نصر القفاص
فى إفريقيا فقط تسمع عبارة "انقلاب مدنى" لوصف ما يحدث
فى "تونس" وتسمع عبارة "انقلاب عسكرى" عما يحدث فى
"السودان"!! ربما لأن كلمة "انقلاب" مطلوب جعلها سيئة
السمعة.. مع أن "الثورة" هى فى حقيقتها انقلاب على واقع ترفضه أمة أو
مجتمع.. وتلك إرادة ما نسميه "المجتمع الدولى" الذى اعتبر ما حدث فى
"قطر" قبل نحو ربع قرن, ليس انقلابا.. ورغم أن الابن أطاح بوالده وتولى
الحكم.. وتكرر المشهد بنعومة أكثر بعدها بسنوات.. لأن هذا "المجتمع
الدولى" يعتبر أن "أحمد" زى "الحاج أحمد" طالما أن
الصورة واضحة, ولا تضر القوى الاستعمارية – يسمونها كبرى – فى هذا الزمن السعيد!!
أخذتني الفكرة إلى ما يقرب من أربعين عاما مضت.. سافرت إلى
"أوغندا" وكانت قد تخلصت من "ديكتاتور" نجح الاستعمار
"المجتمع الدولى" فى أن يجعلنا ننسى إسمه وجرائمه.. بل ضمنوا له أن
يغادر بلاده ليعيش فى "السعودية" حتى رحل فى سلام.. كما حدث مع
"زين العابدين بن على" بعد أن هرب من "تونس" وودع الدنيا على
أرض "السعودية".. وهى الفكرة التى جعلتنى أتذكر رحلتى إلى
"أوغندا" وقد كانت وقت أن اختبأت كمحرر رياضى, بعد أن ارتكبت جريمة
محاولة أن أكتب رأيا لا يحمل اسمي.. ثم علمت أن من تناولته بالنقد يبحث عن الكاتب,
لتلقينه درس لن ينساه.. ولن أخوض فى التفاصيل لأننى ضمنتها كتابا أصدرته على نفقتى
فى حينها كان عنوانه "صورة بالقلم" ضم محاولتى رسم صور نجوم الرياضة
بالقلم.. وجعلت الصورة الأولى, ما سبق أن نشرته عن شخصية سياسية متفردة لها كل
التقدير.. لكن ما كتبته لم يعجبه!!
سفرى إلى "أوغندا" كان لتغطية رحلة الفريق الأول لكرة
القدم بالنادى الأهلى, ليلعب مباراة فى بطولة إفريقيا للأندية أبطال الدورى.. كنت
مرعوبا قبل السفر لأننى ذاهب إلى بلد كان يحكمه "عيدى أمين" بما قرأت عن
جرائمه المزرية والمذهلة.. توقفنا فى "أديس أبابا" ثم وصلت مطار
"عنتيبى" فى "أوغندا" لأكتشف أن حقيبة ملابسى ضاعت!! وعشت
أياما بقميص وبنطلون وصدقات نجوم "الأهلى" ومنهم: "أحمد
شوبير" و"محمد سعد" و"علاء ميهوب" إضافة إلى "سمير
عدلى" المدير الإدارى للفريق.. لأنهم حولوا مسألة فقدان حقيبة ملابسى إلى
قضية مسلية, تفجر الضحكات طوال الرحلة.. بتحريض من اللواء "عبد الجابر أحمد
على" أحد أبطال أكتوبر, والمشرف على البعثة باعتباره كان عضوا بمجلس إدارة
اتحاد الكرة.. فكلما طلبت من أحدهم ما يمكن ارتدائه, كانوا يشمتون فى استعراضى
"للشياكة" بمطار القاهرة وتوعدهم بما تحمله حقيبة ملابسى.. وانتشلتنى
حكاية فقدان حقيبة ملابسى, من الخوف أننى ذاهب إلى بلد كان يحكمه "عيدى
أمين"!!
