نصر القفاص
قبل أن ينتهى عام 1974 كانت حالة الانتصار العسكري قد بدأت تنخفض،
حتى لا نقول تتلاشى.. مصر أصبحت تعيش حلم "الرخاء والرفاهية" القادمين
من رحم الانفتاح الاقتصادي.. رياح "الديمقراطية الرخيصة" بدأت تهب على
المجتمع.. الحوار حول مستقبل الاتحاد الاشتراكي يجرى وسط أجواء ساخنة.. أصوات طى
صفحة هذا التنظيم السياسي الأوحد عالية.. أغلبية المثقفين ونواة النخبة الاقتصادية
التى تتشكل تطالب بعودة الأحزاب.. الهجوم على "عبد الناصر وزمنه"
يتصاعد.. خرج رجال الغرب من جحورهم..
مهمتهم المقدسة تقديم كل
الدعم للرئيس الديمقراطي والمؤمن فى الوقت نفسه.. فهذا بطل الحرب القادر على القفز
بالمجتمع إلى واحة الليبرالية!! يتسلم "السادات" تقارير أمنية مقلقة..
كان أهمها قد أعده جهاز أمن الدولة.. شرح التقرير الحالة السياسية والمجتمعية..
أوضح أن الناس يبحثون عن المزيد من الحرية والديمقراطية.. وذكر أن الجماهير تطالب
بإعادة تعريف العامل والفلاح باعتبار أن لهما نصف مقاعد البرلمان كما نص الدستور..
كان اسمه الدستور الدائم وصدر عام 1971.. وأشار التقرير إلى تدهور فى الأحوال
الاقتصادية للطبقة الوسطى والفقيرة.
تناول التقرير الأمنى طفح الطبقة الطفيلية الجديدة التى تتكاثر
بسرعة رهيبة – أقران (بسة والخمس) – وسلوكهم المستفز بفعل أرباح طائلة من
الاستيراد.. فى الوقت نفسه ارتفعت أسعار السلع والأقمشة والدواء وإيجارات
المساكن.. وحذر من خطورة ذلك فى هذا التوقيت.. وكانت جريدة الجمهورية قد نشرت يوم
14 نوفمبر 1974 تقريرا يقول أن هناك 219 تاجرا يكسبون 25 مليون جنيه سنويا.. ونشرت
"روز اليوسف" أن القيمة الإيجارية لكازينو "الميريلاند"
تجاوزت نصف المليون جنيه بعد أن كانت 30 ألف جنيه سنويا.. وتحدث التقرير عن أن
التنظيمات الناصرية هى الأقوى على الساحة، لكنها ترى أن ما حدث فى 15 مايو 1971
كان انقلابا.. وأوضح أن "الوفد" أصبح له أربعون نائبا تحت قبة البرلمان،
وشباب الوفد نشطوا فى الجامعات.. وأن تنظيم "الإخوان" أطل برأسه وبقوة
واضحة فى الجامعات وبعض النقابات.. وحذر من خطورة الشيوعيين باعتبارهم أقلية
متماسكة وقادرة على التأثير وإدارة أى أحداث يمكن أن تقع.. ونصح بضرب الأقليات
السياسية!!
ناقش "السادات" التقرير مع دائرته المقربة.. سمعهم
جميعا.. ثم قال لهم: "إحنا هنسيب الناس تفضفض وتقول اللى هى عايزاه.. بعدين
إحنا نقرر نعمل إيه"!!
وبعد أيام قليلة عادت أجهزة الأمن بتقرير آخر للرئيس تقول أنها
رصدت اتفاقا بين الناصريين والشيوعيين، وأنهم اتفقوا على توحيد جهودهم لمواجهة
الإمبريالية الأمريكية وذيلها إسرائيل.. وأنهم يرون أن الثورة المضادة تحتمى
بأمريكا التى تدعم أعدائنا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.. ويرون أن هناك محاولات
لاحتواء نتائج حرب أكتوبر.. وأن الرأسمالية انضمت لهؤلاء، لتلعب دور الشريك الأصغر
لرأس المال الإمبريالي والأجنبي.. ولإلقاء رايات الاستقلال الوطني بعد حرقها..
وأعلن الطرفان رفضهم لدفع التطور الاقتصادي والاجتماعي فى اتجاه رأسمالي للإجهاز
على إنجازات ثورة 23 يوليو خاصة على الساحتين العربية والإفريقية.. واتفقوا على
تشكيل جبهة موحدة معادية للسلطة انتصارا للمصالح الوطنية.
انفجرت فى أول يناير 1975 مظاهرات.. انتهت إلى تحطيم مكاتب شركات
الطيران الفرنسية والليبية والمكتبة السوفيتية فى وسط القاهرة.. وشهدت تحطيم عدد
من سيارات المواطنين.. تعلن أجهزة الأمن أن "قلة مندسة" هى التى نفذت
التخريب.. تنشر وكالة أنباء الشرق الأوسط يوم 5 يناير تقريرا يقول: "تمكنت
أجهزة الأمن مع النيابة العامة عن رصد النشاط الهدام الضار بالأمن القومي منذ تسعة
أشهر"!!
