محمد نصر علام
من حقائق حوض النيل والتى لايعلمها كثيرون، أن دول بوروندي ورواندا
وتنزانيا وكينيا وأوغندا والكونغو مجتمعين يزودوا النيل الأبيض سنويا فقط بحوالى
١٥ مليار متر مكعب بنسبة ١٪ من المطر. وأن هذه الدول مجتمعة تزود منطقة السدود
(جونجلى) بحوالى ٢٠ مليار متر مكعب تفقد بالبخر من المستنقعات سنويا. بل ويفقد فى
منطقة بحر الغزال بجنوب السودان فقط حوالى ١٢ مليار متر مكعب سنويا من التدفقات
السطحية. أى أن الفواقد من تصرفات دول الهضبة الاستوائية خلال مرورها فى جنوب
السودان تبلغ ٣٢ مليار متر مكعب سنويا، أو أكثر من ضعف مايصل لمصر والسودان من هذه
الدول مجتمعة.
الغريب أن تسمع بعض من هذه الدول يطالب مصر بسعر حصتها المائية من
مياه النيل، بالرغم من أنها فعليا لاتساهم بأكثر من ٥٪ منها. ولنا أن نتخيل أن
مشاريع استقطاب الفواقد فى جنوب السودان تستطيع إنقاذ مالايقل عن ١٥ مليار متر
مكعب سنويا وبما يساوى مانستقبله سنويا من دول الهضبة الاستوائية مجتمعة. وهذا هو
الأمل، بالرغم من محاولات دول المنبع من وضع قيود تعجيزية فى اتفاقية عنتيبي لمنع
تنفيذ مشاريع استقطاب الفواقد، وكان ذلك أحد أسباب رفضنا لهذه الاتفاقية الجائرة.
من الواضح ان معظم مياه مصر والسودان تأتى من الهضبة الأثيوبية
خلال انهار السوباط والنيل الأزرق وعطبرة. ويرجع ذلك للميول الكبيرة للهضبة
الأثيوبية مما يزيد من معامل الجريان السطحي فى أنهارها وزيادة معدلات إنتاجها.
ونتيجة لذلك فان حساسية مصر نحو المشاريع الأثيوبية كبيرة لتأثيرها الضخم على إيراد
المياه لمصر، وأيضا لسلوك أثيوبيا المعادى بصفة دائمة.
وكمثال لسلوكياتها المعادية، لم تقدم أثيوبيا لمصر أى بيانات لأى
من سدودها على عطبرة والنيل الأزرق والسوباط منذ الستينات من القرن الماضى وحتى
تاريخه.
من الواضح ان الصراع بين دول المنبع والمصب، هو صراع دائم على
الأقل فى حوض النيل. وهدف معظم دول المنبع من هذا الصراع، هو هدفا اقتصاديا للحصول
على مكاسب مادية مباشرة أو غير مباشرة نظير المياه والتعاون الايجابي. والاستثناء
الوحيد من دول المنبع هى أثيوبيا، وهى تقوم بمحاولات مستمرة لتأليب دول المنبع ضد
مصر والسودان بمناسبة أو بغير مناسبة، وهدفها الدائم هو تغيير ميزان القوة لصالحها
فى شرق إفريقيا والقرن الأفريقي.
ولا ننسى أن معظم مياه
النيل (حتى الآن) تأتى من أثيوبيا، مع أهمية البحر الأحمر، ولا ننسى الدعم الغربي
لها وهو الأضخم من عشرات السنين، ومازال.
فى نفس الوقت، مصر منافس اقليمى استراتيجي قوى ومهم جدا للعالم
أجمع اليوم وغدا إن شاء الله. إدراك هذه الأبعاد، واستيعاب الدروس التاريخية،
والتطوير الدائم للدور المصري بالمنطقة أحد المهام والمهارات الأساسية للقيادات
السيادية للدولة، وتعتبر إرثا وطنيا فى أجهزتنا السيادية. وبلا أدنى شك، لدينا
كوادر وطنية مميزة، (مدعوكة) جامد وبقوة بالخبرات الميدانية، وأنا شخصيا أشعر معهم
بطمأنينة وأمان ان شاء الله. دعم هذه المدرسة فى الأجهزة والقوات المسلحة هو
الضمان الحقيقي للإعداد والاستعداد الدائم للدفاع عن مصر ونيلها.