فى "أوغندا" شاهدت سحرا, وسمعت عجبا.. فهذه بلاد جميلة
يسمونها "سويسرا افريقيا" وشات أقدارى أن أزور "سويسرا" فيما
بعد لأفهم المعنى.. باعتبار أن الطبيعة لا تختلف.. لكن الشعب السويسرى جعلته قارة
أوروبا حلما.. أما الشعب الأوغندى فقد جعله "عيدى أمين" كابوسا مع غيره
من دول إفريقيا التى ناضل "جمال عبد الناصر" من أجل تحررها.. ثم خذلها
حكام أدركوا أن وصمهم بأنهم "انقلابيون" أو "ديمقراطيون"
ومحترمون الاستعمار الذى غادر من الباب وعاد من الشباك فى "زمن الأوف
شور" ومايسمونه "السلام" بمعايير ديمقراطية إذا أرضتهم سمحوا لها
بالاستمرار, ولو أخذت طريقا ضد مصالحهم يرشقونها بالدكتاتورية ويطالبونها بتطبيق
معايير "حقوق الإنسان"!!
حكم "عيدى أمين" سنوات طوال, كما حكم غيره دولا عديدة فى
إفريقيا.. تركه ما يسمى بالمجتمع الدولى يرتكب ما شاء من جرائم, لمجرد أنه كان
يعطى "الاستعمار الجديد" ما يريد!! وحكم "عمر البشير" نحو
ثلاثين عاما "السودان" كما حكم "زين العابدين بن على" لنحو
ربع قرن "تونس" وتركوهم.. كما تركوا "حسنى مبارك" يحكم مصر
ثلاثين عاما.. وغيرهم كثيرون فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية عاثوا فى بلادهم
فسادا وخرابا.. لكنهم كانوا يريحون السيد الأمريكى وشركائه.. ويتعاملون مع ضغوطهم
بأساليب مختلفة ومتفاوتة.. المهم أنهم كانوا يدورون فى الفلك المرسوم.. وتم اغتيال
من تمرد أو سايرهم ثم خرج عن الخط!!
رحل "عيدى أمين" وانطلقت "أوغندا" إلى الأفضل
بذكاء من حكموها.. رحل "زين العابدين بن على" ودخلت بلاده دوامة يطلقون
عليها "الديمقراطية" لمجرد أن أبناء وأحفاد "حسن البنا"
يشاركون فى الحكم.. ورحل "عمر البشير" لتدخل سفينة "السودان"
قلب عاصفة, وتم تسليم "إسرائيل" دفة القيادة.. كما يحدث فى
"ليبيا" التى تشرف على تسليمها لإسرائيل دولة عربية – للأسف – وتولت
دولا عربية – للأسف أيضا – أمر "لبنان" التى أوشكت عملية تسليمها على
الانتهاء!! بعد أن سقطت "العراق" فى بئر "الديمقراطية المزعومة"
وتبقى دول الخليج هى الفئة الناجية, باعتبارها تطبق أفضل وأقصى وأروع معايير
الديمقراطية!!
كنت خائف فى طريقى إلى "أوغندا" لمجرد أن "عيدى
أمين" حكمها.. وعشت زمنا شاهدت فيه أكثر من "عيدى أمين" يمكنهم
أسيادهم من أوطانهم!! وكلهم يعلمون أن غضب الذين خدعوهم ومكنوهم, يعنى وصولهم إلى
المحطة الأخيرة.. وهذه الخاطرة راودتنى لحظة أن سمعت "أحمد زكى" يقول:
"إذا سقط منكم لهفورى.. فكلكم لهفورى" فى فيلم "البيضة
والحجر" الذى أعجبنا دون أن نفهم معناه.. وضاعت حقيبة ملابسى فى مطار
"أديس أبابا" لأضحك وأتذكر تلك الأيام, كلما شاهدت "أحمد
شوبير" نجما يلمع فى سماء الإعلام بعد أن أصبحت "معتزلا" لأفهم
معنى وقيمة "حارس المرمى"!!
0 تعليقات