محمد نصر علام
هناك أحواض أنهار صغيرة، حيث يقع الحوض بأكمله فى دولة من الدول،
وهناك أحواض ضخمة تغطى عدد من الدول، ويطلق عليها أنهار دولية.
أعلى النهر، وهى فى الغالب
مناطق جبلية مرتفعة، ويطلق عليها المنبع، حيث تتجمع مياه الأمطار فى جداول وانهار
صغيرة تتجمع فى انهار اكبر، وكل نهر صغير قد يكون له منبع منفصل، حتى تتجمع المياه
(الأنهار الصغيرة) فى النهر الكبير والذى تصب مياهه فى بحيرة أو بحر كما هو حال
نهر النيل.
ودول المنبع يسقط عليها عادة كميات هائلة من الأمطار، فنجد فى نهر
النيل مثلا يسقط حوالى ١٨٠٠ مليار متر مكعب من المطر، وهذا المطر يذهب منه ٥-١٠٪ الى النهر حتى مصبه، وهذه
النسبة لاتتعدى ٥٪
فى نهر النيل. وبقية مياه المطر يتم الزراعة عليها زراعات مطرية، وتنشأ الغابات
والمراعي الطبيعية، وجزأ كبير من المطر يذهب للمياه الجوفية، والباقى يتجمع فى
النهر الرئيسي كما ذكرنا مسبقا.
الغريب، بل الغريب جدا، أن قوانين المياه الدولية تتحدث عن تقاسم
عادل للمياه الجارية فى النهر وأيضا الجوفية مع تجاهل تام لكميات الأمطار
الهائلة(!؟) والتى يقوم عليها اكبر اقتصاديات العالم مثل الولايات المتحدة وكندا
وأوروبا وروسيا والصين وغيرها.
أن النهر الدولى يمتد فى عدة دول متجاورة، منها منطقة منابع وهى
الدول التى تسقط فيها الأمطار وتأتى منها المياه، ومنها دول المجرى التى يتجمع
فيها روافد الأنهار أو يجرى فيها النهر الرئيسي أو أحد روافده، ودول المصب زى مصر
التى يصب اليها نهر النيل ثم إلى البحر المتوسط. وعادة ما يتخلل الأنهار البحيرات
العذبة، والتى قد تمثل فى حد ذاتها المصدر الرئيسي للمياه فى هذا البلد أو ذاك،
وأحيانا بحيرات دولية تمتد فى عدة دول مثل بحيرة فيكتوريا لأوغندا وكينيا
وتنزانيا، وقد تكون لدولة وحدها مثل بحيرة تانا فى أثيوبيا. وتقوم على هذه
البحيرات زراعات ومناطق سكانية ومشاريع زراعية وتوليد الكهرباء.
ودولة المصب قد تكون أيضا ممطرة، أو صحراوية كما حال مصر فيصبح
النهر منذ بدايات التاريخ هو مصدر الحياة والتحضر، بينما بقية الدول تعتمد على المطر
فى الغذاء والكساء. ومع النمو السكاني، بدأ الإنسان فى التفكير فى استخدام مياه
النهر فى الزراعة حتى فى دول المنبع، خاصة اذا كان موسم المطر محدود. وبالفعل موسم
المطر فى أثيوبيا قد يمتد ٦ شهور، بينما يمتد لحوالى ٩ أشهر فى الهضبة الاستوائية.
وجدير بالذكر أن الزراعات المطرية أرخص بكثير من الزراعات المروية
التى تعتمد على التخزين ونقل المياه والطاقة مما يقلل من اقتصادياتها مقارنة
بالزراعات المطرية. وبالفعل بدأ الاهتمام بالزراعات المروية فى دول المنبع (لأهداف
اقتصادية وتجارية) وبدأ الاهتمام بالمياه التى كانت تذهب الى دول المصب بدون
مضايقة أو مشاركة.
أن دول المنبع تتمتع بأمطارها الغزيرة التى تبلغ عشرات مقدار كميات المياه الجارية
فى الأنهار، وأن هذه الدول هى مصدر الإنتاج الزراعي العالمي، لأن الزراعات المطرية
أقل كثيرا تكلفة وجهدا من الزراعات المروية، ومعظم الإنتاج الدولي من المحاصيل الإستراتيجية
تأنى من زراعات مطرية فى أمريكا وأوروبا واستراليا وروسيا. وأن دول المنبع أيضا
تتمتع بتوفر البحيرات العذبة الضخمة والتى تفى بالاحتياجات المائية السكانية
والثروة السمكية ووسيلة فعالة للمواصلات والنقل النهرى ويتم استغلالها أيضا لتوليد
الكهرباء. ويتوفر لزوار المنبع أيضا الأنهار الفرعية الصغيرة والتى يتم استخدامها
للأغراض المختلفة. ويجيد مزارعو دول المنبع "الزراعة المطرية" التى
مارسوها لآلاف السنين ولا يجيدون الزراعات المروية ولا يطيقون تكلفتها العالية.
