"رأفت السويركي"
لماذا لا تكون الظاهرة التي ابتليت بها "الشوارع العربية"
في إطار "سيناريوهات الربيع العبروي المتصهين"؛ وتشكلت بإفراط في صورة
التجمعات والاحتشادات والتظاهرات والاعتصامات؛ وقطع الشوارع بالأحجار واحتلال
الميادين بالخيام؛ مع إشعال الحرائق في الإطارات وفي سيارات الشرطة كثيراً والجيش
أحياناً؛ تحدث استغلالاً غير مشروع لمشكلات مشروعات التنمية بالدولة العربية؛ غير
أنها كلها تمثل إحدى ظواهر "عصر التفاهة" و"الرأسمالية
العولموية"؛ حتى وإن أطلقوا عليها على سبيل المُخادعة لقب "ثورات"؛
وهي في حقيقتها تستحق أن تسمى "ثورات التفاهة"!!
*****
"الثورة" فعل سياسوي؛ له وزنه الكمي وبنيته التنظيموية؛
وعناصره الوازنة وإطاراته الإيديولوجية وآليات إحداثه؛ غير أن ما يحدث في
"الميادين العربية" مؤخراً من نوعية "الربيع العبروي" لا
ينتمي بأية صفة للحقل المقونن في "علم الثورات" بحساباته الاستراتيجوية.
هي ليست غير محض "فوضى القطعان" التي تتميز بالفعل العشواءوي؛ وما يشهده
من آلية اختراقات لها حساباتها من مستفيدين منها.
وبالتالي فظاهرة هذا الخواء في الحركة؛ يفضح أساسات التأسيس للعقل
النخبوي المتثورن راهناً بتفاهته البارزة؛ والذي يجري استصناعه وفق آليات
"ثقافة التفاهة المعولمة" المواكبة لآليات الهيمنة على سكان الكوكب
ونمذجتهم وفق شروط خاصة؛ عبر تعميم الفوضى فعلاً، بتدمير لأنماط الأوطان المستقرة،
وتدويرها بإعادة صياغتها وفق التصورات الخادمة لأطوار الرأسمالية المتعولمة
الجديدة.
وهذا يتحقق بتنفيذ أولى ثوابتها عبر إسقاط أو إبادة الشعور بالوطن
مظلة جامعة لمواطنيه؛ بمفاهيمه المرتكزة على أضلع "الأرض والهوية والثقافة
والوجدان المتشكل"؛ وإحلال الثابت البديل الجديد ليكون "الوطن
الافتراضوي" المستهدف هو "الشركة/السوق العولمية الجامعة للمستهلكين
مواطنين عولمويين؛ هويتهم الفضاء المفتوح؛ وتتحكم في مشاعرهم ورغائبهم وتوجهاتهم
الإشارات و"الرسائل السيبرانتية" عبر "السيرفرات الحاكمة
الضخمة" وأخلاقويات فضاءات التواصل الاجتماعوي غير المنضبطة وغير المتحكم في
قيمها.
*****
وفي إطار استراتيجيات بناء هذه النماذج للسيطرة عليها؛ يتم إعادة
ترويج الاستراتيجية القديمة التي أسسها طور الرأسمالية البريطانية القديمة بقاعدة
"فرق تسد" التي يجري استزراع مفاهيمها نفسها باختلاق وتنمية حالات
التضاد مع آليات حماية نظام وبناء الدولة الوطنية؛ وأبرزها "المؤسسات
العسكريتارية" الوطنية؛ والإيهام بديكتاتوريتها؛ والترويج لاعتبارها
"المستعمر الآخر" الذي يحتل الأوطان؛ ويقوم باستغلالها منذ مرحلة التحرر
الوطنوي؛ تلك التي انتجت أيقونات حقيقية منها "جميلة بوحيرد"
و"جيفارا" و"مصطفى كامل" و"ناصر"... إلخ.
