نصر القفاص
ذكر "إسحق رابين" فى مذكراته أنه كان سفيرا لإسرائيل فى
الولايات المتحدة الأمريكية عام 1971.. وأنه قال: "فوجئت بمذكرة الخارجية
المصرية إلى السكرتير العام للأمم المتحدة, والتى تتضمن عرضا من السادات فى فبراير
1971 بالسلام.. اعتبرت ذلك حدثا مهما فى تاريخ الصراع العربى – الإسرائيلي.. فهذه
دولة عربية.. إنها مصر الأكبر.. تعرض فى وثيقة رسمية استعدادها للدخول فى محادثات
سلام مع إسرائيل".. وعن اللحظة ذاتها والحدث نفسه سجل "هنرى
كيسنجر" وكان مستشار الأمن القومى وقتها.. أنه علق على هذا العرض من الرئيس
المصرى, خلال جلسة جمعته مع "جولدا مائير" بقوله: "إنه أحمق ومهرج
وعبيط"!!
كان "السادات" يغطى رسائله للغرب بخلط الأوراق فى
الداخل, شغل الرأى العام بمعركة وصراع مع الذين أسماهم "مراكز القوى"
لحظة إفراجه عن "الإخوان" وتسكين قياداتهم بمناصب مرموقة.. رفع شعارات
"الديمقراطية" و"سيادة القانون" وخطف الأنظار بإعلان دستور
1971.. الذى أسماه "الدستور الدائم".. ورغم إقرار الدستور بأن النظام الاقتصادي
يقوم على الاشتراكية.. كانت قرارات الذهاب إلى "الانفتاح" قد صدرت!!
أرسى "السادات" قاعدة جديدة لنظام الحكم, تقوم على أن
الشعب لا يجب أن يعرف ما يدور فى الكواليس.. وأن السياسة فعل غامض لا يفهمه غير
ولى الأمر – الرئيس – باعتباره كبير العائلة!! وأن هذه هى "أخلاق
القرية" التى تربى عليها الناس فى مصر.. وأسرف فى الحديث عن المعركة وعلى
التوازى الحديث عن "الرخاء والرفاهية".. أرادت "واشنطن" فهم
ما يجرى.. أرسلت "جوزيف سيسكو" مساعد وزير الخارجية ليقوم بجولة فى عدد
من دول الشرق الأوسط.. بينها مصر إعدادا لزيارة الوزير "وليم روجر" أول
مايو عام 1971.. عاد الرجل إلى بلاده ليكتب مذكرة رسمية يقول فيها: "السادات
رجل يتفهم مشاكل إسرائيل.. وعرض أمامى بطريقة عقلانية لا يمكن تخيلها أو تخيل
سماعها من حاكم عربى.. تفهمه للحاجات الأمنية لإسرائيل.. وأوضح لى استعداده لخفض
مستوى اعتماده على الاتحاد السوفيتى"!
بعد حرب اكتوبر.. جاء "هنرى كيسنجر" إلى القاهرة يوم 6
نوفمبر 1973.. وكان قد أصبح وزيرا للخارجية.. وكتب فى مذكراته نفسها بعد لقائه
بالرئيس: "أعتقد انه لو رآنا أحد بعد الساعة الأولى من اجتماعنا بقصر
الطاهرة.. لاعتقد أننا أصدقاء منذ سنوات وسنوات"! وأضاف أنه أخطأ تماما فى
وصفه بأنه "بهلول" وأضاف: "اكتشفت فى السادات واحدا من الزعماء الاستثنائيين
الذين قابلتهم.. كان يملك مزيج من بعد النظر والشجاعة".. وذهب إلى القول عنه:
"الرجال العظماء نادرون لدرجة أننا بحاجة إلى بعض الوقت لاعتيادهم"!!
إذا رضيت "واشنطن" عن حاكم.. تعطى الضوء الأخضر لماكينات
الإعلام الغربي, بأن ترسم له صورة جيدة.. يمكن تحويله إلى أسطورة كلما كان كريما
ومريحا فى قبول وتنفيذ ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية.. ولو كان العكس..
تدور ماكينات الإعلام نفسه بالكذب والتزوير لتشويه صورة هذا الحاكم.. ولا مانع من
إلقاء الحاكم الأسطورة فى عرض الطريق, إذا انتهت مهمته بالنسبة لأمريكا أولا..
والغرب ثانيا.. تكرر ذلك مع حكام كثر من إندونيسيا – سوهارتو – إلى بنما – أورتيجا
– وبينهما إيران – الشاه – ومصر – السادات ومبارك – وغيرهم.. لكن
"السادات" كغيره أعتقد أن "واشنطن" ستكون معه دائما صوابا أو
خطأ.. نجاحا أو فشلا.. قريبا من الشعب أو معزولا عنه.. ويقول "روبير
سوليه" فى كتاب عن "السادات" الذى أصدره بعد ثورة 25 يناير عام
2011 أنه: "كان السادات مقتنعا بأن جمال عبد الناصر ألحق الإفلاس بمصر, لأنه
عارض الغرب.. فالقوة الأمريكية تسحره رئيسا كما كانت قوة هتلر تسحره قبل ثورة 23
يوليو"!!
