محمود جابر
على الرغم من إن ما يقال فى موضوع جمع القرآن ليس جديدا عليا، فقد
عرفته منذ صبايا وأنا ادرس العلوم الشرعية فى الأزهر الشريف، وعرفته من خلال البحث
والكتابة، واجتهدت وقتا طويل للحصول على نسخة أصلية لكتاب السيوطي (( الإتقان فى
علوم القرآن)) واعتقد اننى احتفظ فى مكتبتى بنسخة نادرة؛ ورغم معرفتى بكل الروايات
التى تقال فى القرآن وأنها تمثل طعنا للدين، وقد كانت هذه الروايات احد ادواتى فى
إنهاء حلقة مناظرة مع سلفى شهير ناظرته قبل سنوات، ولكن الغريب ان ما قاله السلفى
هذا عن القرآن هو ما يردده غير المؤمنين به، وإن كان كلام السلفى ككلامي لا يحمل
ترابط فى الحدث للخروج بنتائج، ولكن غير المؤمنين بالقرآن أو الملحدين يصنعون من
الروايات بحثا مترابط بمقدمات وموضوع ونتائج للخروج – وهذا أمر صحيح وفقا للروايات
– بنتيجة مفادها ان القرآن المدون خلافا لما جاء به النبى !!
وهذه النتيجة هى نتيجة طبيعية، وطبيعية جدا، لمن تأمل كارثة
الروايات التى تعج بها كتب الرواية والحديث والأثر والتفسير والتاريخ والتى تتناول
موضوع جمع القرآن.
إن تلك الروايات تبرز احتمالية حدوث تعديل على القرآن و أن ما بين
أيدينا يستحيل أن يكون مطابقا تماما لما أنزل على النبي!
طبعا هذا ما يذهب إليه المستشرقين الذين رفضوا فكرة احتفاظ النص
القرآني لأصالته الأولى.
و للأسف التراث الإسلامي من كتب حديث و كتب علوم القرآن وفر مصدرا
كبيرا يدعم أن القرآن بشكله الحالي يختلف عما وصل للنبي.
لكننا، ولان حبل الكذب قصير سوف نكتشف بعد مناقشة لتلك الروايات
انها متناقضة لفكرة جمع ابو بكر او عمر أو عثمان أو على بن أبى طالب للقرآن بعد
وفاة النبى صلى الله عليه وآله .
وقبل ان نشرع فى بيان ذلك علينا ان نؤكد عدة مسلمات وهى :
الأول : أمية النبى التى ذكرتها الله تعالى فى كتابه (هُوَ ٱلَّذِی
بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ
وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ) 2 الجمعة .
وقوله تعالى (ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ) 157
الأعراف .
ان الأميين هم من لم ينزل عليهم كتاب موحى من الله و بالتالي لم يتهودوا أو
يتنصروا، او ان الأميين هم من عاش في مكة، أم القرى. (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ, رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).
الثاني : المعرفة المنقولة فى بحث القرآن أو جميع ما اكتب لا ارجع فيها على طائفة
واحدة أو مذهب واحد بل أتناول كل ما كتب وقاله علماء السنة والشيعة والخوارج
والمعتزلة وغيرهم .
الثالث : لن ابحث أحاديث الخرافة العجيبة التى تتحدث عن الغرانيق و
آية الرجم و سورة ذو النورين، وسورة الحفد والخلع، وغيرها، لأنها ساقطة والواقع
يكذبها.
الرابع : أنا أتعامل مع كتب الرواية كما أتعامل مع كتب التاريخ أضعها فى سياق عام
ما اتفق مع كتاب الله قبلته ومالم يتفق مع كتاب الله والمنطق السوى رفضته دون
الدخول الى دهاليز علم الرجال والسند باعتبار هذا العلم علما يخضع للمعامل الشخصى
والشخصى جدا ..
وأؤمن بأن الحديث ليس نصا مقدسا موحى به من الإله. بل هي نصوص بشرية تاريخية لا جزم
بصحتها او كذبها. الأحاديث تمرر بثلاث مراحل، الأول هو القرآن، مايتناغم مع نصه
فهو قريب للصحة و ليس قطعي الصحة، لكن ما يناقض نص القرآن فهو قطعا غير صحيح.