وبالنتيجة يجري استصناع وتعميق صورة الديكتاتور الذي يرتدي البزة
العسكرية (ناصر والسيسي وحفتر والبرهان ويضاف إليهم قيس سعيِّد)؛ والترويج لرفض
وجود هذا النموذج؛ فيما هو الذي يمثل واجهة المؤسسة المحكومة بضوابط عميقة أهمها
الحفاظ على كيان الوطن؛ ورقعته الجغرافية والجيواستراتيجوية ومواطنيه؛ وإحلال
"البديل التافه" من أجيال لا تمتلك المعرفة الأصيلة بمعاني المفردات
التي تستخدمها؛ على الرغم من توافر إمكانية حصولها على المعرفة العميقة؛ غير أنها
تفتقد لجَلَد التحصيل؛ فاستصنعت نماذج متهافتة من الأيقونات الهشة.
ومن هذه النماذج المتهافتة التي ترتبط بفوضى الشوارع والميادين:
"البوعزيزي التونسي" الذي أشعل النيران في جسده احتجاجاً؛ و"خالد
سعيد المصري" الذي مات بعد أن ابتلع مخدر البانجو؛
و"الكنداكة/القنداقة... آلاء صلاح السودانية" فقط لأنها قفزت فوق سقف
سيارة لتغني "شعبي يريد" فيردون عليها"ثورة"؛ و"عبد
الباسط الساروت السوري" لاعب الكرة؛ والذي صار منشداً ثم انضم للميليشيات
السورية؛ و"فدوى سليمان السورية" الممثلة الهاربة إلى فرنسا؛
و"هيثم التاجوري الميليشياوي الليبي" الموصوف بنجم الموضة للأزياء التي
يرتديها!!
*****
ولأننا في "عصر التفاهة "؛ فإن تلك الظاهرة الفوضوية
تتلبسها كل أنماط التفاهة في "الفعل" و"الحركة"
و"الخطاب" و"المنتوج" المتحقق في الميادين؛ والشوارع وبالتالي
المجتمعات والدول.
** في "الفعل" تبقى ظاهرة الفوضى عاجزة عن إحداث أية
تغييرات في بنية المجتمعات؛ وموازين قواها المعبر عنها سياسوياً بالطبقات
وارتباطها بأنماط الإنتاح؛ ويبقى هذا العجز متواصلاً حتى وإن حدث اهتزاز أو حراك في
البنية الفوقوية للمجتمعات!!
** في "الحركة" تبقى هذه الظاهرة أيضاً قاصرة عن حسم
تحقيق مطلوبها السياسوي بما تحمله في نمطها من عوامل تداعيها مع فقدانها معايير
القوة الضاغطة والقادرة على إحداث التغييرات المطلوبة بكفاءة الفعل وقدراته!!
** في "الخطاب" تبقى هذه الظاهرة متهافتة المنطوقات؛
وتصيب بالملل لدى التأمل والدراسة والتقويم؛ فهى تلوك شعارات "روتينية"
دالة على "فقر الفكر" لـ "نُخب المقاهي" المنتجة لهذا الخطاب؛
والتي تعتمد على استهلاك شعارات انتجها وصدرها العقل السياسوي الغربوي المهيمن على
العالم مثل: "الديموقراطية"؛ و"حكم العسكر"؛ و"عيش...
حرية... كرامة إنسانية"؛ و... إلخ.!!
** في "المنتوج" تبدو هذه الظاهرة تجسيداً لظواهر
"السراب السياسوي"؛ والذي يعكس في الواقع "متوهمات المخادعة
بالتغيير" وهو غير موجود بنيوياً؛ ليكون ذلك المنتوج في الواقع يمثل كمن
يشاهد بحيرة الماء الوفير في الصحراء الجرداء؛ وهي لا وجود لها!!
*****
وأمام فقر فعالية هذه الظاهرة الدالة على هيمنة "فكر
التفاهة" في "زمان التفاهة" الشاملة في التكوين الموصوف بـ
"دول العالم الثالث"؛ وتمكنها من تلابيب عقول النخبة الفاعلة بها على
الأصعدة المختلفة؛ يتضح أنها تمثل أحد أدوات تفكيك التماسك في منظومات الدولة
الوطنية الراهنة؛ مع ارتباطها بما يسمى فعل "الفوضى الشعبوية" بمسمى
"ديموقراطية الصناديق" والتي يجري تحشيد عناصرها في الشوارع والميادين
من الشباب الصغير والأطفال كذلك والنساء كـ"سواتر"؛ استغلالأ لغياب
الوعي السياسوي الناضج لهذه النخب؛ بحكم هيمنة "فقر الثقافة والمعرفة"
المهيمنة راهنا.
