آخر الأخبار

وعد بلفور: قصاصة ورق قبلت الحقائق والحقوق

 






في الثاني من نوفمبر 1917، كتب وزير الخارجية البريطاني آرثر بالفور رسالةً إلى والتر روتشيلد، وهو شخصيةٌ بارزة في المجتمع اليهودي البريطاني، معرباً عن دعم الحكومة البريطانية إنشاء وطنٍ لليهود في فلسطين. ويتألف النص من فقرة واحدة يُعرف باسم وعد بلفور.



كانت فلسطين، في ذلك الوقت، سنجقاً نائياً في الإمبراطورية العثمانية المفككة، التي كانت بريطانيا تخوض معها حرباً منذ عام 1914. وعلى الرغم من عدم تمتعهم بأي استحقاقٍ في المنطقة، نفذ البريطانيون الوعد دون استشارة سكانها البالغ عددهم 650 ألف نسمة، الذين يُشكل العرب ما نسبته حوالي الـ92% منهم (مسلمين ومسيحيين) و8% فقط من اليهود. ومع احتدام الحرب العالمية الأولى، كان العديد من الأشخاص في أوروبا مشغولون بأمورٍ أخرى ولم يلقوا بالاً، على وجه الخصوص، لهذه الجزئية من المناورة السياسية.



في واقع الأمر، بدأت قصة وعد بلفور قبل 20 عاماً. ففي عام 1897، عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الافتتاحي في بازل في سويسرا، بهدف إقامة دولةٍ يهودية. وكان التفكير القومي المشترك في تلك الأيام هو أن كل شعب يحتاج إلى وطن، وبما أن الصهاينة يعتبرون اليهود شعباً بلا وطن، فلا بد من العثور على وطن. كان المكان الأكثر منطقية لذلك، وفقاً للصهاينة، فلسطين.



ومن أجل تأمين مثل هذا الوطن اليهودي “بموجب القانون العام،” قدم مؤسس الحركة، ثيودور هرتزل، العديد من المقترحات إلى حكوماتٍ مختلفة في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. بدأ مع السلطان العثماني عبد الحميد، ولكن السلطان رفض المساعدة.



ثم اتصل هرتزل بالحكومة الألمانية، التي رفضت الأمر أيضاً. كما عرضت الحكومة البريطانية على هرتزل موقعاً في شرق أفريقيا، بيد أن قادة الحركة الصهيونية أصروا على أن فلسطين وحدها تعتبر “وطناً قومياً لليهود.”



بدى أن قضية الصهاينة لا قيمة لها إلى حدٍ كبير، إلى أن أعلنت بريطانيا الحرب على الإمبراطورية العثمانية في 5 نوفمبر 1914. وبحلول ذلك الوقت، اجتذبت الحركة الصهيونية المؤيدين والمتعاطفين في أوروبا والولايات المتحدة، وبدأت ترّكز جهودها على البريطانيين. وفي ديسمبر 1914، كتب هربرت صموئيل، الذي كان يشغل انذاك منصب رئيس مجلس الحكم المحلي في المملكة المتحدة، الذي أصبح في وقتٍ لاحق أول مفوض سامٍ في فلسطين ومتعاطفاً صهيونياً معروفاً، مذكرةً لرئيس الوزراء هربرت أسكويث بعنوان دولةٍ يهودية في فلسطين. فيها، صرّح صموئيل بـ:



“إن الوقت لم يحن بعد لإنشـاء دولـة يهوديـة تتمتـع بـالحكم الـذاتي في فلسطين (…).وقد يتلاشى حلم الدولة اليهودية المزدهرة والتقدمية، ومعقل المدنية المتألقة اثر سلسلة من النزاعات القذرة مع السكان العرب. وإني أؤكد لكم أن حل مشكلة فلسطين، الذي سيكون موضع ترحيبٍ كبير من قِبل زعماء ومؤيدي الحركة الصهيونية في جميع أنحاء العالم، سيكون بضم البلاد للإمبراطورية البريطانية… والمأمول أن يمنح الحكم البريطاني تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات والمؤسسات الدينية والتربوية، والتعاون في التطور الاقتصادي للبلاد. والمأمول أيضاً أن تعطى الهجرة اليهودية، بعد ضبطها بعناية فائقة، الأفضلية حتى يتمكن السكان اليهود مع مرور الوقت من أن يصبحوا أكثرية مستوطنة في البلاد وبذلك ينالون مقداراً من الحكم الذاتي وفقاً لما تتيحه الظروف القائمة فيما بعد.”



