نصر القفاص
الكذب يمكن أن يكون صدفة فى إنسان ضعيف.. لكن لا يمكن – ولا يجوز –
أن يتصف به سياسى.. فما بالنا بقادة ووزراء ونواب.. يعتقد السذج والبلهاء أن الكذب
مهارة.. وتؤمن الشعوب بأن الكذاب لا أمان له.. ولا وزن أيضا.. وإذا ضبط شعب رئيسه
وحكومته يمارسون الكذب, سينصرف عنهم أو ينفجر فى وجوههم.. ولأن ما حدث قبل 18 و19
يناير كان قد تكرر كثيرا باعتباره جزء من "منهج الخداع الاستراتيجي"
كانت الغضبة شديدة.. أما الانفجار المروع فأسبابه كثيرة!!
الشهور التى سبقت الانفجار شهدت أحداثا ووقائع مذهلة.. فى شهر
سبتمبر عام 1976, وتحديدا يوم 17 سبتمبر.. تابع الشعب إعلان نتيجة الاستفتاء على
رئيس الجمهورية لدورة رئاسية ثانية.. النتيجة حصوله على نسبة 99,939 بالمائة.. بما
يعنى الإجماع على شخصه وسياساته.. لكن النسبة لا تعكس هجوم الرئيس الدائم على الناصريين
والشيوعيين.. لأنه لا يمكن أن يكون حجمهم هامشيا كما تقول النتيجة!!.. بعدها
بشهرين.. تحديدا خلال شهر نوفمبر كانت انتخابات مجلس الشعب.. شهدت منافسة بين منبر
"الوسط" الذى ترأسه "ممدوح سالم" واليسار بزعامة "خالد
محيى الدين" واليمين بقيادة "مصطفى كامل مراد".. وبإعلان النتائج أتضح
فوز منبر "الوسط" بنسبة 81 بالمائة.. أى أن منبر "الوسط" فاز
بأغلبية ساحقة.. بغض النظر عن الأوضاع الاقتصادية التى راحت تتدهور بسرعة مذهلة.
كان "أنور السادات" يوم 18 يناير فى "أسوان"
ينتظر وصول الرئيس "تيتو" القادم لزيارة رسمية إلى مصر.. تم التجهيز
لاستقباله بحفاوة, تبعث رسالة إلى سيد "البيت الأبيض" وكان وقتها
"جيمى كارتر" تقول أن جسورى مازالت قائمة مع المعسكر الذى أنشأه
"عبد الناصر" والقريب من "الاتحاد السوفيتى"!!
وخلال استمتاعه بأيام شتاء فى أقصى الجنوب, تم ترتيب عدة لقاءات
صحفية للرئيس.. المظاهرات عمت البلاد من الإسكندرية إلى أسوان.. أعتقد الرئيس أنها
واحدة من الغضبات المحدودة التى عاشها خلال سنوات سبقت.. أدرك خطورة الموقف من
"جيهان السادات" التى أكدت له أن المشهد قريب من حريق القاهرة قبل
الثورة..
هنا أصدر الرئيس قرارا بنزول الجيش لإنقاذ الموقف.. وكانت المرة
الأولى التى ينزل فيها الجيش للشوارع منذ قيام ثورة يوليو.. سقط 80 قتيلا إلى جانب
مئات الجرحى خلال الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين.. اشتعلت النيران فى وسائل
نقل عامة وسيارات خاصة.. احترقت ملاهى ليلية وفنادق.. تم اقتحام المجمعات
الاستهلاكية ونهب محتوياتها من مواد غذائية.. وسمعت قرينة الرئيس هتاف: "يا
جيهان.. يا جيهان.. الشعب المصرى بقى جعان"!!
خطفت الأحداث أنظار وسائل الإعلام الغربية.. كتب "فريتز
ستيرن" أستاذ التاريخ بجامعة "كولومبيا" فى الولايات المتحدة
الأمريكية مقالا فى "واشنطن بوست" قال فيه: "الإلغاء الفورى
لقرارات رفع الأسعار تؤكد ضعف الحكومة.. والتسرع فى توجيه الاتهامات للشيوعيين
يعكس عدم وضوح الرؤية.. لأن المظاهرات كانت عامة وتلقائية وطبيعية"..
ونشرت "لوموند" الفرنسية تقريرا جاء فيه: "يعتقد
المتظاهرون ان حكومة مصر نقضت وعودا قطعها الرئيس على نفسه.. فتم رفع أسعار السلع
الضرورية.. وبهذا تكون الحكومة ارتكبت خطأ مأساويا, لمساسها سلع تسمح للشعب أن
يواصل حياته.. والواقع أن سياسة الانفتاح الاقتصادي أسفرت عن نتائج عكسية, فاتسعت
الهوة بين الفقراء والأغنياء"..
وقالت
"الجارديان" الانجليزية: "واضح أن أجهزة الأمن لا تعرف من دبروا
المظاهرات, بدليل الاعتقالات الواسعة والعشوائية"..
