رأفت السويركي
مساوئ وسائط فضاء التواصل الاجتماعوي المهيمنة ومنها "فيس
بوك" و"تويتر" لا حدود لها؛ إذ تقوم بدور هائل في تعميم "خطاب
التفاهة" وتوطيد أركانها؛ وترويج شطائر الكلام المسرطنة؛ لتلتهمها الجماهير
في ثوانٍ من دون التفكر في تراكيب حشواتها ومدى أضرارها؛ أو كيفية طهوها ومدى
سلامة مكوناتها!
ومع تكثيف تعميم "ثقافة الضحالة" في المنطقة العربية
المنتكبة بـ "ضحالة نخبها" تتوافر للعقل التفكيكوي عبر نوافذ وتدوينات
وتغريدات تلك "السوشيال ميديا" الفرصة الذهبية لوضع اليد على خطاب تفاهة
تلك النخب بـ "لحمها وشحمها" كما يقال ليكون متاحاً للتفكيك والتشريح؛
بما يكشف مضمره القائم على التضليل؛ والمنبني على خلط المفاهيم وتسطيح المعارف؛
وفي الوقت ذاته اصطفاف القطعان الشعبوية لتتحرك بتغريدة وتتزاحم بتدوينة
(سيناريوهات فوضى الربيع العبروي المتصهين أنموذجاً)!
*****
إن تجربة "الفوضى غير البريئة" التي لعبت دوراً مدمراً
ومجهداً للعديد من دول الإقليم المنتكب بنماذج من نخبته ـ على حد السواء ـ في إدارة
الحكم وفي مربعات الشعوب؛ أحدثت تشوهات كبيرة في البنى السياسوية لدول المنطقة؛
وقامت بالتبعية بتشويه منظومة الثوابت السابقة التي قامت عليها أنظمة الدولة
القومية/الوطنية ابنة زمانها؛ وأحدثت شروخاً عميقة في المستقرات التي نَزَعَتْ من
تلك الدول قيمة الطمأنينة الضرورية لأمن وأمان الشعوب.
وإذا كانت منظومة الثوابت السياسوية للدولة الوطنية/القومية قائمة
بعد التحرير على تحقيق مستهدف التنمية الشاملة (نجحت أم فشلت) بمنهج التجربة
والخطأ المفارق للنظرية في المرحلة الناصرية أنموذجاً؛ وأيضاً على تحديد مصادر
العداء التقليدية لتلك الدول/الأوطان؛ فإن "فوضى الربيع العبروي
المتصهين" التي قامت لوظيفية هدم وقلب منظومات المفاهيم السياسوية اعتمدت على
تجنيد تلك النخب في تطبيق سيناريوهاتها.
وقد خادعت "مكاتب التفكير" المنتجة لسيناريوهات الربيع
العبروي؛ خادعت نخب الفضاء الافتراضوي بترويج إطلاق اصطلاح تسمية
"الثورة" و"الثوار" بعد نزعه من ماضيه التاريخي المستقر
المُضاد للمستعمرين وأدواتهم في الحكم (ناصر وجيفارا وبوحريد أنموذجاً) ليكون
"الثائر" و"المتنشط" لقب التفاخر الكذوب والخصم المقاتل من
(جلاس المقاهي)؛ ليس ضد الاستعمار الحديث المهيمن على العالم؛ ولكن ضد النظام
الوطني القائم والدولة القومية/ الوطنية المستقرة.
وقد شربت نخب "زمان التفاهة" الراهن بغباء الجهالة
الجديدة تلك الكأس المسممة؛ فوصلت بها إلى حد الإدمان؛ ففقدان الإدراك والوعي
فالوصول إلى حالة الغيبوبة السياسوية؛ فيما المفترض أن تكون هي النخبة المتعلمة
والمثقفة؛ والواعية بطبيعة الأحداث ومحركاتها والضرورات الحاكمة؛ والتي تدرك قوائم
الأولويات في الخطاب والحركة.
*****
وبذلك تتحقق استراتيجية/ مؤامرة/ سيناريو "اهدم بيتك
بيديك"؛ و"الغزو من الداخل"؛ لتكون "نخبة زمن التفاهة"
هي العميل "الثائر/ المتنشط" غير الشريف بغبائه السياسوي؛ والعميل
الداخلي لقوى الاستهداف من الخارج أو المستعمر القديم المتحور بقناعه الجديد.
وهذا ما تجلى فيما حدث من أنماط الدمار والتفتيت الذي شهدته
"الدولة السورية" بالهدم من الداخل؛ وقد سبقتها "الدولة
العراقية" بالغزو الأميركي الخارجي؛ و"الدولة الليبية" بعدوان
الناتو و"الدولة اليمنية" بالهدم من الداخل؛ مع إفلات "الدولة
المصرية" والحمد لله بقوة جيشها ووعي شعبها؛ و"الدولة التونسية"
بتنور شعبها ويقظة جيشها؛ و"الدولة السودانية" بخصوصية حالتها التي سمحت
بانفصال الجنوب بترتيب "البشير المتأخون المعزول"؛ غير أن هذه الدول
بجيوشها الوطنية سَلِمَتْ بالمطلق ( حالة مصر)؛ أو بالتفاوت والإفلات من العوارض
البينة الخاصة بالاقتتال والاحتراب الداخلي وفق معطيات التماسك الخاصة بكل دولة.