يكتب "عبد الرحمن
الشرقاوى" فى "روز اليوسف" أن المظاهرات ليست من تدبير المخابرات
الأمريكية لكنها تدبير للشعب المصري الذى يعانى من القمع ويشكو من الغلاء.. وقال
أن اعتقال ألف مواطن من الطلاب والعمال والمثقفين ليس هو الحل.. ولا العلاج..
فالمرض كان فى الفئات الطفيلية والسماسرة والشركات الأجنبية.. وأن هؤلاء يؤذيهم ما
يردده حكام الخليج حول إنقاذ مصر من المجاعة.. يتم الإعلان عن تأجيل زيارة كانت
مقررة للزعيم السوفيتى "برجنيف"!!
يرى "السادات" أن الحل فى الذهاب إلى تأسيس منابر من
داخل الاتحاد الاشتراكي.
الكلمة – منابر – جديدة وتدعو للسخرية.. لكن الرئيس قرر وقال أن
الديمقراطية ليست مجرد نصوص.. لكنها ممارسة عملية.. والشعب ارتضى نظام تحالف قوى
الشعب العامل إطارا لحياته السياسية.. وهذا فى حد ذاته يحمى الوحدة الوطنية, لأن
الأحزاب يمكن أن تفتت المجتمع!! واختار الرئيس للوطن أن يكون فيه ثلاثة منابر
أحدها للوسط والثاني لليمين والثالث لليسار.. وهذا يكفى لكى تنطلق الممارسة
"الديمقراطية الرخيصة"!!
تشهد مدينة المحلة الكبرى" تظاهرات ضخمة مطلع مارس عام 1975..
جاءت هذه المظاهرات فى أعقاب مظاهرات نظمها عمال المصانع الحربية فى حلوان.. كانت
هذه الاحتجاجات رافضة للائحة الأجور.. وترفض قانون الإصلاح الوظيفى, وتطالب بالأمن
الصناعى.. ورفعوا شعارات "عبد الناصر ساب وصية.. العمال مع الفدائية"..
وكذلك "عبد الناصر ياما قال.. خلوا بالكو من العمال"!!
ليكتب "مصطفى أمين" فى الأخبار أن مظاهرات العمال كانت
سببا فى فشل المباحثات مع "كيسنجر" رغم أن العمال حرصوا على استمرار
عجلة الإنتاج.. فقد واجهت أجهزة الأمن المتظاهرين ليسقط خمسون شهيدا ويتم اعتقال
ألف قيل عنهم أنهم شيوعيون وناصريون!! أدى ذلك إلى اتساع رقعة المتظاهرين لتشمل
شبرا الخيمة وعمال الغزل والنسيج بالإسكندرية, وانضم إليهم عمال النقل العام فى
جراجى "فم الخليج" و"دار السلام".. وكان يتم تهدئة الأجواء
بمنطقة لتشتعل فى أخرى.. من المنزلة التى شهدت تظاهر صيادى الأسماك والحرفيين فى
دمياط.. ثم عمال كفر الدوار..
وهكذا أصبح المجتمع على صفيح ساخن.. لم تنجح وعود "الرخاء
والرفاهية" فى تهدئة الأجواء.. كانت الأغلبية الساحقة رافضة لإهدار ثمار أكبر
وأعظم انتصار عسكرى.. أدرك الرأى العام أن وعود الديمقراطية والكلام عن سيادة
القانون ليست أكثر من شراك خداعية.. فهموا أن المستفيدين من زحف هذا الفساد هم فقط
الذين يؤيدون تلك التوجهات.. وفى شهر يونيو عام 1975 تنشر مجلة "العالم الإسلامي"
التى تصدر فى "مكة" خبرا يبشر بعودة قيام تنظيم "الإخوان"
واختيار مكتب إرشاد جديد بقيادة الدكتور "توفيق الشاوى" الأستاذ بكلية
الحقوق فى جامعة القاهرة!!
منهج "الخداع الاستراتيجي" يقوم على أن الحقائق
والمعلومات يعرفها العالم, دون أن يسمع عنها الشعب المصرى.. يرى أن الديمقراطية
ليست أكثر من ضباب يخفى ما يتم تدبيره فى السر..
يعتبر الحرية فيها سم قاتل.. يؤمن الذين يطبقونه أن الشعب جاهل..
قاصر.. لا يعى مصالحه.. لا يهمه أكثر من الأمن والاستقرار مع تأمين لقمة العيش..
أقنع أصحابه الغرب بأن مصالحهم يؤمنها ترويض الصحافة وإحكام السيطرة على
التليفزيون مع مسخ الثقافة!! ولضمان عدم عودة "عبد الناصر" المنهج, يجب
تربية الفساد وترويضه حرصا على استمراره وعلى مستقبله!!
