نصر القفاص
عاشت مصر ضجيجا مستمرا.. لا يتوقف؟ منذ أن تسلم "أنور
السادات" المسئولية كرئيس للجمهورية.. كان هناك حرص على "الضباب"
الكثيف الذى يحجب أى حقيقة.. وكل حقيقة.. وإذا كانت أيام الحرب, قد خطفت الأبصار
والقلوب مع العقول.. فقبل أن تسكت المدافع عاد الضجيج والضباب.. ليتم تنفيذ
"منهج الخداع الاستراتيجي" للشعب وضمن ملامحه.. القفز للأمام ورفع صوت
الضجيج أكثر, مع إضافة كثافة للضباب.. يحدث ذلك لفرض الحيرة والعجز على كل من
يحاول أن يفهم ما يحدث!!
كل التقارير الدولية والمحلية أكدت أن ديون مصر لم تتجاوز مليارى
دولار عام 1974.. كان سعر الدولار وقتها 40 قرشا – أربعون – وتلك حقيقة ثابتة
وساطعة, لا تقبل نقضا ولا إبرام رغم كل محاولات طمسها.. شاركت جماعة
"الإخوان" إلى جانب "الجماعات المفقوسة عنها" فى حملات تدمير
الوعى السياسى والاجتماعي والاقتصادي.. وأعلنت بمباركة أجهزة الدولة حربا على
الثقافة والإبداع.. كانت الجامعات ميدانا للمعركة.. استهداف العمال والفلاحين بدا
واضحا.. تحمل مضابط مجلس الشعب التفاصيل.. خلال الفصل التشريعى الأول من حكم
"السادات" وتحديدا فى دور الانعقاد الرابع.. تعقد "لجنة الخطة
والموازنة" اجتماعا لمناقشة تقرير وزير المالية "أحمد أبو إسماعيل"
وكان عنوانه: "التقويم الاقتصادي والمالي" يوم 14 ديسمبر عام 1974..
يقول التقرير أن نصيب قطاع الزراعة فى استثمارات عام 1975 سينخفض من 62 مليون جنيه
إلى 52 مليون جنيه.. وأن استثمارات قطاع الكهرباء ستؤدى إلى قصور فى أداء هيئة
كهرباء الريف, وذلك يعنى عدم استكمال المشروعات المستهدفة.. ويذكر التقرير أن
موازنة عام 1975 لم تخصص سوى 3% للخدمات التعليمية والبحوث والصحة.. باعتبار أن
هذه قطاعات لا تضيف عائد للدولة!! وحذر التقرير من أن ذلك سيؤدى إلى تدهور أحوال
الريف, ويدفع سكانه إلى الهجرة إلى القاهرة وعواصم المدن.. وحذر الوزير فى تقريره
من ذلك وخطورته فى المستقبل!!
المكتوب والمطبوع لا تستطيع "ماكينات الكذب والتزوير" أن
تهرب منه.. لكن "خدم الملكية والاستعمار" يجيدون التغطية عليه بالضجيج
والضباب.. وتحمل مضبطة مجلس الشعب بتاريخ 10 مايو 1975 تقرير "اللجنة الخاصة
لتقصى الحقائق فى صفقة أتوبيسات إيرانية" الصادر للرد على استجواب قدمه
الدكتور "محمود القاضى" لوزير النقل.. كان الاستجواب قد حمل مستندات
تؤكد أن الحكومة اشترت سيارات أتوبيس من إيران, بسعر يزيد عن الثلث على السعر الذى
تعاقدت به إيران مع الكويت والسودان!! وأن الصفقة أدت إلى خسارة تفوق عشرة مليون
دولار.. يتم تجاوز الفضيحة بحملات مكثفة استهدفت النائب, الذى أنقذه تاريخه الناصع
والزخم الجماهيرى الذى يحميه.. فهو أستاذ بكلية هندسة وكان نائبا لدائرة "بنها"
قبل أن يصبح نائبا عن إحدى دوائر "الإسكندرية" التى استقر بها.. وأصبح
رئيسا لنادي "الاتحاد السكندري" المعروف بشعبيته الكبيرة.. واستمر
الدكتور "محمود القاضي" صداعا كما عدد قليل من النواب.. حتى أثمرت كل
جهود إسقاطه بعد تشويه لسنوات.. خاصة وأنه استجوب بعدها بسنوات "عثمان أحمد
عثمان" الذى شغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الإسكان والتعمير.. وأدى هذا
الاستجواب إلى كشف استفحال الفساد بصورة مذهلة.. وأصدر بالتفاصيل الدكتور
"القاضى" كتابا تمت مطاردته بالسحب من الأسواق, واختفى بعدها وكان عنوانه
"البيوت الزجاجية"!!
