آخر الأخبار

أين يقع المسجد الاقصى (4)

 







 

محمود جابر

 

 

مثلت رحلة الإسراء على الأقصى معجزة كبرى، وأنت حينما تتعجب من أمر تقول ( سبحان الله) والله يقول فى فاتحة سورة الإسراء ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) ... من ....... إلى، ومن إلى هنا تكون المعجزة، العرب والبشر جميعا لا يدركون المسافة بين السماء والأرض، ولو ان شخص قال لهم إنى ذهبت إلى السماء كل الناس بالإجماع سوف يقولون عنه بأنه مجنون، لان هذه المسافة غير مدركة المسير، ولكن إذا سبقتها مقدمة انه سار من مسافة كذا إلى كذا فى ليلة وهى مسافة كبرى وقدرها معلوم والقوم قطعوها مرارا وتكرارا، هنا تكون المعجزة، لأنهم يقطعونه فى شهر أو يزيد، النبى محمد قطعها فى جزء من الليل ...

 

والأغرب أيضا أن المعراج لم يذكر فى سورة الإسراء ولم يتعجب له القرآن بل تعجب للإسراء .. لان كما قلت ان الإنسان يتعجب لما هو مدرك معلوم، قال تعالى سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا وكأن الإسراء أعجب من المعراج ..

 

والسبب هنا معروف وهو طول المسافة ....

 

ظلت مسألة المسجد الأقصى مستقرة فى وعى المسلمين قرونا وان إسراء النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان على المسجد الأقصى بالقدس بأرض فلسطين، سواء كان اسمها فى السابق فلسطين او اسما آخر، فالنبى كان يقيم فى الجزيرة العربية وليس فى العربية السعودية، كما هو الحال اليوم...

 

ولكن منذ سنوات خرج احد المؤرخين اليهود وهو المؤرِّخ الصهيوني (مردخاي قيدار Mordechai Kedar)، الأستاذ بجامعة (بار إيلان) في الكيان المحتلّ، والباحث في (مركز بيجن- السادات للدراسات الاستراتيجيَّة!).

 

 

وقال إن المسجد الاقصى ليس فى فلسطين، والمحاضرة موجودة على اليويتيوب فى تاريخ 27 أغسطس/ آب 2008، ومن بعدها شاهدنا عشرات المدعين للبحث ممن يقولون بمقولة الصهيوني مردخاى، فهل إذا وصفناهم بأنهم صهاينة متأسلمين أو شيعة لندن وتل أبيب فهل هنا نكون قد سببناهم ؟!!

 




أرى أن السباب يمكن أن يكون كذلك لو أنهم سبقوا هذا المؤرخ، ولكن أما وأنهم اتبعوه، فهم له تبعا...

 

وهم يمثلون جوقة لهذا المؤرخ ومشروعه، يَتبارون في ترديد هذا النشيد الهزلي. وقائد الأوركسترا (المايسترو) معروف الهويَّة، يُدير هذا العزف الشجيّ على أشلاء الوطن ووعى الأمة.

 

وملخص معزوفاتهم أن المسجد الأقصَى في (فلسطين) ليس هو المقصود في نبأ الإسراء بأنه إنما بُني في العهد الأُمويّ؛  هؤلاء لا يدركون ان «المسجد» في العربيَّة هو مكان الصلاة والسجود، سواء كان فيه بناء أو لا.

 

وقد جاء فى الحديث : "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

 

 ومفهوم "المسجد الأقصَى" ليس، لدى من عرف اللغة والتاريخ، ما بناه (عبدالمَلِك بن مروان) أو غير عبدالمَلِك، بل الأصل أنه يشمل تلك البُقعة المباركة التي بُنيت فيه قُبَّة الصخرة الذهَبيَّة وغيرها من القباب والمساجد المشيدة.

 

 ولكن إذا سلَّمنا بأن المسجد الذى أسرى إليه النبى هو مسجد الجعرانة، على الرغم ان الجميع يعلم أنه قبل الهجرة لم يكن فى كل العالم مسجدا للمسلمين قد بنى، وان المسلمين كانو يصلون إما فى المسجد الحرام، او فى دار الأرقم بن أبى الأرقم، وأن أول مسجد بنى بعد الهجرة كان فى المدينة وهو مسجد قباء..