هذه خلفية شديدة الأهمية.. تكشف ماذا فعلت انتفاضة 18 و19 يناير
1977 به!!
كان الإعلام الغربى قد أخذ فى رسم صورة إيجابية له, سيما وأنه أعطى
"صديقى كيسنجر" ما لم يتخيله أو يحلم به.. وذلك ذكره "كيسنجر"
فى مذكراته تفصيلا.. فالحقيقة عندهم حق للشعب.. يصعب تزويرها أو تشويهها.. يمكن
إخفاءها إلى حين!! والحقيقة عندنا يجوز دفنها سرا بعد قتلها.. لكن تبقى حقيقة
تحفظها ذاكرة التاريخ الذى لا يرحم من يتصور أنه يمكن أن يفقد الذاكرة!
حدثت "انتفاضة الخبز" التى أسماها "السادات"
انتفاضة حرامية.. بعد سنوات من حدث مروع زلزل البلاد.. أخذ عنوان "أحداث
الفنية العسكرية" والتى تم لملمة أوراقها وطيها بسرعة وخفة شديدين!! ربما
لأنها وقعت وقت أن كان الشعب فخورا بانتصارات حرب اكتوبر.. وقعت هذه الأحداث يوم
18 ابريل عام 1974.. قيل أنها كانت محاولة لقلب نظام الحكم بقيادة عراقى من أصل
فلسطينى اسمه "صالح سرية" الذى كان – وما زال – غامضا فى سيرته رغم توفر
الكثير من المعلومات عنه..
فقد نشر "مختار نوح" تفاصيل ووثائق هذه المحاكمة
ومستنداتها ضمن كتابه "موسوعة العنف" وهى لمن يقرأها ستأخذه إلى أسئلة
يصعب الإجابة عليها.. لكن ضمن من تم سؤالهم كشهود وحملت الموسوعة نصوص أقوالهم..
كانت "زينب الغزالى" باعتبارها واحدة من قادة
"الإخوان" الذين أفرج عنهم "السادات" بعد شهور من توليه
المسئولية.. وضمن شهادتها قالت: "لقد أفسد صالح سرية فرحتنا بالقرار الحكيم
الصادر عن عاطفة نبيلة وإنسانية الرئيس أنور السادات, بالإفراج عن سبعين ممن سبق الحكم
عليهم من الإخوان المسلمين"!
قالت "زينب الغزالي" هذا الكلام لتنفى عن "صالح
سرية" أنه كان من "الإخوان", كما أقر فى أقواله أمام جهات
التحقيق.. وذكر الشيء نفسه لتأكيد النفي الشيخ "محمد الغزالى" الذى ذكر
فى أقواله: "منذ تولى السيد الرئيس أنور السادات الحكم, عيننى مديرا عاما
للدعوة بوزارة الأوقاف"..
وأضاف قائلا: "الرئيس محمد أنور السادات أجرى الله على يديه
خيرا كثيرا لمصر.. فقد كان وجهنا أسود من الهزيمة التى عانتها البلاد عام 1967..
فلما عبرنا القناة وقاتلنا برجولة.. وساق الله لنا هذا الخير على يدى الرجل المؤمن..
فرحنا به وتفاءلنا خيرا لمستقبلنا على يديه.. واعتقدنا أن أنور السادات بهذا أصبح
محليا وعالميا من رجال التاريخ, وأنه رد إلى العروبة اعتبارها.. فضلا عن أنه وطد
الحريات فى مصر ورد للقانون اعتباره وكرامته.. وفتح بيوتا كثيرة كانت مغلقة وأغلق
المعتقلات التى كانت مفتوحة.. وله على فضل شخصى.. أسند إلى منصب مدير عام الدعوة
بوزارة الأوقاف.. وأمر برفع المصادرة عن الكتب التى ألفتها, وردنى للإذاعة
والتليفزيون بعد أن كنت ممنوعا"!!
اعتبر الشيخ "محمد الغزالى" أن السادات من رجال
التاريخ.. كما اعتبره "كيسنجر" قبلها بسنوات.. وسجل ذلك فى مذكراته!!
ولم تختلف شهادة الشيخ "سيد سابق" خلال نظر القضية
نفسها, فقال: "ما شعرت بالأمن شخصيا وبالحرية فى أى وقت.. كما أشعر بها فى
عهد الرئيس محمد أنور السادات.. وفى عهده أوفدتنى وزارة الأوقاف لأمريكا للدعوة
إلى الإسلام"!!