السرعة كانت مطلوبة لتنفيذ توجهات ومنهج.. نجد أن مضبطة جلسة مجلس
الشعب يوم 23 يونيو 1975 تحمل تفاصيل قانون إعادة الطبقية وذبح الفلاح.. شهدت هذه
الجلسة إقرار تعديلات على القانون رقم 178 الصادر سنة 1952, والتى انتهت إلى إعادة
الوضع إلى ما كان عليه قبل صدور قانون الإصلاح الزراعى.. والمثير أن ممثلى العمال
والفلاحين وقفوا ضد مصلحة من يمثلوهم.. لتبدأ عملية تصفية صغار المزارعين التى
أسهمت فى تدهور أحوال الفلاحين.. وعلى التوازى كانت تجرى عمليات استهداف القطاع
العام.. وتناول ذلك الدكتور "فؤاد مرسى" وزير التموين فى عهد
"السادات" بتفاصيل حملها كتابه "هذا الانفتاح الاقتصادى" الذى
تم التعامل معه بمثل ما حدث مع كتاب "البيوت الزجاجية" وغيره من عشرات
الكتب المهمة والخطيرة!! وقد أوضح "فؤاد مرسى" أن ما يتم تكريسه هو
رأسمالية تابعة لرأس المال الأجنبى, وقال أنها رأسمالية تجارية هدفها الربح بأى
ثمن وأى شكل.. وأشار إلى الرأسمالية العائلية التى يتم تأسيسها وخطورتها.. خاصة
وأن أصحابها مسئولون كبار ووزراء, وكلهم يعملون فى مجالات المقاولات والاستيراد
والخدمات.. وقدم برهانا على ذلك بأن 31 مشروعا استثماريا تم اعتمادهم.. كان بينهم
22 مشروعا رأسمالهم مصرى – أجنبى.. وكشف عن أن أعمال المقاولات ومجال البنوك
يمثلان المستهدف من جانب الطبقة الجديدة.
يعتقد البعض – ويتم الترويج – أن انتفاضة 18 و19 يناير كانت بسبب
محاولات الإصلاح الاقتصادى.. والحقيقة أن الفساد والضغط على الفقراء والطبقة
الوسطى, كانا سبب الانفجار المذهل بعد أن أصبحت "السمسرة" عنوان الثراء
السريع والفاحش خلال فترة وجيزة من الزمن.. يوضح ويؤكد ذلك "النشرة السنوية
للشرق الأوسط" الصادرة عن مجلة "الإيكونوميست" البريطانية..
وتقارير نشرها مراسل "الفاينانشال تايمز" فى القاهرة.. وذكرت فى عام 1976
أن تأخر المكافآت الاقتصادية التى توقعها السادات على توقيعه اتفاقية سيناء
الثانية.. وعدم ترجمة وعود "نيكسون" إلى واقع وحقيقة.. جعلت الشعب يشعر
أنه تم استدراجه إلى بحر من الأوهام.. وكشفت التقارير والدراسات عن أن مصر أنتجت
500 مليونير –خمسمائة – منذ تولى "السادات" المسئولية.. وعندما نشرت
الأخبار والأهرام ومجلة الطليعة هذه التقارير وراحت تعلق عليها.. إنفجر أعضاء مجلس
الشعب ليتهموا هؤلاء بأنهم أعداء الشعب والوطن!! ترد تقارير رسمية فى مصر كان
مطلوبا دفنها لتقول: "إرتفاع عجز ميزان المدفوعات.. إنخفاض الإنتاج الزراعى..
تكاليف السلع المستوردة أقل مما يتم إنتاجه فى مصر.. مشروعات الاستثمار بلغت مليار
ومائتى وعشرين مليون دولار.. بينهم 900 مليون تقريبا إتجهت إلى قطاعى النفط
والبنوك".. وتنشر الصحف تقارير عن أنه فى عام 1975 بلغت الواردات 2199 مليون
دولار – مليارى ومائة وتسعة وتسعون – بينما الصادرات لم تتجاوز 874 مليون دولار!!
ذهبت مصر بأسرع مما توقع الذين استهدفوها إلى عالم "الأوف
شور"!!
تنشر "روز اليوسف" فى عددها الصادر يوم 24 فبراير 1977
تقريرا صحفيا على أنه وثيقة أمريكية يتناول تدهور الأحوال الاقتصادية فى مصر..