 

تُرى من الذي قفز ليبني مسجدًا أقصَى في الجعرانة  في ذلك التاريخ المبكِّر؟!

 

ثمّ ألا يتساءل: لِـمَ كانت القُدْس أُولى القبلتَين؟ أم لعلّه يرى أن الطائف كانت أُولى القبلتَين؟! ثمّ لماذا شُيِّد المسجد الأقصَى في القُدْس في العهد الأُمويّ، ولم يُشيَّد في منطقة الجعرانة فى الطائف ؟

 

وكيف جهل ذلك الجيل، وهو جيل الصحابة والتابعين، مكان الإسراء الحقيقي، والمسجد الأقصَى المشار إليه في "القرآن الكريم"؛ فظنُّوه في فلسطين وهو إلى جوارهم في الطائف؟!

 

هل جهل النبى المكان الذى ذهب إليه فوصف لهم بلاد الشام والقدس كما ورد ولم يصف لهم بلاد الطائف، رغم ان ما جاء عن النبى معلوم وصريح من انه اسرى به الى بلاد الشام وتحديدا فى فلسطين وتحديدا فى القدس ..

 

ولِمَ لَم يَعتدّوا بما ورد في العديد من المصادر، على سبيل المثال، من أنه حين كذَّبت قُريشٌ محمّدًا، مُثِّل له بيت المَقْدِس، الذي يعرفونه من خلال أسفار تجارتهم في الصيف إلى فلسطين، فوصفه لهم كأنه يراه؟ وهي نصوص مشهورة مسرودة بين يدَي القارئ في تلك الكتب، ولا داعي للتذكير بها هنا، ولهذا ما قاله النبى مثل المعجزة التى تستحق ان نقول لها ( سبحان الله).

 

وأمَّا ما يتعلَّق بقداسة (بيت المَقْدِس) في فلسطين، واستعمال تعبير "بيت المَقْدِس" عند العرب، منذ ما قبل الإسلام، ثمّ استعمال "المسجد الأقصَى" منذ (سورة الإسراء)- في إشارات صريحة إلى المكان المعروف في فلسطين، تدحض أيّ شكّ في أن ذلك المكان كان هو المقصود في "القرآن الكريم"، وفي الحديث النبوي، وفي التراث العربي والإسلامي- فنسوق من أدلّته ما يأتي:


1- لقد كان اسم (أورشليم) أو (بيت المَقْدِس) في فلسطين معروفًا باسمه هذا لدى العرب قبل الإسلام، بوصفه مركز الدِّيانات الكتابيَّة، كما كان ذلك إرثًا موغِلًا في التاريخ لدى اليهود والنصارى. وقد كان اسم أورشليم موجودًا قبل مجيء (إبراهيم الخليل) إلى أرض (كنعان). كما وردَ اسم مدينة أورشليم في رسائل الكنعانيِّين الفلسطينيِّين إلى الفراعنة في مِصْر، خلال الألف الثاني قبل الميلاد، بقلم (عبد يحيبا)، حاكم أورشليم في فلسطين، بلفظ: "أوروسالم". وتعود تلك الرسائل إلى ما قبل عام 1336ق.م.

 

 وكذا ورد اسم أورشليم في نقوش الإمبراطور الآشوري (سنحاريب، 681- 705ق.م)، بلفظ: "أوروسليمو". ووصف المدينة بـ"القُدْس" قديم جِدًّا أيضًا، يشير إليه المؤرخ الإغريقي (هيرودوت، -425ق.م)، بلفظ "قديتس"، وقيل إنه محرَّف من النطق الآرامي "قديشتا".

 

وما ورد فى "مدينة القُدْس" في "التوراة"- كما في "سِفر إشعيا": "الْبَسِي ثِيَابَ جَمَالِكِ يَا أُورُشَلِيمُ، الْمَدِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ"، أو"سِفر نحميا": "جَمِيعُ اللاَّوِيِّينَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ مِئَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ.





إن الإشارات التاريخيَّة إلى مدينة أورشليم في مكانها المخصوص من فلسطين، ثمَّ وصفها بـ"القُدْس"، لا يدعان مندوحة لشاكٍّ في قدسيّة المدينة، أو زاعمٍ أنها كانت الطائف أو غير أو فى السماء.

