مصباح قطب
أمة فى خطر هى تلك التى تبتعد كثيرا عن مجانية خدمة التعليم
و(الصحة). إثبات ذلك- إذا أراد الدكتور طارق شوقى- سهل. فمن ناحية إذا كان التعليم
يحتاج موارد كثيرة فإن تكلفة الجهل أعلى بكثير. والدليل الآخر هو دراسة الارتباط
الشرطى الواقعى بين التقدم وبين إتاحة التعليم الأساسى الحقيقى مجانا للجميع، بل
التعليم الجامعى والعالى فى دول مثل ألمانيا وفنلندا، وحتى للأجانب. يتغنى
الليبراليون بعظمة وجمال مدارس العهد الملكى المجانية كالسعيدية والخديوية، ويصبون
اللعنات على ناصر وعهده لمجرد أنه مد هذا الخط على استقامته إلى الجامعة. اشتقنا
والله إلى رأى نزيه فيما يتعلق بفضائل التعليم المجانى.
إن اليوم الذى ناقش فيه البرلمان البريطانى، مؤخرا، السماح للقطاع الخاص بتقديم
الخدمة الصحية فى إنجلترا، هو برأيى لحظة كئيبة فى مسار الإنسانية، سواء تمت بضغوط
أمريكية أو بضغوط من قوى محافظة فى الداخل البريطانى نفسه، كما أنه خيانة لرجل وهب
حياته لخدمة الشعب البريطانى واستقراره ذى المذاق الفريد (قد أقول: استقرار صوفي!)،
وهو العمالى أنيورين بيفان الذى وضع أساس نظام (NHS) الراهن، وكفل له كل أساب النجاح والاستدامة
إداريا وماليا وفنيا وماليا، مع حظر تبادل المال بين مقدم ومتلقى الخدمة، واستمر
النظام بنجاح منذ ١٩٤٨، وكل ما زاد عليه استخدام تكنولوجيا المعلومات فى تجويد
وضبط الخدمة. يوم حزين لأنه يؤذن بالرجوع إلى الخلف، وسيغرى بريطانيا وكل الدول
باستكمال المهمة وخصخصة التعليم أيضا.
كقروى مولود فى عزبة تابعة، أى ليس لها عمدة، أقول إن المصرى
الفقير يضحى بكل شىء حرفيا ليعلم أولاده، ويتصور أن من البديهى أن الحكومة، وهى
أعقل وأكثر تقديرا منه للصالح العام، يحب أن تضحى كذلك بكل شىء ليتعلم شعبها. شعار
الحكومة «مفيش حاجة ببلاش» المصحوب بتوسع مخيف فى التعليم الخاص، والدولى، والأهلى
بطعم الخاص، ومصر هى البلد الوحيد فى العالم الذى تنشئ فيه الحكومة جامعات وتسميها
أهلية، والسبب هو الرغبة فى التفلت من المجانية.. هذا الشعار يحتاج مراجعة شاملة.
انعكاس التشوه التعليمى عندنا على المجتمع والدولة وهويتها أوضح من أن يتجاهله
أعمى. اسألوا أنفسكم فقط: هل هذا الخليط يمكن أن يقدم جنديا وضابطا قادرين على
استيعاب عقيدة قتالية محددة، وتقديم الطمأنة اللازمة لمصر وشعبها بأنهم فى أمان
وسط غابات ووحوش الصراعات الدولية والإقليمية؟.
لست ممن يفضلون طريقة الأستاذ أنيس منصور فى حشد المقال بأقوال
المشاهير، لكنى أستميحكم عذرا فى أن نستمع إلى غاندى الذى قال إنه لكى ننشر السلام
الحقيقى فى العالم فعلينا تعليم الأطفال جيدا، وأضيف، ولكى ننشره فى كل بلد، خاصة
لو كان ناميا، فلا مفر من ذلك. كما أدعو لسماع القائل بأن التعليم يحرس البلاد
أفضل من جيش منظم، ولعل فى سويسرا تطبيقا عمليا مثيرا لهذه الحكمة العبقرية.
فكما يقال تبدو سويسرا ظاهريا بلا جيش، ولكن نعير البقر يخفى صليل
السلاح فى كهوف الجبال، حيث يتم تدريب كل المواطنين حتى سن 65 أسبوعين سنويا فى
الجبال، على أحدث الأسلحة ثم يعاد خزنها، ولأن الشعب على أرفع مستوى تعليمى فالكل
يخشاه أكثر من خشية بلد به جيش قوى وشعب جاهل عليل. أيضا فتجربتنا الوطنية فى
تجنيد المؤهلات العليا بعد 67 مباشرة تؤكد الارتباط الوثيق بين التعليم والنصر.
محاولات تحطيم قوانين الطبيعة ببيع المياه أو حتى الهواء، وعلى يدى
القوى التى ما برحت تقول إن الاشتراكية خروج على القانون الطبيعى، ستقودنا إلى
أوبئة أيديولوجية سياسية واجتماعية عدمية ومدمرة، وإذا شاعت فلن ينفع وقتها الندم
الرأسمالى أو اليسارى.
فى العالم المعاصر أمثلة حية على أهمية «أبو ببلاش» فى تقدم الأمم،
وليس فقط فى استقرارها الاجتماعى المستدام، والحديث هنا لا يشمل مجانية التعليم
فقط، وهى أساس، أو حتى ما بعد مجانية التعليم، كما فى فنلندا التى تقدم خدمات أخرى
للأطفال القاطنين بعيدا عن المدرسة أو المجموعات اللغوية المختلفة، ولكن مجانية
خدمات للأطفال والكبار، ولغير القادرين على العمل والكسب، وللأمهات والحوامل، وفتح
حدائق وملاعب وشواطئ عامة، راقية، ومجانية. ونروح بعيد ليه، إن الذين يضحون
بأرواحهم فى سبيل الوطن والواجب والشهامة والحرية والإنسانية لا يطلبون ثمنا، فكيف
نمجدهم ثم نسخر من الأساس الذى قامت عليه عظمتهم، وهو تقديم أرواحهم للمصلحة
العامة العليا، «ببلاش»؟. الشعوب التى تنال حقها فى «أبو بلاش» هى الأجدر بحماية
الغالى والنفيس فى بلادها.
0 تعليقات