والمؤسف أن سهولة وتيسيير التواصل الاتصالوي عبر التكنولوجيا
الهواتفوية وفضاءات التواصل الاجتماعوي "فيسبوك وتويتر" قام بتيسير
عملية التحشيد والتوجية والتجميع للقطعان الشعبوية؛ والتي في أغلبيتها لا تمتلك
وعياً فكرانياً عميقا بقضايا الواقع والعالم. وتنحصر اهتماماتها فقط فيما تعيشه؛
وما يروج له الفضاء الافتراضوي حول الواقع المعيشوي من نوعية الغلاء في الأسعار؛
ومدى وفرة فرص العمل؛ ووجود التعطل... إلخ وهي الحالة الفاعلة في عمليات التحشيد
المشهودة للفوضى الممهورة بتسمية "ثورات الربيع".
*****
وهذه الحالة النمطوية تجدها متماثلة في جميع الشوارع والميادين
والزنقات بكل بلدان "الإقليم العربي"؛ من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى
غربه؛ (سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر
أنموذجاً) خاصة في الأقطار العربية غير الخليجية؛ والتي تتصف بكثافة بشرية مخيفة؛
وتفاوت في مستويات المداخيل؛ نتيجة اعتلالات البنية الاقتصادوية المرتبطة بالتبعية
التي تتصف بها المنطقة كلها.
- نخب متوسطة سنوات العمر تفتقد أساسات الفهم السياسوي للمشكلات
البنيوية التي تمر بها أطوار الدولة الوطنية؛ منذ انتقالاتها بعد مرحلة التحرر
الوطنوي من الاستعمار التقليدوي القديم.
- هيمنة فكر التفاهة في المستويات الثقافوية والتعليموية
والسياسوية؛ على أغلبية الشرائح النخبوية لاختلالات المشروع السياسوي للأنظمة
المسيرة لشؤون المشروع السياسوي الوطنوي.
- ترهل وتفاهة التنظيمات الحزبوية في كافة البلدان؛ والتي تعجز عن
تقديم مشروعات سياسوية ناضجة ببرامجها الاقتصادوية والثقافوية؛ فتتميز بالنمطوية
في الفعل والحركة؛ وحين تتمكن تلك التنظيمات من كراسي الحكم يتأكد فشلها بالتجربة
(تكوينات الأحزاب المتأدلجة وكذلك المتأخونة المستترة في تونس والمغرب وليبيا
والسودان أنموذجاً).
- تمكن حالة العداء المستحكم بين هذه النخب؛ نتيجة ضلالتها
السياسوية وبين المؤسسات العسكريتارية الوطنية؛ المنوط بها تحمل مسؤولية الحفاظ
على نظام الدولة في المنطقة من الاستهداف المستحدث في إطار مشروع "سيناريوهات
الربيع العبروي المتصهين"؛ والتحديات المحيطة بالأوطان سواء من الداخل وكذلك
الخارج.
- اندراج هذه النخب الطفيلوية سياسوياً في إطار مشروع
"القطعان الشعبوية" التي يحركها الفعل من خارجها بافتقادها للوعي يجعلها
تُساق بسهولة للتجمع والتجمهر؛ والانفلات الخارج على قوانين الضبط الاجتماعوي؛
متسببة في تكريس القلق المتنوع لأجهزة الدولة فتتحرك لحماية الهدوء والاستقرار
الوطني.
- وما أن تفلح تلك النخب في التحشيد والتجمهر؛ تبدأ ممارسة فعاليات
الضغوط المعروفة والتقليدية لهز الاستقرار في أوطانها؛ تحت الظن المتوهم بأنها
ستفلح بالتحشيد وحرق الإطارات في "تغيير الأنظمة القائمة" التي تعتمد
على الأغلبية من أفراد الشعوب والمؤسسات العسكريتارية؛ لتأتي بأنظمة جديدة تتوهم
أنها ستحقق منظومة مطالبها؛ بـ"سلاح الشعارات" التي رفعوها في الشوارع
والميادين؛ مثل الديموقراطية والعيش والحرية والدولة المدنية!!
