*خالد عكاشه.
في أكتوبر الجاري أصدر مركز "ويلسون" الأمريكي الشهير
أحدث أوراقه البحثية، التي تتناول الوجود الروسي في الشرق الأوسط بعنوان
"روسيا في الشرق الأوسط: تحديات الأمن القومي للولايات المتحدة وإسرائيل في
عهد بايدن". المركز الأمريكي من المؤسسات العريقة والشهيرة منذ 1968 عام
تأسيسه، ليمثل منتدى السياسة الرئيسي غير الحزبي الذي يتولى معالجة القضايا
العالمية التي تهم الولايات المتحدة ومراكز صنع القرار فيها. وقد حصل مركز ويلسون
على المركز الأول عام 2019؛ في الدراسات الإقليمية على مستوى العالم نظير ما يقدمه
من نشاط بحثي مستقل ساهم في صنع أفكار قابلة للتنفيذ لمجتمع السياسات الأمريكية.
من خلال عمل مشترك لأهم قسمين بالمركز وهما "برنامج الشرق
الأوسط" و"معهد كينان"، اللذان ينصب عملهما على توفير تحليلات
وأبحاث كمورد أساسي للمعرفة، تسبق عملية إعداد السياسات الخارجية للولايات
المتحدة. أخرج ما اعتبره المركز "تحديا استراتيجيا" ومصدر قلق ملح لكل
من الولايات المتحدة وإسرائيل، مشيرا للدور الروسي في الشرق الأوسط، خاصة في ملفات
سوريا وإيران ومجالي التكونولوجيا والأمن السيبراني. واشترك مع الجانب الأمريكي
أيضا مركز (IDC) الإسرائيلي التابع
لمعهد السياسة والاستراتيجية (IPS)، ليعمل على هذ التقرير 15 خبيرا البعض منهم شغل مناصب دبلوماسية
وعسكرية واستخباراتية، بل وساهم في صناعة الأحداث بالمنطقة مثل السفير "جيمس
جيفري" والجنرال "عاموس جلعاد" والكولينيل "اودي افنتال"
وآخرين، ممن يشغلوا الآن مناصب قيادية بالمراكز البحثية المشار إليها. كي يقدموا
بعض من الرؤى والتقييمات لطبيعة ومستقبل الوجود الروسي في المنطقة عامة وفي سوريا
بالأخص، والتحديات المترتبة على ذلك بعد أن تمكنت موسكو من ترسيخ هذا التواجد للحد
الذي بات من الصعب تجاوزها.
أول ما جاء بهذه الورقة البحثية؛ هو الإقرار بأن الولايات المتحدة
لم تعد القوة الوحيدة المهيمنة على الشرق الأوسط بلا منازع. حيث أرجعت ذلك إلى أن
التقليص ـ الطوعي ـ للدور الأمريكي في المنطقة، سمح ببروز كلا من روسيا وتركيا
وإيران كقوى إقليمية نافذة ومؤثرة، كما أفسح هذا المتغير المجال أمام تحركات
اقتصادية صينية طويلة الأمد. وفي الوقت الذي تؤكد فيه الدراسة تقديرها بأن المنطقة
تمر بتحول عميق، تفصح على هامش ذلك عن أهداف الولايات المتحدة باستمرارها في
الحفاظ على مصالحها الأساسية، التي رغم جنوحها إلى التراجع للخلف إلا أن قضايا
الاستقرار الإقليمي ومنع انتشار الأسلحة النووية وأمن الطاقة، فضلا عن مكافحة
الإرهاب وضمانة أمن إسرائيل تظل عناوين حاكمة للسياسة الأمريكية في المنطقة، في
الوقت الذي تغيب فيه الخطط الواضحة لتحقيق مثل تلك الأهداف. لكن الثابت أن التواجد
الروسي في الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة لم يصل بعد إلى مرحلة
"الأمر الذي لا يطاق"، طالما حافظت موسكو على مستوياتها الحالية. فهو من
وجهة نظر واشنطن لا يتعارض بالضرورة مع مصالحها الأساسية، لكنه يعقد بالضرورة
تحقيق هذه المصالح على خلفية العقيدة الروسية، المدفوعة بهدف استراتيجي هو الحد من
نفوذ الولايات المتحدة والإضرار بمكانتها.