لذلك كان الملمح البارز في خطاب النخبة العربية المشوهة سياسوياً ـ
مهما كانت مربعاتها الإيديولوجية ـ هو إشهار حالة العداء المريبة منها لمؤسساتها
العسكريتارية الوطنية؛ بل وتمترس عناصرها المشوهة الإدراك في خنادق المخالفة
السياسوية لها؛ في تضاد غبي مريب؛ يدل أول ما يدل على واقع شعبوية هذه النخب؛
وفقدانها للوعي الحقيقي بما يمكن تسميته "استراتيجيات فقه الضرورات"
السياسوية، المرتبطة ببقاء الدول ووجود الأوطان من الاستهداف بالتدمير؛ والمستهدفة
استصناع خريطة جديدة للمنطقة؛ تقوم بنهج وشعار "تفكيك المفكك وتفتيت
المفتت"؛ وإعادة تشكيل المنطقة لتكون أشبه بالكانتونات ذات الهويات المرتبطة
بالأعراق والعقيدويات والمذهبويات؛ والتي تتوسطها في القلب "الدولة
اليهودوية" المتصهينة.
*****
والملاحظ أن النخب العربية المريضة بالثرثرة السياسوية؛ ومشوهة
الوجدان الوطني تنظر إلى مسألة التحديات المستهدفة للدولة الوطنية من منظور
"جلسات المقاهي"؛ نتيجة تهاوي وجدانها الضابط للانتماء؛ وتشوه وعيها
الحاكم بآليات الحفاظ على الوجود السياسوي للأوطان وإهمال ضمان تماسكها المتحقق تاريخاوياً.
ولعل الخلل الذي تعاني منه نخب الثرثرة يتحدد في مواقفها المشبوهة
المعلنة تجاه مؤسسات الجيوش في بلدانها؛ إذ تقع أسيرة الوعي المغلوط المضاد لها
بالسقوط في فخ التناقض الحاد معها؛ وذلك بسعيها لترويج أن "مؤسسات الجيوش
الوطنية العربية" تمثل عبئاً وعائقاً أمام متوهمهم بتشكيل ما يسمونه
"الدولة المدنية"؛ وهو ما يجعلهم يرفعون شعارات التضاد باصطلاح غير
متفكر في صوابه أي "حكم العسكر" والذي يُعدُّ نوعاً من الضرورات التي
تفرضها طبيعة واقع وزمان المنطقة بكل خصوصياتها... فيطالبون بسقوطه!!
إن هذه النخب مزيفة الوعي وقاصرة الفهوم السياسوية لا تدرك مخاطر
دعوتها تلك؛ والتي استولدها "العقل الاستعماري نفسه" من رحم خطابه
القديم؛ بعد أن غادر المستعمرات إلى غير رجعة؛ مُجبراً بضغوط حركات وفعاليات
جيوشها الوطنية. لذلك صارت وستبقى المؤسسات العسكريتارية الوطنية هدفاً مطلوباً
للتشويه فالإضعاف فالهدم. وهذا هو الدور الراهن الذي تقوم به النخب المنفصلة عن
تاريخ أوطانها وقواها الحامية.
*****
ومع انقضاء مراحل التحرر الوطني من كل أنماط الاستعمار القديم؛
واستقرار آليات إقامة الدولة الوطنية؛ واندراجها في مشروعات التنمية المختلفة التي
كانت النخب إحدى ثمار مشروعات التحديث بها عبر "مجانية التعليم حقاً"
للمواطنين؛ ظلت التحديات الاستعمارية تحاصر منظومة الدولة الوطنية وفق قدراتها
الخاصة؛ والتي (إما تمتلك المواد الخام وتعاني محدودية العنصر البشري أو العكس ذات
الكثافة السكانية)؛ مع انعدام أو وجود التنظيمات الحزبوية الهشة فاقدة الثقل
الاقتصادوي أو الإيديولوجوي الفاعل؛ ولا قوة لها أكثر من لغط "الثرثرة
الغوغاءوية" في محيط شعبوي كبير من "الأمية الألفباءوية" عبر
استهلاك شعارات: "الديموقراطية" و"سقوط حكم العسكر" واتهام
تدخلات الجيوش لحماية وجود الأوطان بـ"الانقلاب"!!
إن نخب الثرثرة العربية تلك لا قدرة لها في الفعل السياسوي على
تقديم مشروعات تنموية حقيقية؛ يمكن أن تحدث تحولات فارقة في اقتصادات دولها؛ وإذا
تمكنت من وضع التصورات لا يمكن لها أن تخرج عن سياقات الواقع المحلي بإرضاء قوى
الرأسمالية الطفيلوية المحلية وتكوينات الرأسمالية العولموية الجامحة؛ فتختصر
محمول ثرثرات خطاباتها المشروخة في أغنيات الديموقراطية؛ والوصول إلى احتكارية
وظيفة التحريض من المقاهي للتحشيد الشعبوي؛ اعتمادا على كثافة جماهير غير واعية
فكرانياً... وبالتحديد من شباب في مقتبل العمر؛ مهجن العقلية ويُساق برسائل وسائط
التواصل الاجتماعوي.