وكتب "مصطفى أمين" فى "أخبار اليوم" يوم 22
يناير قائلا: "لا يكفى أن يقال لنا أن الحزب الشيوعى السرى أو العلنى, كان
وراء الأحداث.. لأنهم أضعف من أن يحطموا شارع واحد فى مدينة.. لكن هناك أخطاء
تراكمت فوق بعضها.. وجاءت قرارات رفع الأسعار لتشعل النيران فى أرض تم فرشها
بالبنزين"!!..
وانفردت مجلة
"تايم" الأمريكية بذكرها أن: "الكثير من أعمال الشغب والتخريب
يتحمل مسئوليتها الإخوان المسلمين"!!
تقدم "عبد المنعم القيسونى" برجاء إعفائه من الاستمرار
فى منصبه.. تم رفض الطلب وإعلان إقالة "سيد فهمى" وزير الداخلية.. لم
يتوقف "السادات" عن إلقاء خطابات يتم وصفها بالمهمة.. أعلن عن خطة جديدة
للتقشف.. تحدث عن الحقد الذى لا يبنى.. قال سنأخذ من الأغنياء ونعطى الفقراء.. تمسك
بأنها كانت "انتفاضة حرامية" دبرها الشيوعيون والناصريين.. هاجم
"الأفنديات" فى القاهرة.. ثم قرر دعوة الشعب للاستفتاء على قانون
"حماية أمن الوطن والمواطنين" متجاوزا مجلس الشعب.. القانون الجديد يقضى
بعقوبة تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من يشارك فى تجمهر من شأنه إثارة الجماهير..
ويقضى بالعقوبة نفسها على العمال الذين ينظمون إضرابا يهدد الاقتصاد القومى.. تم
إعلان نتيجة الاستفتاء يوم 12 فبراير بموافقة 99,42 بالمائة من الشعب على
القانون!! وأصبحت هذه المظاهرات علامة بارزة فى تاريخ الفترة التى حكم خلالها
"السادات".. وتحدث عنها "تيرى ديز جاردان" الكاتب الفرنسى
الشهير فى كتابه "البارود والسلطة" ليقول أنها: "كانت لحظة يتصارع
فيها عنف الجوع مع عنف الرصاص".. وتناولها "روبير سوليه" فى كتابه
"السادات" ليقول: "الديون بدأت تتراكم بصورة صنعت حالة يأس
وإحباط.. فالشعب فوجئ بأن ثمار انتصاره فى حرب أكتوبر سرقها سماسرة
ومغامرين"!!
أعتقد "السادات" أن قفزة جديدة للأمام يمكن أن تعيد ثقة
الشعب فيه.. راح يفكر فى إعلان وفاة "الاتحاد الاشتراكي" رسميا وأن يعيد
التعددية الحزبية.. ناقش "أحمد بهاء الدين" فى الفكرة.. فوجىء بأن
الكاتب يقول له.. الدستور يمنع ذلك, باعتباره نص على أن هذا هو التنظيم السياسى
الوحيد.. غضب "السادات" وقال له: "طريقتى أننى أعلن قراراتى وبعد
ذلك نرى إذا كان هناك داع لتعديل الدستور"!! فالدستور فى منهج
"السادات" شكل, كما البرلمان ومجلس الوزراء.. كل السلطات عنده تخدم
"السلطان" فى الزمن الديمقراطى وعهد سيادة القانون!! رجال هذا المنهج
يطبقون ذلك فى كل موقع يتولون مسئوليته.. سبق أن كان "يوسف السباعى"
وزيرا للثقافة.. وكانت مجلة "الكاتب" التى تصدر عن الوزارة برئاسة تحرير
"أحمد عباس صالح" فحاول الوزير التدخل بفرض رقابة من جانبه على المجلة..
أصطدم بالمسئولين عنها وكتابها.. وكان "صلاح عيسى" مديرا للتحرير وهو من
الصحفيين الذين لا يروقون للوزير.. أراد إبعاده.. رفض مجلس التحرير.. قرر تعيين
وكيل وزارة مسئولا عنها وألغى مجلس التحرير, لتحتضر المجلة ببطء بعد أن استنزفت
أموالا ضخمة دون أثر أو تأثير كانت تتمتع به سابقا!! حدث ذلك عام 1974.. بعدها
بثلاث سنوات إنتقل "يوسف السباعى" ليشغل منصب رئيس مجلس إدارة
"الأهرام" التى يصدر عنها "السياسة الدولية" برئاسة تحرير
"بطرس غالى" ومجلة "الطليعة" التى يرأس تحريرها "لطفى
الخولى".. تناولت المجلة أحداث يناير فى افتتاحية عددها الصادر لشهر فبراير
بعنوان "جماهير يناير بين الحكومة واليسار" وركز الكاتب – لطفى الخولى –
على خطأ قرارات رفع الأسعار.. أنزعج "يوسف السباعى" لأن هذا الاتجاه
يرفضه الرئيس "السادات" ويغضبه فى الوقت نفسه.. حاول التدخل فى الإشراف
على المجلة وفرض رقابته على موادها قبل النشر.. تصدى له "لطفى الخولى"
وذكره بأن المجلة التى تم إصدارها منذ عام 1965 فى ظل رئاسة "محمد حسنين
هيكل" لمجلس الإدارة.. لم يفعل ذلك.. بل أن المنصب ذاته تولاه تباعا
"على أمين" ثم "إحسان عبد القدوس" وبعدهما "أحمد بهاء
الدين" وكلهم لم يحاولوا تلميحا أو تصريحا أن يفعلوا ذلك.. ورفع فى وجهه
القانون الذى ينص على مسئولية رئيس التحرير عن المطبوعة سياسيا وأمام القضاء..