الثاني هو العقل، أي حديث لا ينسجم مع العقل و المنطق فلا صحة له. و حتى ما تنسجم
مع العقل فلا صحة قطعية له. الثالث هو العلم، أي حديث يتناقض مع ما استجد من علم و
أبحاث تاريخية و تحقيقات أثرية فلا صحة له. و ما لا يتناقض مع تلك الأسس لا يجزم
بصحته. هذا هو المنهج التاريخي في البحث، يؤخذ بالنص و يحلل بعيدا عن التنزيه و
التقديس. هذا منهجي في تحليل الأحاديث.
القرآن نصا مقدسا :
بدأ النبي البعثة والوحي الإلهي بكلمة أقرأ، و القراءة هي إقران أصوات بشرية
ينتجها الإنسان عضويا باستعمال أعضاء النطق أو ما يسمى بالفونيكس (phonics ) ببعضها البعض لتكوين وحدات تشكيل معنى أو
فونيمات، phonemes) ) و تتحد هذه لتكون
كلمات ذات معنى تندمج هي بدورها مع بعضها البعض لتكون جملا ذات معنى .إذن القراءة
هي الإقران أو تنظيم الأصوات فتتسلسل مع بعضها بشكل منتظم، لتكوين معان و دلائل.
فيكون “القرآن” هو التنظيم المتكامل العام و الشامل بكل كلماته و جمله أو آياته
ككتاب سماوي ارتضاه الله لنا بعد أن أوحاه لرسوله.
تدوين القرآن :
مر القرآن بمراحل هى المرحلة الأولى وهى المرحلة المكية :
في البداية يجب أن نبين أن النقل الشفهي كان شائعا في الحضارات
الإنسانية. و قد و صلنا الكثير من شعر ما قبل الإسلام بالنقل الشفوي لأسباب كثيرة
منها عدم إلمام عموم الناس بالقراءة والكتابة، لعدم وجود نظم سياسية مستقرة، وغلبة
حياة الرعى والتنقل والترحال على اغلب سكان شبه الجزيرة العربية، ولكن بالنسبة
لأدوات الكتابة فقد عرفت مصر أوراق البردى قبل مجىء النبى بمحمد صلى الله عليه
وآله بأكثر من سبعة آلاف عاما على الأقل، وان الصينيين عرفوا أوراق الكتابة قبل
النبى بقرون، وبما ان سكان مكة كانو تجار، أو ان مكة كانت اكبر محطة ترانزيت بين
الشرق والغرب فقد عرف المكيون حتما أدوات الكتابة واستعملوها فى شئون حياتهم
اليومية قبل البعثة، ويجدر بنا ان نشير الى وثيقة المقاطعة التى كتبتها قريش
لمقاطعة النبى صلى الله عليه وآله وبنو هاشم وتم إيداع الوثيقة فى جوف الكعبة!!
والوثيقة كانت من ورق أو رق جلد، وقد اكتلتها الأرضة وهى نوع من
الحشرات التى تأكل الورق او الجلد..
أن مكة وأهلها لم يكونوا بذلك الجهل كما صورت لنا كتب الموروث.
فكما قلت ان قريش أصبحت قبيل بعثة النبى تسيطر على التجارة العالمية بفضل ابتكار
تجارة الترانزيت، كما كان لدى قريش محافل ثقافية يقال فيها الشعر وألوان أخرى من
الأدب فى سوق عكاظ، و ذى المجنة، وذى المجاز، وكلها كانت أسواقا أدبية وعلمية.
أول ما نزل من القرآن يؤكد على القراءة والكتابة والقلم ، وكلها
أدوات للمعرفة وللكتابة كوسائل وأدوات أساسية للعلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ,
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) مما يشير أن
كتابة الآيات القرآنية قد كان متبعا في المرحلة المكية من الدعوة بالإضافة للحفظ.
حيث أن الله يعلم الإنسان بالقلم أي بالكتابة.