ومن دون شك ـ وهذا ما لا تتفكر في شؤونه النخب العربية التي انتكبت
بها الأوطان ـ أن بنية الواقع القائم بامتداد الخريطة العربية تُعاني من تشوهات؛
عمقتها طبيعة التحديات التي أحاطت بنظم الدولة العربية ما بعد الاستقلال من
الاحتلال وامتداداً لما قبلها؛ فلم تترك لها الفرصة لتتشكل قوى أساسٍ فاعلة لربما
تُشابه ما تتواجد بما تسمى الدول الديموقراطية الغربية؛ ذات الأساسات الاقتصادوية
العميقة وغطاءاتها الحزبوية المواكبة. وبالتالي فمن المخادعة الادعاء النخبوي
العربي القاصر بأن دول الغرب هي جنات الله في الأرض للديموقراطية كما يروجون( وهذا
موضوع آخر للكتابة).
لذلك نشاهد في واقع الخريطة العربية تنظيمات مُنَمْطَة هشَّة؛ إما
ماضوية الخطاب؛ عبر التسيس الخوارجي الماسونوي للعقيدة (جماعة حسن الساعاتي
البناء)؛ أو من مجترات الأحزاب التاريخاوية الهامشوية (حزب الوفد المصري) أو
الأحزاب الماركسوية من متشبثات بقايا الإيديولوجيات المنقرضة (الاتحاد السوفياتي
المفكك) أو ذكريات (الصين الشعبية) المتحولة.
*****
والمؤسف في الأمر أن النخب العربية النمطوية فقيرة الخيال السياسوي
بهامشويتها؛ لا تزال أسيرة كل ذلك الماضي الفكراني الذي عرفته؛ ولم تكسر الجرة كما
يقال خلف الماضي... لتفكر بما يتناسب وواقع الحداثة والعولمة الجديدة؛ وتتشوف إلى
برمجيات تغيير المستقرات حول القوة وأشكالها؛ والانتاج وأنماطه والأسواق وتوسعاتها
العولمية؛ والأناسة التي تتعرض للتغيير في الذوائق والمكونات عبر الرقائق
والروبوتات القادمة بديلاً لقوى العمل الكثيف والتنفيذ والتخطيط.
وبذلك تبقى مؤسسات الجيوش العربية تمثل في واقعنا الراهن
"الرقم الحقيقي القوي" والمؤهل في المعادلة الدولاتية؛ بما تتميز به من
مواصفات وممكانات وقدرات بنيوية؛ عبر الانضباطية الحاكمة والمؤهلات الاستراتيجوية
الفاعلة؛ والقراءات ذات الشمول للسيناريوهات والقدرات العالية لكافة الحسابات
المتعلقة بمجموع التحديات والقضايا الخاصة بأوطانها (الجيش المصري أنموذجاً).
ولعل الجهد الهائل الذي تبذله هذه المؤسسة العسكريتارية المصرية
برجالها يكشف مدى أهليتها المتأصلة منذ مطالع التاريخ الإنسانوي (المصريون
القدماء) لحماية وطنها؛ ومبادراتها الهائلة برجالها لضمان وجوده مركزاً متماسكاً
يواجه كافة التحديات مهما تعاظمت؛ ومهما تعرضت للهزائم والإخفاقات والغزو
والاجتياحات؛ لكنها تحقق الانتصارات.
إن تجربة هذه المؤسسة الشريفة الراهنة تكفي لكي تلقم النخب
الغوغاءوية ما "تهرتل به" في أفواهها. إذ نجحت في تجاوز أفخاخ سيناريو
الربيع العبروي المتصهين 2011م؛ كما نجحت في تحقيق انتصار اكتوبر/تشرين1973م؛
وشكلت القطاع الاقتصادوي الثالث (جهاز المشروعات) ليقود ويشرف برجالاته على
البرنامج التنموي الجديد لتأهيل مصر/ الدولة الجديدة للاندراج الفاعل في سياقات
العولمة الاقتصادوية المعمقة المقبلة.
والأمر نفسه في الحفاظ على أمن أوطانها تجده من مسؤولية بقية
الجيوش العربية؛ والتي تتصدى إذا استحكمت المشكلات بتهديد الأوطان للتدخل بحكم
المسؤوليات المفوضة بها وظيفويا لإدارة الأزمات الخانقة؛ وإنقاذ أوطانها وفق
ضرورات فقه الحالة السياسوية. ومع ذلك لا تخجل النخب العربية في جلسات ثرثراتهم
الفارغة من القول بما تسميه الإنقلاب؛ وأن تكون "أفيونة أرجيلتهم":
"يسقط حكم العسكر"؛ فتأملوا واسخروا من هرطقاتهم تلك؛ ولافتاتهم التي
رفعوها في مصر سابقاً؛ ويرفعونها راهناً في السودان وتونس!!
0 تعليقات