 

2- حين نعود إلى أدب العرب قبل الإسلام ماذا نجد؟ نجد أن الشاعر الجاهلي (السموأل بن عادياء)، اليهودي، المضروب بوفائه المَثَل، صاحب حِصن (الأبلق الفَرد)، في (تيماء)- وقد قيل إنه من نسل (هارون بن عمران) أخي (موسى)- قد سمَّى تلك المدينة الفلسطينيَّة باسمها: "القُدْس"، في قصيدة منسوبة إليه، منها:

 

فَهَــــذا خَـــــليلٌ صَـــــيَّرَ الناسَ حَولَــــــهُ

رَياحـــــينَ جَــــنَّاتِ الغُصونِ الذَّوابِلِ

وهَـــــذا ذَبيـــــحٌ قَدْ فَـــــداهُ بِكَـــــبْـــــشِـــــهِ

بــــَـــــراهُ بَديهًـــــا لا نِتـــــاجَ الثَّياتـــــِلِ

وهَذا رَئـــــيسٌ مُجـــــتَبىً ثَـــــمَّ صَفـــــوُهُ

وسَمَّــــاهُ (إِسرائـــــيلَ) بكـــرَ الأَوائِـــــلِ

ومِن نَسلِهِ السَّامي أَبو الفَضلِ (يوسُفُ) [م] الَّذي أَشبَعَ الأَسباطَ قَمحَ السَّنابِلِ

وصارَ بِـ(مِصْـــــرٍ) بَعدَ فِرعَـــــــونَ أَمرُهُ

بِتَعـــــبيرِ أَحـــــلامٍ لِحَـــــلِّ المَشاكِـــــلِ

أَلَســـــنا بَـــــني مِصْـــــرَ المُنَكَّلَـــــةِ الَّتي

لَنا ضُرِبَت مِصْرٌ بِعَـــــشرِ مَناكِـــــلِ؟

أَلَسنا بَني البَحـــــرِ المُغَــــــــــرِّقِ والَّذي

نا غُـــــرِّقَ الفِرعَونُ يَومَ التَّحامُلِ؟

أَلَسنا بَني (القُدْسِ) الَّذي نُصِبَت لَهُم

غَمامٌ تَقيهِمْ في جَميعِ المَراحِـــــلِ؟

أَلَسنا بَني السَّلْوَى مَعَ المَــــــنِّ والَّذي

لَهُم فَجَّرَ الصَّوَّانُ عَذْبَ المَناهِــــلِ؟

أَلَسنا بَني (الطُّــــــوْرِ) المُقَدَّسِ والَّذي

تَدَخـــــدَخَ لِلجَـــــبَّـــارِ يَـــــومَ الزَّلازِلِ؟

 

فقائل هذه الأبيات (عربيّ اللسان، جاهليّ، يهوديّ)، ينطق بثقافةٍ سائدةٍ في زمنه، تمتح من ماضٍ سحيق، لا يصحّ الاستخفاف بما تحمله من إشارات تاريخيَّة. وكان المستشرق الألماني (هرشفلد) أوّل من نشر هذه القصيدة في مجلّة "المشرق، 9: 482"؛ إذ وجدها في مخطوطات مكتوبة بالعِبريَّة. ثمَّ نشرها بالعربيَّة المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) في "المجلَّة الآسيويَّة، نيسان 1906، ص363". ونقلها عنه (الأب لويس شيخو)، في "المشرق، 9: 674". وعُثِرَ منها على نُسخٍ أخرى، منسوبة إلى (السموأل القُرَظي)، نسبةً إلى (بني قُريضة).(11) ولا غرو؛ فإن "القُدْس" لفظٌ واردٌ في "التوراة" إشارة إلى (مدينة القُدْس)، في مِثل ترنيمة (موسى) و(بني إسرائيل) ابتهاجًا بالخروج من (مِصْر): "تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ" .

انظر: (د.ت)، ديوانا عروة بن الورد والسموأل، باعتناء: كرم البستاني وعيسى سابا (بيروت: دار صادر).



أين يقع المسجد الاقصى ؟ (3)


 

إرسال تعليق

1 تعليقات