يؤكدون أنها لا تزال انسة".

 

وعلي لسان أم كلثوم وصفت الرواية بقسوة عدد من كواكب الفن فتقول عن احمد رامي «شاعري الخصوصي»، ومحمد عبد الوهاب «العبقري الأصلع»، وعبد الحليم حافظ «ابن السهوكة»، وأسمهان «القطة السورية» وسيد درويش «فنان الشعب»، الذي رحل عن 31 عاماً بأنه «لم يخلص لشيء في حياته قدر إخلاصه للكوكايين والويسكي والفشل» (ص 135).

 

أسمهان

 

أكد الروائي الغيرة الشديدة التى انتابت أم كلثوم من أسمهان فتقول صفحة 213 "تصغرني بثلاثة عشر عاما فهل تصبح أم كلثوم الجديدة مضافا إليها شامة حسن وسيجارة لاتغادر شفتين شهيتين ؟

 

تنكرت علي هيئة سيدة شعبية ترتدي ملاية لف سوداء مع البرقع وذهبت الي صالة ماري منصور بشارع عماد الدين لأعاين البنت الجديدة علي الطبيعة عدت والهم عفريت صغير يركبنى سمعتها وليتنى ما فعلت صوت ليس كمثله شيء نقي كالمطر يستولي علي القلب مثل دمعة في عين طفل أما ان تكون "مخاوية " ويأتيها المدد من وادي عبقر أو عرفت اسم الله الأعظم الذى دعي به أجاب اترها دعته ان يأتيها من حلاوة الصوت مالم يؤت احد في العالمين ؟

 

لم أري علي مدار حياتي مصدر تهديد محتمل سوي اثنين صوت فاتنة الشام والحان صاحب الرأس اللامعة " وتؤكد صفحة 225قائلة " كرهتها كما ينبغي لإخوة يوسف ان يكرهوا الفتي المدلل "تلك التى توصفها "بأنها تفتح ساقيها مقابل سيجارة ".

 

مناطق مجهولة

 

تعرضت الرواية للكثير من المناطق المجهولة والغامضة في حياة الست من ذلك زواجها الصوري من الشيخ عبد الرحيم صاحب مطبعة الرغايب حتي تتمكن من السفر الي العراق وأقامت الحفلات هناك. حيث كان الشرط وقتها لتسافر ان تكون متزوجة ويوافق زوجها علي السفر والإخفاء والتجاهل الغريب لشقيقتها"سيدة "والتي قالت عنها صفحه ١٦٢" اختى سيدة وردة العائلة السوداء التي تواطا الجميع علي نسيانها وسقطت عمدا من ذاكرة كتاب سيرتي الذاتية يفضل الجميع تجنب سيرتها كأنها خطيه قديمة "تقول سيدة لأحمد رامي وهو يراها لأول مرة ويلتبس عليه الأمر: «صحيح أنا التي ربيت أم كلثوم على يدي وأعتبرها مثل ابنتي، لكني في النهاية أختها الكبرى، خدامتك سيدة» (ص 166).

 

كذلك تدخل جمال عبد الناصر شخصيا عندما صفعها زوجها الدكتور الحفناوي لأول مره بالقلم علي وجهها . وقال عبد الناصر أنا لا أتدخل في الأمور الشخصية بين الناس أم كلثوم زوجتك لكنها هي أيضا مصر!

 

لقد استطاع محمد بركة ان يخلق المتعة من كبد النميمة. وسرب بقلمه النمل لتمثال كوكب الشرق فصنع بذلك حالة تمزج بين التاريخ والوهم لتبقي أم كلثوم الصوت العبقري والسيرة المرعبة

 

إرسال تعليق

0 تعليقات