وفي الوقت الذي كان فيه هرتزل يضغط من أجل إنشاء وطنٍ يهودي في فلسطين، أدت النزعة القومية العربية إلى الرغبة في الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية. وإبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، قررت بريطانيا، التي كانت تدرك رغبات كلٍ من العرب والصهاينة على حد سواء، استغلال الوضع لتعزيز مصالحها الاستعمارية الخاصة.



وفي يوليو 1915، خطى هنري مكماهون، الممثل الأعلى لملك بريطانيا في القاهرة، أولى خطواته متقرباً للعرب من خلال حسين بن علي، شريف مكة. وفي سلسلة من عشرة رسائل تم تبادلها في الأشهر الستة التالية، وافقت بريطانيا على الاعتراف باستقلال العرب بعد الحرب مقابل مساعدة عربية في محاربة العثمانيين. حددت رسالة مكماهون في 24 أكتوبر 1915 حدود الدولة العربية المستقلة المقبلة، مع تحفظٍ بشأن المنطقة الواقعة “غربي ولاية دمشق وحمص وحماه وحلب.” وقد اعتبر العرب هذا التحفظ بأنه يعني ولايتي بيروت وجبل لبنان، وهو رأي وثقته بعد عقودٍ وثائق بريطانية سرية.



وعلى الرغم من هذه الاتفاقات، لم تكن بريطانيا تنوي التخلي عن الأراضي المحتلة للعرب. وخلال الحرب، لم تكن ثروات الحلفاء على الجبهة الغربية واعدة، وأصبحت بريطانيا تشعر بالقلق إزاء مصيرها. قام اثنان من أبرز السياسيين في البلاد والإمبرياليين الملتزمين، ألفريد ميلنر وليو آمري، بإيجاد حل. ففي مذكرةٍ إلى الحكومة البريطانية، اقترحوا احتلال أكبر قدرٍ ممكن يسمح به الوقت من الأراضي في فلسطين وبلاد الرافدين، لتعويض الخسائر المحتملة في أجزاء أخرى من الإمبراطورية البريطانية. أصبحت المذكرة محور التفكير الحكومي في المناقشات حول الوعد البريطاني للأهداف الصهيونية وفي التعامل مع الثورة العربية ضد الأتراك، وفي المفاوضات الحساسة مع الفرنسيين والأمريكيين.



وبالتالي، احتاج البريطانيون إلى هزيمة العثمانيين بدعمٍ من العرب مع الحفاظ في الوقت نفسه على موطىء قدمٍ في فلسطين، من خلال إنشاء وطن يهودي موالٍ لبريطانيا، كما تصوره صموئيل وميلنر وآمري. وكلا هذين الهدفين يخالفان الوعود التي قطعت للعرب. ومع ذلك، لم يردع هذا البريطانيين عن دعمهم للقضية الصهيونية. وفي رسالته المؤرخة في 2 نوفمبر 1917 إلى روتشيلد، كتب بلفور:



“إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.



كان لصيغة الرسالة مغزىً ذو أهمية، فقد صُنّف الفلسطينيون العرب، الذين يشكلون أكثر من 90% من السكان، على أنهم “طائفة غير يهودية” يجب احترام حقوقهم المدنية والدينية. ومن الجدير بالذكر أيضاً عدم وجود أي إشارة إلى حقوق العرب القومية أو حقهم في تقرير المصير.



وفي الوقت نفسه تقريباً، شرع البريطانيون بالاستيلاء على أجزاء من فلسطين، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، أصبحوا الحكام الفعليين لهذا الجزء من الشرق الأوسط. اصطبغ هذا الوضع الراهن بالصفة الرسمية عام 1920 من قبل عصبة الأمم التي شكلت حديثاً، والتي منحت بريطانيا ولايةً على فلسطين.