- والمؤسف الذي لا تدرك مخاطرة تلك النخب "المكلمنجية"؛
والمتمولة في أحيان كثيرة من "جمعيات حروب الجيل الخامس" أن كل تجاربها
المشهودة فاشلة فاشلة فاشلة؛ ولم يتحقق أي منجز كانت تروج له (مصر وتونس أنموذجاً)
على الرغم من اختلاف النمطين؛ فلا تزال "الدولة الوطنية" قائمة بحماية
جيوشها؛ والتفاف أغلبية مواطنيها حول هذه الجيوش.
- والظاهرة الجديرة بالملاحظة والتي تشكلت بعد "فوضى الربيع
العبروي" بتمكن وصعود بعض التيارات "جماعة حسن الساعاتي البناء الصهيوماسونية
أنموذجاً" لمقاعد الحكم؛ سرعان ما انفضت الجماهير من حولها بعد استرداد وعيها
المسلوب بالتجربة؛ فأطاحت بها عبر صناديق الانتخابات ( مصر وتونس والمغرب
أنموذجاً)؛ وهو ما يفضح دور تلك الحركة في التحشيد؛ نتيجة مخادعة الجماهير بأنها
"جماعة تقية"؛ وهي أبعد ما تكون عن ذلك.
- وما يعد من ظواهر خطورة التحشيد في الشوارع عبر كل تلك الجماعات
النخبوية المتنوعة الانتماءات هو المخادعة برفع "شعارات السلمية"؛ والتي
تنتهي في الأغلب بسقوط بعض الضحايا قتلى للعنف الخفي الممارس؛ عبر إطلاق الرصاص
عليهم من قناصة مكلفين بالمهمة القذرة؛ لزيادة تأليب الجماهير ضد جيوشها وفرق
أمنها؛ كوسيلة لإنتاج نوعية من اللطميات التي تشوه جهود حماية الدول من الانهيار؛
والادعاء أن الجيوش الوطنية والأمنية هي التي أطلقت الرصاص على الضحايا لمزيد من
"التهييج" ( الحالة المصرية والسودانية واللبنانية إلخ أنموذجاً)!!
- ولا يتوقف الأمر
عند سقوط ضحايا بأعداد محدودة؛ ولكن يصل إلى تعميم إشعال الحرائق سمة تترافق وتلك
التحشيدات؛ فضلاً عن اقتحام المحال التجارية بوساطة من يسمونهم
"البلطجية" وسلبها مما بها من أغراض؛ فما يكاد يقوم شخص محدد مدفوع
بالاعتداء على منشأة معينة؛ حتى يجري تعميم ظاهرة اقتحام وحرق المنشآت وأقسام
الشرطة والمحاكم والكنائس والمجمع العلمي على سبيل المثال؛ بعد أن تهيمن مسلكيات
القطيع على المحتشدين؛ فتعم الفوضى والحرائق وظاهرة السلب والنهب المتنوعة في
الشوارع (ما تُسمى جمعة الغضب بمصر أنموذجاً).
-
*****
هذه هي بعض نتائج سيناريوهات فوضى "الربيع العبروي"
المتصهين؛ التي يسمونها "ثورات" ولا تمتلك نخبها أية معارف أو خبرات
عملياتية أو مشروعات تمثل آليات التبشير بـ "نقل نظام الدولة القائم إذا كان
معتلاً" إلى نموذج أكثر تطوراً مما سبقه.
وبالتجربة التي نشاهدها في الواقع فإن "ثورات التفاهة"
لم تكن غير محض "احتشادات عشواء"؛ و"شعارات جوفاء"؛
و"ممارسات خرقاء"؛ وتأملوا في الراهن الذي تعبر عنه تلك التظاهرات
المتضاربة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في الشارعين السوداني والتونسي؛ بما سُمي
الانقلاب العسكري للبرهان؛ وما ُسمي "الانقلاب المدني" لقيس سعيِّد؛ و
كلاهما في الحقيقة قد تحرك بشجاعة لإنقاذ وطنه من التدمير!!
0 تعليقات