ولكن الحقيقة نحن نحتاج أن نجعل من ١٠٥ مليون مصري جبهة تعلم جيدا
التحديات وتعلم بكفاءة كيف يتم وقفها وصدها. وهذا يتطلب الكثير من التطوير فى
المناهج التعليمية وتدريس حوض النيل وتحدياته فى المراحل المختلفة، وزيادة
الاهتمام بالبحوث الميدانية لنهر النيل فى دول المنبع كما كان يفعل أجدادنا،
وحفظوا كل شبر بطوله وظروفه وكيفية تطويره. وكنت أثناء عملى بالوزارة، وبالتنسيق
مع بقية أجهزة الدولة كنت بدأت برنامجا لرصد كل نقطة مياه فى النهر بالصورة، ومن الضروري
بل والحتمى إعادة إعطاءه الاهتمام الكاف لأهميته الإستراتيجية القصوى.
فى نهاية هذه السلسلة أريد أن ألفت نظر الدولة وكذلك نظر المثقفين
والمتابعين الى شئ هام وحيوي جدا، ألا وهو "تاريخ الصراع فى حوض النيل"
وهو صراع ممتد منذ أسر الفراعنة والى يومنا هذا، ولكن للأسف لا يدركه بأبعاده
كثيرون. وعند تعييني وزيرا للري فى بدايات ٢٠٠٩، أرسلت الى عدد من الكليات بجامعة
القاهرة طالبا إياهم بإعداد دراسات تاريخية لهذا الصراع نظير أتعاب استشارية
تدفعها الوزارة، وطلبت منهم مقترح لهذه الدراسات وللأسف كان المردود غير مشجع.
بالرغم من أن هذه الكليات، كان بها عظماء مصر من أساتذة التاريخ ومنهم من تولى عرض
أبواب هامة منه فى جريدة الأهرام مثلا ومنهم أستاذنا الكبير الدكتور أنور عبد
الملك والذى كنت أنا من متابعيه من صغرى وهناك غيره أيضا، ولكن هذا ما حدث. والحمد
لله أن مصر مليئة بالعلم والعلماء فطلبت المساعدة من صديق وهو الأستاذ الدكتور سيد
فليفل، أستاذ التاريخ المبجل فى كلية الدراسات الأفريقية فى جامعة القاهرة.
وبالفعل أمدنى سيادته بمراجع هامة، كانت رسائل ماجستير ودكتوراة من عدة جامعات
مصرية تتناول فقرات زمنية مهمة من تاريخ الصراع وكان معظمها عن أوغندا وأثيوبيا،
والتى قرأتها بنهم وكتبت عنها فى كتبي الصادرة عن السد الأثيوبي. وقرأت العديد من
الكتب الأجنبية لأستكمل فهمى، وقد أفادتنى كثيرا هذه الدراسات، وبدأت فى تكوين
رؤية شخصية لهذا الصراع وكيفية التعامل معه. وأكرر مرة أخرى أنه من الضرورى كتابة
وتدوين تاريخ هذا الصراع من قبل مختصين وتحليله ودراسة خصائصه وتبسيطه لتدريسه
لأبنائنا الطلاب والدارسين. وليس من المعقول أن تتولى الدفاع عن بلدك وأنت لاتعلم
تاريخك وتاريخ أعدائك، وتعلم جيدا هدفك وهدف أعدائك. يجب ان يكون شرطا للتعيين فى
المواقع القيادية فى الخارجية والرى وكذلك فى الأجهزة السيادية اجتياز اختبارات
تؤكد فهمك لطبيعة هذا الصراع ومتطلبات الأمن لبلدك وشعبك. الشطارة الأكاديمية
والمهنية أمرًا هاما ولكن الخلفية التاريخية والأمنية أمرًا حتميا، وعلى الله قصد
السبيل.
فى هذه الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة أحب أن أوضح حقيقة غائبة لا
يتطرق إليها الكثيرون فى مناقشاتهم، بالرغم من أهميتها القصوى فى رأيى.
قبل التطرق لذلك أود أن أفكركم بأن وزارة الرى المصرية كانت لعهد
قريب أهم وزارة فى مصر، ليس لأننى مهندس رى مصرى، ولكن كان لاهتمام الدولة المصرية
الكبير بتطوير الزراعة وتوسيع المساحات الزراعية وانشاء السدود والقناطر والهدارات
وحماية المنشأت، وحماية صعيد مصر من الفيضانات. وكان ذلك منذ الفتح الاسلامى حتى
نهاية الاحتلال البريطانى لمصر. وكان مهندسي الوزارة، الرصيد الهندسي الحقيقى لمصر
ليس فى الرى فقط ولكن فى الإشغالات العامة فى الدولة من طرق وكباري وجسور وبلديات وإمدادات
مياه والحماية من الفيضانات. ولذلك كان مهندس الرى، ملف فنى متكامل متنقل وكان
تدريبه مستمرا فى الخارج والداخل، ولذلك كان يطلق على هذه الوزارة بالمدرسة.