تصدر السفارة الأمريكية تكذيبا على صدور هذه الوثيقة وتقول أنها مزيفة.. لأن
محتواها كان مفزعا حول حاضر ومستقبل مصر الاقتصادي وبالتالى تشير إلى مستقبل شديد
الظلام!! ولن أتوقف أمام المنشور فى "روز اليوسف" وأترك للذى يريد أن
يعرف أن يذهب إليه.. والسبب أن السفارة الأمريكية كذبته.. رغم أن الواقع سبق نشر
الوثيقة بما حدث خلال أحداث 18 و19 يناير.. لكننى أتوقف أمام الكذب الوقح الذى
مارسته الحكومة, قبل انفجار غضب الشعب الذى وصفه "السادات" بأنه "انتفاضة
حرامية"!! ففى يوم أول يناير عام 1977 كان مانشيت "الأهرام" يبشر
الشعب: "تثبيت أسعار جميع السلع عام 77 وتحسين أوضاع العاملين بالدولة"
والعنوان يلخص تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء "ممدوح سالم" وأكد فيها
على أنه سيتم رفع المعاناة عن الشعب وتحقيق العدل الاجتماعى.. فى اليوم التالى – 2
يناير – تنشر "الأهرام" عنوانا رئيسيا – مانشيت – يقول: "السادات
يطلب الإسراع بإصدار قوانين العاملين والإسكان والضرائب" وعناوين أخرى..
منها: "الرئيس يبحث مع القيادات السياسية.. توفير الغذاء والكساء للمواطنين
وتثبيت أسعار السلع الحيوية".. ويوم 3 يناير تنشر "الجمهورية"
عنوانا يقول: "لن ترتفع أسعار السلع الأساسية".. ويوم 10 يناير تنشر
"الأخبار" عنوانا: "السادات يطلب ألا يتحمل هذا الجيل كل
التضحيات".. وتنقل كافة الصحف ونشرات الأخبار الإذاعية والتليفزيونية يوم 12
يناير عن الدكتور "جمال العطيفى" وزير الإعلام تصريحات يقول فيها: "عرض
السيد ممدوح سالم على مجلس الوزراء فى اجتماعه, توجيهات الرئيس أنور السادات بشأن
تثبيت أسعار السلع الاستهلاكية.. والعمل على إنتاج وجبة شعبية جاهزة ومعلبة تباع
بسعر معتدل للمواطنين".. وتنشر "الأخبار" يوم 16 يناير 77 عنوانا
يقول: "إجتماع هام للهيئة البرلمانية لحزب مصر لدراسة تثبيت أسعار السلع
الضرورية"!!
لم يتحمل الشعب وقاحة الكذب.. إنفجر!!
لم يحتمل الشعب هذا الخداع المنحط.. إنفجر!!
الرئيس.. مجلس الوزراء.. البرلمان.. يكذبون ويقسمون بعكس الحقيقة
التى فوجىء بها الشعب مساء يوم 18 يناير 1977.. بل وصلت وقاحة الكذب إلى حد أن
مجلس الشعب بنوابه صفقوا لبيان الدكتور "عبد المنعم القيسونى" نائب رئيس
الوزراء للشئون المالية والاقتصادية.. كما صفقوا لوزيرى المالية والتخطيط.. لأنهم
أكدوا أن اتجاه الموازنة للعام الجديد سيؤدى إلى رفع الأسعار.. بالنسبة لبعض السلع
الضرورية.. بداية من رغيف الخبز والمنسوجات الشعبية!!
أنفجر الشعب الذى وصف الرئيس انتفاضته بأنهم "حرامية"!!
بدلا من إدانة رئيس يكذب.. رئيس وزراء يكذب.. وزراء يشاركون فى
التدليس والكذب.. نواب شعب يصفقون للكذب وعكسه.. كانت إدانة الشعب الذى قال ما
عنده فى عفوية جسدت الحقيقة, بما رفعوا صوتهم به.. بما صرخوا به ليعبروا عن الألم
والإحباط واليأس.. كانوا يقولون: "مش كفاية لبسنا خيش.. جايين ياخدوا رغيف
العيش".. "يا حكومة الوسط وهز الوسط.. كيلو اللحمة بقى بالقسط"..
"يشربوا ويسكى وياكلوا فراخ.. والشعب من الجوع أهو داخ.. أهو داخ"..
"يا أمريكا لمى فلوسك.. بكرة الشعب العربى يدوسك".. "إحنا الطلبة
مع العمال.. ضد حكومة الاستغلال".. "الصهيونى فوق ترابى.. والمباحث على
بابى".. ويصرخون: "عبد الناصر ياما قال.. خلوا بالكو من العمال"!!
تلك هى المعلومات والحقيقة المدفونة فى ركام الأكاذيب.. ومازالت
هناك تفاصيل..
يتبع
0 تعليقات