ووقع على أقواله يوم 4
مايو 1974 بعد أن أنكر معرفته بهذا المدعو "صالح سرية" الذى أنكره
كثيرون من الذين التقاهم.. باستثناء "زينب الغزالى" التى أكدت أنها
عرفته واستضافته وزارته.. دون أن تعلم شيئا عن جريمته, كما وصفتها.. لكن اللافت
للنظر فى القضية أن "صالح سرية" كان يعمل فى القاهرة بجامعة الدول
العربية.. وهى الجهة نفسها التى كان يعمل بها "صالح أبو رقيق" أحد أهم
قيادات "الإخوان" والمثير فى القضية أن قرار الاتهام فيها شمل 92
متهما.. تتراوح أعمارهم بين 18 و36 عاما.. وتضم عددا كبيرا – الأغلبية – من طلبة
كليات: الفنية العسكرية, والطب, والهندسة من الإسكندرية.. وأغلبيتهم أبناء الطبقة
الوسطى وكانوا يعيشون فى مناطق وأحياء راقية بمقاييس هذا الزمان!!
الإشارة واجبة لأن "صناعة الإرهاب" انطلقت من هذه
اللحظة!!
الإشارة ضرورية لتكشف أن اختراق "الأزهر"
و"الأوقاف" من جانب جماعة "الإخوان" لم يحدث مصادفة.. ولم
يحدث كعمل سرى.. لكنه حدث علانية وبدعم ومباركة رأس النظام!!
وباسم الحرية والديمقراطية تم تمكين التيارات الإسلامية
بالجامعات.. وكانت معسكراتهم الصيفية تتولى أجهزة الدولة رعايتها والإنفاق عليها..
ثم ظهرت "الفتنة الطائفية" التى لم تسمع عنها مصر قبل ذلك.. لأن رياح
السلام كان يتم الإعداد لاستقبالها.. وكانت عملية إعداد "بطل السلام"
يجرى تنفيذها..
فقد قام "السادات" بزيارة رسمية إلى "فرنسا"
يوم 27 يناير 1975, وحظى باستقبال مهيب من الرئيس "فاليرى جيسكار
ديستان" الذى دعاه إلى حفل عشاء بقصر "الإليزيه" نقلت تفاصيله
وسائل الإعلام.. لتبشر المصريين بأن رئيسهم أصبح محط اهتمام وتقدير زعماء وعواصم
الغرب المتحضر.. وردا للزيارة تم استقبال الرئيس الفرنسى بالقاهرة, وانتهت الزيارة
إلى اتفاق على نقل مومياء "رمسيس الثانى" إلى "باريس"
لمعالجته!!
إختار "أنور السادات" يوم 5 يونيو لإعادة افتتاح قناة
السويس عام 1975
يقول "روبير سوليه" فى كتابه: "بعد أشهر قليلة من
وصوله إلى السلطة.. عدل السادات سياسة عبد الناصر الاقتصادية.. وواصل فى الوقت
نفسه إعادة تبنيه للاشتراكية, وامتداح عبقرية الرئيس الراحل.. وبعد الحرب تحرر بطل
العبور من شبح عبد الناصر, فاستطاع تطبيق الانفتاح الاقتصادي دون عقد
نفسية"!! وظهرت أوصاف جديدة فى المجتمع منها "تجار الشنطة"
و"القطط السمان" و"العثمانيين الجدد" فى إشارة إلى
"عثمان احمد عثمان" الذى أصبح اسمه من عناوين المرحلة.. فهو واحد من
دعاة "الإخوان" وعنوان عودة الرأسمالية بعد أن أصبح رجل دولة – وزير
إسكان ونائب رئيس وزراء – لتنطلق علاقة زواج المال بالسلطة وتظهر ملامح
"التوريث" خافتة!!
ويعلن "عثمان احمد عثمان" فى تصريحات صحفية: "مع
عبد الناصر عرفنا الدمار.. ومع السادات نحن نبنى" لحظة إطلاق ما أسماه
"السادات" وقتها بـ"الثورة الخضراء" حين راح يدشن مشروع
"الصالحية"!! ويميل إلى كثرة, بل كثافة الوجود الإعلامي.. أصبح يحب
إلقاء الخطابات التى تنقلها كافة وسائل الإعلام.. لدرجة أن باحثا مصريا هو
"عماد عبد اللطيف" أعد دراسة عن خطاباته انتهى فيها إلى أنه كان يطل على
الشعب 101 مرة كل عام, ليتفوق على "عبد الناصر" الذى كان يطل على الشعب
75 مرة فقط سنويا.. واختار الارتجال ليحكى قصص نضاله وشرح رؤيته للحاضر
والمستقبل.. ولم يكف عن تناول المؤامرات التى تحيطه, وأن هدفها هدم مصر!!..
يتبع
0 تعليقات