ولاستمرار منهج "الخداع الاستراتيجي" يجب التخلص من
عقيدة أن "إسرائيل هى العدو" لتصبح فى مرحلة "الناصريون هم العدو
مع الشيوعيين" بإعطاء فرصة للإخوان و"الجماعات المفقوسة عنها" ثم
يصبح "الإخوان والإرهاب" هما العدو.. أى أنه لابد وأن تتغير البوصلة من
الاتجاه نحو العدو الخارجي إلى العدو الداخلي, لتعيش مصر صراعا داخليا دائما بضمان
السلام مع إسرائيل!!
كانت الخدعة أكبر من أن يستوعبها الشعب المصرى.. ربما لأن النخبة
شاركت فى صناعة الخديعة مقابل الفوز بمكاسب محدودة فى ظل "الديمقراطية
الرخيصة" التى بدأت بالمنابر.. وتطورت إلى أحزاب تتحالف مع السلطة وداعميها..
أو تتصارع مع السلطة وتستنجد بداعميها.. لتظهر أعراض مرض جديد اسمه "الفتنة
الطائفية" لم يكن له وجود فى "زمن 23 يوليو"!
وسط هذه الحالة.. كانت هناك أولويات.. تبدأ بإضعاف القطاع العام
تمهيدا لتفكيكه, قبل شطبه نهائيا.. خاصة القلاع الصناعية الكبرى فى حلوان والمحلة
وكفر الدوار وشبين ونجع حمادى وأسوان والإسكندرية.. لأن العمال أصبحوا يمثلون
صداعا للنظام, وسيكونون خطرا على مستقبل "المنهج الساداتى" لذلك تم
تسليم ملفاته فى البداية إلى أجهزة الأمن.. بعدها كانت مرحلة الشراكة مع
مستثمرين.. وصولا إلى المرحلة النهائية ببيع كل هذه القلاع.. وعلى التوازى تجرى
عملية خلخلة لمجتمع الجامعة, تقوم على استحداث نظام التعليم الخاص.. وإطلاق يد
المدرسين لإعطاء الدروس الخصوصية.. المهم أن يحدث ذلك فى ظل صخب دائم حول ضرورة
تطوير التعليم, وتقديم الأصوات التى تتحدث عن أن مجانية التعليم هى التى خربت
التعليم!! فتم فتح الباب للاستثمار فى التعليم.. أصبحت المدارس مشروعات اقتصادية,
ثم زحف "رجال المال" على الاستثمار فى المعاهد العليا ثم إنشاء
الجامعات.. كان معلوما للذين استهدفوا التعليم أنه يتحول إلى شهادات بلا قيمة, لأن
الدولة راحت ترفع أيديها عن تشغيل وتوظيف الذين يتخرجون من الجامعات..
وبلغ المنهج ذروته بأن أصبح التعليم فى مصر له ألوان ومضامين
متباينة.. أمريكى وبريطانى وروسى وفرنسى ويابانى.. ولا مانع من تعليم وهابى!!
ولضمان تحقيق أهداف "منهج الخداع الاستراتيجي" كان لابد من "تأمين
الإعلام" بأن يتولى أمره أهل ثقة النظام من الذين ترشحهم الأجهزة الأمنية..
وتقرر الاقتراب من ملفات الثقافة بحذر, خشية استفزاز كبار الكتاب والمفكرين
والأدباء الذين كانوا يتمتعون بثقة قطاعات عريضة من الشعب.. فتم اعتماد فكرة
"مسخ الثقافة" بإفساد الذين يقبلون مكاسب رخيصة, واضطهاد الذين يرفضون
وتشويه صورتهم!!
فى البداية لم تكن الصورة واضحة.. لكن ملامحها اتضحت عندما تقدم
الصفوف نماذج تثير الدهشة فى كافة المواقع.. فالذين يتم الرهان عليهم ليكونوا
نوابا فى البرلمان أو وزراء فى الحكومة لابد أن يقدموا مؤهلهم بالعداء لزمن 23
يوليو.. سواء كانوا من "الوفد" أو "الإخوان" أو
"الأغنياء الجدد".. والأولوية للذين يبررون كل قرار للرئيس, والذين
يقدرون على مواجهة الجماهير بالكذب أو التخويف بالإشارة إلى أجهزة الأمن!! ظهر جيل
جديد كان عنوانه نائب الرئيس – حسنى مبارك – وقيل أنه يمثل جيل اكتوبر.. شيئا
فشيئا كان يتوارى رجال الصف الثانى والثالث خلال حكم "عبد الناصر" مع
الاحتفاظ بالذين قبلوا تغيير القناع!! تشتت الرأى العام ودخلت قطاعات واسعة سباق
البحث عن فرصة فى مهرجان "الثروة الموعودة" بعد أن أصبح الفساد تهمة لا
تستوجب النفى.. بل تحول ليصبح مصدر فخر للفاسدين, باعتباره شهادة اعتماد للوجاهة
والمناصب!..
يتبع
0 تعليقات