بدى أن وعد بلفور يتناقض بشكلٍ صارخ مع “مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الأربعة عشر،” وهي بيان لمبادئ السلام الذي أصبح برنامج عملٍ لمفاوضات السلام في فترة ما بعد الحرب، والإعلان المشترك الصادر عن الحكومتين البريطانية والفرنسية في 8 نوفمبر 1918، الذي أكدوا فيه لشعب سوريا وفلسطين وبلاد الرافدين أن سياسة الحلفاء كانت تهدف إلى “إنشاء حكومات وادارات قومية تستمد سلطتها من الممارسة الحرة، ومن مبادرة السكان الاصليين واختيارهم.”



كما أن وعد بلفور يتناقض مع ميثاق عصبة الأمم، سيما المواد المتعلقة بتقرير المصير، وبالتحديد الفقرة (4) من المادة (22) التي تنص على ما يلي:



“وصلت بعض المجتمعات التي كانت تتبع في السابق الدولة العثمانية إلى مرحلة من التطور، بحيث يمكنها التواجد كدول مستقلة معترف بها، وتخضع بصورة مؤقتة للمساعدة والنصح الإداري من قبل الانتداب إلى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه قادرة على النهوض وحدها. وتكون رغبات هذه المجتمعات هي العامل الرئيسي في اختيار الدولة المنتدبة.”



في الواقع، لم تلعب رغبات “هذه المجتمعات” أي دورٍ في خطط البريطانيين، إذ لم تتم استشارتهم قبل أو حتى بعد فرض الحكم البريطاني، بيد أن علامات الفشل كانت جلية. فمنذ البداية، عارض العرب الفلسطينيون بشدة وعد بلفور والإنتداب البريطاني التالي. فقد ذكر الجنرال جيلبرت كلايتون، كبير المسؤولين السياسيين في قوة المشاة المصرية البريطانية، في برقيةٍ إلى وزارة الخارجية في لندن في 18 نوفمبر 1918:



“العرب في فلسطين معادون للصهيونية بقوة وقلقون جداً من الأهداف الصهيونية. كانوا في السابق مؤيدين لبريطانيا في الأيام الأولى للاحتلال، لكنهم يظهرون ميلاً نحو ملك حجاز [الشريف حسين] والحكومة العربية في دمشق. ويرجع هذا الموقف إلى القناعة المتنامية بأن بريطانيا العظمى تتعهد بدعم البرنامج الصهيوني في مجمله.”



ذهبت لجنة لتقصي الحقائق، اقترحها الرئيس ويلسون، إلى الشرق الأوسط باسم عصبة الأمم. زاروا فلسطين في يونيو 1919 وقدموا تقريرهم بعد شهرين، الذي جاء فيه:



“يجب أن نذكر أن سكان فلسطين غير اليهود- ما يقرب من تسعة من عشرة من مجموع السكان- هم بالتأكيد ضد البرنامج الصهيوني برمته. تُبيّن الجداول أنه لا يوجد هناك شيء واحد يتفق عليه سكان فلسطين أكثر من هذا [الرفض]… وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا الرفض للبرنامج الصهيوني لا يقتصر على فلسطين فحسب، ولكن يتشاركه أيضاً بشكلٍ عام الناس في جميع أنحاء سوريا.”



وبعد قرنٍ من الزمان، لا يمكن المبالغة في أهمية وعد بلفور والسياسات التي رافقته. فقد مكّن الحكم البريطاني على فلسطين الهجرة الصهيونية بأعداد هائلة حتى أواخر الثلاثينيات، كما وضع هذا الأسس للصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. تمت التضحية بمصالح العرب الفلسطينيين لصالح مصالح بريطانيا الإستبدادية. وكما قال بلفور بصراحة في مذكرةٍ إلى الحكومة البريطانية في أغسطس 1919:



“نحن في فلسطين لا نرى حتى التمسك بالشكل في استشارة رغبات السكان الحاليين في فلسطين، وإن كانت اللجنة الأمريكية قد شرعت في سؤالهم عن رغباتهم. فقد التزمت الدول الأربع الكبرى بعهودها تجاه الصهيونية، ولا ريب في أن الصهيونية سواء أكانت على حق أم على باطل، وسواء أكانت طيبة أم شريرة، عميقة الجذور في تقاليدنا وفي حاجاتنا الراهنة، وفي آمالنا المقبلة، وهي أكثر أهمية لنا من رغبات السبعمائة ألف من العرب الذين يقيمون الآن في البلاد العريقة وأهوائهم.”

 

إرسال تعليق

0 تعليقات