و قد إستدل إبن قرناس في كتابه الشرعة و المنهاج ج2 على أن المرحلة المكية لم يكتب
فيها القرآن و أستدل بعدة آيات قد تحتمل تفسيرات أخرى— مثال: الآية 159 من سورة
البقرة التي استعان بها يبدو أنها تخاطب اليهود الذين يكتمون ما في الكتاب لا
المسلمين– و لكن أقوى الآيات دلالة من اللواتي استعان بهن هي:
قال تعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ۚ فَالَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَمِنْ هَٰؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ
ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن
قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا
يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّاالظَّالِمُونَ) 46 العنكبوت .
لكن يتضح من سياق الآيات أنها تخاطب أهل الكتاب مما يدل على أن هذه الآية نزلت في
فترة أحتك فيها النبي بيهود، أي في الفترة المدنية للدعوة. و لنلاحظ أن الآيات
بينات في الصدور، أي أن معانيها و دلالتها عقلية. و لم لا نستنتج أيضا بناءا على
أن الله يعلم الإنسان بالقلم أن من أوتوا العلم هنا إنما حصلوا عليه بقراءة ما خط
بالقلم.
و الآية التالية توضح أن المشركين كانوا يرون آيات مكتوبة —ليست
معجزات فقد طلبوا معجزات و رفض الله طلبهم– لكن قلوبهم مقفلة حتى إذا ذهبوا للنبي
يجادلون بغير علم:
قال تعالى (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ
لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) 25
الإنعام.
إذن لا دلائل صريحة على ان القرآن لم يكن يكتب في المرحلة المكية، بل الدلالات
تشير إلى ان الله يعلم عباده بالكتابة و ان المشركين رؤوا بأعينهم آيات مكتوبة لكن
قلوبهم(عقولهم) لم تتبصر بها.
أما في الأدبيات الموروثة فقد أستدل العديد من الباحثين بقصة إسلام
عمر بن الخطاب و قراءته لصحف تحتوي على القرآن في بيت أخته كما رواها ابن اسحق.
وقد صنف محمود شاكر في كتابه تاريخ الإسلام عددا من كتاب الوحي حسب
المراحل الدعوية فوضع في المرحلة المكية علي بن أبي طالب، عثمان بن عفان، أبو بكر
الصديق، عمر بن الخطاب، وخالد ابن سعيد بن العاص، وعامر بن فهيرة، والأرقم بن أبى
الأرقم، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومى، وجعفربن أبى طالب، وحاطب بن
عمرو، والزبير ابن العوام، وطلحة ابن عبيد الله، وعبد الله بن أبى بكر. و هذا يدل
أن كتاب الوحي كانوا كثيرين في المرحلة المكية.
المرحلة المدنية :
في المرحلة المدنية فلا يختلف أي قاريء و باحث سواء كان مسلما او
غير مسلم في أن القرآن تم تدوينه في المرحلة المدنية.
و نعود لتصنيف محمود شاكر لكُتّاب الوحي في المرحلة المدنية و هم
بالإضافة لكٌتّاب الوحي في المرحلة المكية: أبو أيوب الأنصاري، وخالد بن زيد، وأبى
ابن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومعاذ بن جبل، ومعيقب بن أبى فاطمة
الدّوسى، وعبدالله بن عبد الله بن أبى بن سلول، وعبدالله بن زيد، ومحمد بن مسلمة،
وبريدة بن الحصيب، وثابت بن قيس بن شماس، وحذيفة بن اليمان وحنظلة بن الربيع،
وعبدالله بن سعد بن أبى سرح. و قد أضيف معاوية لقائمة كُتّاب ما بعد فتح مكة من
قبل ابن تيمية و ابن كثير بناءا على رواية في مسلم قام بتضعيفها النووي و الذهبي و
المقريزي و ابن الجوزي.
و من المعلوم أن الرسول نهى عن كتابة كلامه مما يعني ان الكتابة
محصورة للوحي. و قد خصص الرسول كُتّابا للرسائل و المواثيق. إذن نستنتج فيما سبق
أن كتابة الوحي القرآني كانت عملية مستمرة منذ بدايات البعثة. كما نستنتج أن
القائمين على الكتابة هم صحابة تم الإشراف عليهم من قبل الرسول لكتابة الوحي في
حياته.
اذا الكلام هنا محصور عن عملية مستمرة ومتتالية وفيها تأليف للآيات
وفقا للتنزيل والترتيب فى السور .
وللحديث بقيه
0 تعليقات