وأضاف لذلك أن "يوسف السباعى" يمثل حزب الوسط الحاكم, وأن تدخله يعنى
التدخل فى شئون حزب "التجمع" الذى أصبح "لطفى الخولى" أحد أهم
قياداته!! واحتمى بالقانون ونقابة الصحفيين وميثاق الشرف الصحفى.
إذا كان الدستور لا يعنى الرئيس.. فالقانون لا يهم رئيس مجلس إدارة
الأهرام.
أصر "يوسف السباعى" على التدخل كرقيب.. طلب "لطفى
الخولى" رفع اسمه من المجلة.. أعتبر "السباعى" الطلب استقالة.. عين
"صلاح جلال" رئيسا للتحرير.. أستبدل شعار "الطليعة" الذى كان
"طريق المناضلين إلى الفكر الثورى المعاصر" ووضع شعار "مجلة
الإنسان وعلوم المستقبل".. وكتب افتتاحية عدد إبريل بعنوان "بالعلم
والإيمان والمحبة" وقال فيها: "نؤمن بالله وكتبه ورسله.. ونؤمن بأن
العلم يدعو إلى الإيمان" وهذا ليس غريبا على رئيس التحرير الجديد باعتباره
"ليس من الإخوان لكنه يحترمهم"!!
كان "لطفى الخولى" عنيدا.. دافع عن القانون بالذهاب إلى
القضاء.. صدر حكم من محكمة شمال القاهرة يوم 14 يوليو عام 1977, برفض طعن المدعى
عليه – يوسف السباعى – بعدم اختصاص المحكمة.. وقبول طلب "لطفى الخولى"
بفرض الحراسة القضائية على مجلة "الطليعة" وتعيينه حارسا قضايا على
المجلة واستمراره رئيسا لتحريرها.. وجاء فى حيثيات الحكم: "إن معرفة القاضى
للحق لا تجعل له مجالا لأن يعادى فكرا أو شخصا.. فكل الأفكار والأشخاص أمامه
سواء.. فهو حيادى فى مجلس القضاء حتى مع نفسه ومع الناس ومع الفكر حتى لو خالفت
أفكارهم مبدأ شخصيا يراه الأصوب.. ذلك أن كل فكر هو نتاج العقل البشرى أعظم هبة
منحها الله للإنسان.. وحرية الرأى كفلها الدستور.. ودفع الفكر بالفكر المعارض هو
أساس صلاح الحياة.. ومن ثم فلا يجوز أن يحجب رأى عن الشعب" وأضافت حيثيات
الحكم تقول: "الصحافة لازمة للسياسة.. والسياسة هى فن قيادة العمل الوطنى
لصالح المواطن.. فهى أسمى انواع العمل الإنسانى.. لذلك فإن لسانها الصادق يؤدى
خدمة لا تقدر لجموع الأمة.. واختلاف الرأى يوصل إلى طريق البناء الصحيح, ويمنع من
تجاوز السلطات لحدودها.. ومن ثم فلا يحق حجب صاحب فكر عن إبدائه حتى لو كان مخالفا
لأغلب الفكر فى الأمة.. يساريا كما يقول المدعى أو يمينيا".
ذهب "يوسف السباعى" إلى المحكمة بلسان محاميه ليقول:
"أمسك شيوعى"!!
وقف القضاء حاميا للقانون والدستور وحرية الفكر.. ووقفت السلطة مع
"يوسف السباعى" الذى قدم طلبا لإدارة المطبوعات بسحب رخصة إصدار
"الطليعة" لتتوقف فى "زمن الديمقراطية" وفى ظل "سيادة
القانون"!!
انتشرت النكتة التى تقول: "كان السادات فى سيارته وسأل
السائق: أى طريق كان يسلكه عبد الناصر؟.. أجاب السائق: كان يأخذ طريق اليسار يا
سيادة الرئيس.. قال الرئيس: إذن أعطى إشارة لليسار وادخل لليمين"!!..
وراح الطلاب يغنون مع الشاعر "أحمد إسماعيل" كلماته التى
كانت تقول: "الله.. الله.. يا بدوى جاب اليسرى.. أنا الرئيس الموضوعى.. واللى
يعارضنى دة شيوعي.. وهاحطه فى سجن الحضرة.. أنا الرئيس الليبرالي.. والأمريكان دول
اخوالى.. بيروت بتخرب وانا مالى.. ماهى بورسعيد منطقة حرة.. النصب فى الصفحة
الأولى.. عن سيدة مصر الأولى.. هتزور تلامذة سنة أولى.. وفى إيدها ببرونة
حمرا"!!..
بوابات الأموال القذرة!! وقاحة الكذب (56)
يتبع
0 تعليقات