واستمر الحال مستمرا حتى الانتهاء من بناء السد العالى، ثم بدأ فك الوزارة لعدة
وزارات وتضخم الجسد الحكومى وضعفت الرواتب وبدأ الفساد وقل الاهتمام بالتعليم
والتعلم، وتدهور مهندس الرى فنيا وخلقيا بدءا فى رأيى من السبعينات من القرن
الماضى، وقد أكون مخطئا حول هذا التاريخ أو ذاك. هذه ملحوظة مختصرة عن تاريخ تدهور
الأوضاع فى وزارة الرى، كمدخل لما يحدث فى مفاوضات حوض النيل. فقد علم الغرب
والافارقة، أنه مفيش فائدة من الضغوط السياسية والاقتصادية على مصر لتحقيق أحلامهم
القديمة فى تقليل إيراد النيل لمصر وتغيير موازين القوى فى المنطقة. حاولوا عشرات
المحاولات مع عبد الناصر وفشلوا، ومع السادات الذى كان أول اهتماماته بعد حرب ١٩٧٣
هو حفر قناة جونجلى وزيادة حصة مصر من مياه النيل.
وجاء حسنى مبارك وتجددت
المحاولات معه وفشلت، حتى قيام حرب الخليج واتضاح الجانب القومى والعربي فى
التوجهات العسكرية المصرية وعدم انجرارها وراء الإغراءات الأمريكية.
وهنا بدأت المواجهات على
المكشوف وبدأت مبادرة حوض النيل تحت مسمى التطوير والتنمية، والهدف الرئيسي
للمبادرة كان الضغط على مصر لاقتطاع جزأ من حصتها المائية. وقد ساهمت شخصيا فى هذه
المرحلة فى عامى ٢٠٠٩- ٢٠١٠، ونجحت مصر فى إحباط مخططاتهم فى محاولات معلومة
ومرصودة دوليا وإقليميا. ومن ملاحظاتى على المفاوضات التى أتذكرها جيدا، الشرط
الأثيوبي وبدعم من البنك الدولى بحصر المفاوضات بين دول الحوض فى وزارات الرى.
بالرغم ان التفاوض وقتها كان فى إعداد اتفاقية شاملة للتعاون ومحاولة على الالتفاف
على الاتفاقيات التاريخية بين دول حوض النيل، أى مفاوضات سياسية من الطراز الأول.
بمعنى صريح كان من المفروض أن يكون التفاوض بين وزارات الخارجية ولكن دول المنبع
فضلت وزارة الرى وذلك لعدة أسباب فى رأيى. أول الأسباب أن وزارة الرى وزارة فنية،
مما يسهل خلط السياسات بالفنيات، ويزيد من صعوبة متابعة الخارجية والأجهزة
السيادية المصرية لقضايا وخبايا التفاوض. وللتوضيح، كل من وزارة الخارجية والأجهزة
السيادية فى اتصال دائم مباشر مع الرياسة لتصحيح المسارات وتطويرها، وذلك لا ينطبق
على وزارة الرى وفنياتها وقضاياها، مما يؤدى الى وجود فجوة زمنية بين قرارات
التفاوض واطلاع وموافقة الرئاسة. وقد حدث فى رأيى بعض الأخطاء نتيجة لذلك، ولكن تم
بفضل الله تلافيها وتصحيحها. وليس هناك اى لزوم أو مبرر لاستمرار تكليف وزارة الرى
بمفاوضات سياسية، نتيجة لطلبات أثيوبيا ومن ورائها. وزارة الخارجية هى المسئولة عن
التفاوض ومعها دعم فنى وأمنى من وزارة الرى والأجهزة السيادية، وهى وزارة محترفة
ومتمرسة وقادرة على اتخاذ قرارات ومواقف صعبة لا تقدر عليها وزارة الرى. والشق
الفنى فى المفاوضات ان وجد، لامانع أن يناقشه خبراء فنيون من الدول المختلفة، وعلى
الله قصد السبيل.
0 تعليقات