الباحثون الإسرائيليين المشاركون الواضح كان لهم رأي مغاير، وتقدير
متقدم عن حجم التحدي الروسي في المنطقة، ظهر بوضوح في تقييمهم للتواجد الروسي
باعتباره تحديا للأمن القومي الإسرائيلي ذا أولوية قصوى. وذكرت جملة من الأهداف
الأساسية على تل أبيب أن تعمل لتجاوزها، منها المخاوف العملياتية النابعة من
العائق المحتمل أمام حرية إسرائيل لتنفيذ عمليات في سورية، وتقترح الورقة في ذلك
أن تكون هناك علاقة من نوع ما مع روسيا للاستفادة من تعاونها مع إيران، مما يتيح
لإسرائيل المجال لإضعاف القدرات العسكرية الإيرانية. وعلى ضوء ذلك هناك إشارة
صريحة إلى إعادة الاعتبار إلى أهمية العلاقات الثنائية الأمريكية الإسرائيلية، حيث
يجب الحفاظ على التنسيق الوثيق بينهما فيما يتعلق بأدوار روسيا والصين وتركيا في
الشرق الأوسط. وتشير في هذا الإطار إلى وجوب عدم فصل الدور المتنامي لروسيا والصين
على الصعيد العالمي، بما يجري في الشرق الأوسط لاسيما المجالات السيبرانية
والتكنولوجية.
بالنظر إلى روسيا والتي وصفت الورقة طبيعة دورها الآن في المنطقة،
بمثابة عودة ثانية كجهة فاعلة دبلوماسيا وعسكريا، بدأت تتبلور منذ العام 2015
عندما تدخلت في الصراع المسلح السوري الذي كاد أن يودي بحياة النظام، حينها كانت
روسيا تبحث عن منافذ وارتكازات إضافية لنفوذها العسكري والاقتصادي في الشرق
الأوسط. بعد مرور 6 سنوات على هذا التاريخ، أصبحت روسيا الآن فاعلا مهما ليس في
سورية وحدها بل وفي ليبيا أيضا، كما طورت علاقة شراكة مع إيران مثلت لكلاهما مساحة
أرحب للتحرك في مساحات جديدة. كما تتقدم موسكو لتكون شريكا للطموحات المصرية، في
الوقت الذي تفتح فيه قنوات تحاور مع دول السعودية والإمارات العربية المتحدة
وإسرائيل، تماما كما تنشط مع الفلسطينيين واليمنيين ومؤخرا مع الحكومة الأفغانية
وحركة "طالبان".
ويفسر الباحثون آلية هذه التحركات الروسية النشطة، كون الأخيرة
تلعب مع العديد من الأطراف ضد بعضها البعض داخل البلدان التي تعاني من صراع داخلي،
وتسير على منهج استخدام تفاصيل هذه الصراعات كمحفزات لتعميق نفوذها الإقليمي، حيث
ينظرون إلى أن الشرق الأوسط في صورته الحالية يقدم لروسيا الكثير من الفرص، بسبب
الصراعات الممتدة القابلة للاختراق والسيطرة. لكن ومع اختبار وتقييم كل هذا الزخم
الروسي عبر السنوات الماضية، فإن موسكو لازالت بعيدة عن أن تكون قادرة على إنشاء
نظام إقليمي محكم من تصميمها الخاص.
في النهاية يبقى لروسيا قدر من الطموح استطاعت أن تحقق جانب مهم
منه، وهو الحصول على مقعد أمام الطاولة عند النظر في المشاكل الإقليمية الرئيسية،
فهي تدرك بأن خياراتها بعيدة المدى محدودة بالمقارنة بالصين، التي ظلت تمثل الغائب
الحاضر في هذا البحث الأمريكي الإسرائيلي عن استعادة شراكتهما من أجل ضمانة الحفاظ
على المصالح، وتحقيق المكاسب، في منطقة ستظل لعقود ساحة نموذجية للتنافس الدولي ما
بين القوى الكبرى في العالم.
0 تعليقات