وفى دول المنبع أيضا بعض مناطق تجمعات المياه فى شكل برك أو
مستنقعات هائلة فى مساحات أفقية (مسطحة) نسبيا، حيث تفتقد الأرض لميل كاف لانتقال
المياه بالجاذبية من خلال القنوات والأنهار. وتنتشر هذه المساحات، والضخمة جدا،
بكثرة فى دول منابع حوض النيل من رواندا وبوروندي وأوغندا وجنوب السودان وأثيوبيا،
حيث تتجمع فيها مليارات من الأمتار المكعبة من المياه العذبة تتعرض فيها للتبخر،
وفى نفس الوقت تمثل مصدرا للأمراض والأوبئة وتمنع المواطنين من الاستغلال الأمثل
سواءا للأرض أو للمياه. ومثال لهذه المساحات مناطق بحر الغزال ومنطقة الفواقد
(جونجلى) فى جنوب السودان، ومنطقة مستنقعات مشار فى أثيوبيا والتى تمتد الى جنوب
السودان. ولكى نتخيل مدى اتساع هذه المساحات، نجد ان مستنقعات مشار وحدها تغطى
مساحات اكبر من مساحة دولة فرنسا.
وتبلغ فواقد النهر من هذه المناطق الثلاثة وحدها عشرات المليارات
من الأمتار المكعبة من المياه، ويمكن إنقاذ معظمها عن طريق قنوات سطحية بسيطة تسمح
بجريان المياه لتتجمع فى نهر النيل بدلا من ركودها وفقدانها بدون فائدة. وقد قام
مهندسي الرى المصريين العظماء بدراسة هذه المناطق، وتم إعداد تصميمات هندسية
لمشاريع استقطاب هذه المياه منذ أوائل القرن الماضي، بل وتم وضع بعض هذه المشروعات
"الواقعة فى جنوب السودان" ضمن اتفاقية ١٩٥٩ بين مصر والسودان كمشاريع
مستقبلية بين البلدين. وقد بدأ السادات بالفعل مشروع قناة جونجلى، فى جنوب السودان
وذلك فى أواخر السبعينات من القرن الماضى. ولأسباب عديدة دولية وإقليمية، تم إشعال
حرب جنوب السودان وتم إيقاف مشروع جونجلى بعد الانتهاء من حوالى ٦٠٪ من حفر القناة.
هناك قصص وروايات عديدة
لشرح وجهة نظر أعداء المشروع من المحليين والدوليين، ولكن السبب الرئيسي من وجهة
نظرى هو "تحجيم مصر" وإشغالها بقضايا توفير المياه لشعبها، وقضايا التعاون
أو التعويض المادى لدول حوض النيل، وهذا موضوع كبير يحتاج عدة كتب لتوثيقه وشرحه
وتدوينه.
وكمثال كوميدى لاستغلال هذه المساحات حاليا، نجد أثيوبيا قد أعطت
الهند والسعودية وآخرين مساحات هائلة من مستنقعات مشار لزراعتها بالأرز على شكل
مستنقعات مزروعة لإهدار هذه الثروة المائية بدلا من استغلالها لتوفير المياه
لشعبها، ان كان هناك حاجة لذلك، بدلا من التصارع مع مصر على مياه النيل الأزرق وسد
النكبة.
وتفعل أثيوبيا نفس الشئ مع الأنهار الدولية المشتركة مع كينيا
والصومال حيث تقيم السدود الضخمة وتزرع مساحات هائلة من "قصب السكر"
لاستهلاك المياه.
أما فى مصر، فزراعة الأرز
والقصب يمثل للعالم إهدارا للمياه، بل الرى السطحي نفسه "عيب وحرام"
ويجب أن نأخذ قروضا من البنك الدولى لتطوير الرى وتوفير المياه. قصص كثيرة
وأهدافها واحدة، وصراعات ضخمة ومتعددة حول كل نقطة مياه تأخذها مصر تحت جميع
الأسباب والعلل التى تتحدث عن العدل، وهم يستخدمون كل المطر أو معظمه والبحيرات
والأنهار الفرعية والمستنقعات بالكامل، ثم يريدون لمصر أخذ ماتبقى لها من فتات
المياه، وبعد ضغوط نفسية واقتصادية هائلة.
0 تعليقات