عاطف معتمد
في الصورة الأولى يمسك آبي أحمد أسلحة تقليدية في زي احتفالي أشبه
بالأعراس، الصورة التي يظهر فيها العريس "آبي" كانت في عام 2019 حين كان
نجما ساطعا بعد حصوله على جائزة نوبل.
الدرع القبلي البدائي الذي يمسكه آبي أحمد في يسراه يرمز للقتال
والبسالة عند قبائل البحر الأحمر ، ولدينا مثيله عند قبائل "البشارين"
من أهلنا في جنوب شرق مصر.
يعد "البشارين " في مصر شطرا مهما من شعب البچا الذي
يشغل الساحل الغربي للبحر الأحمر الممتدة خريطته من الحبشة في الجنوب إلى مصر في
الشمال.
كما أشرت في مقالات سابقة، كلمة الحبشة هنا ذات دلالة بالتركيب
العرقي، إذ يذهب المؤرخون إلى أن هذه الكلمة العربية مصدرها "حبش" وتعني
"خليط من الأقوام والشعوب".
وليس في كلمة "خليط" أية إهانة، بل لأن الإقليم جاءته
موجات متباينة من هجرة القبائل والشعوب من اليمن ومن شرق إفريقيا.
ما الذي يحدث في إثيوبيا هذه الأيام في نوفمبر 2021؟ كيف انقلبت
الموازين وتمكنت حركة المعارضة المسلحة من إقليم تيجراي من تنظيم صفوفها ورد
هزيمتها والزحف نحو العاصمة؟
لماذا حذف فيسبوك منشورا لآبي أحمد ينادي فيه بدفن مقاتلي التيجراي
الزاحفين على المدينة؟ ألا يدافع الرجل الحائز على جائزة نوبل عن عاصمة بلاده؟
وفقا لوكالات الأنباء تمكنت قوات تيجراي من إسقاط مدينتي
"ديسي" و"كومبولوتشا" والسيطرة عليهما بعد معارك شرسة، وهو ما
يعد تمهيدا للطريق زحفا إلى العاصمة.
ما أسرع الأحداث في منابع النيل الحبشية وما أعقد الخريطة العرقية.
فقبل عام بدأ صراع عرقي وقع بسببه آلاف القتلى وتشرد ملايين آخرون.
جاء الصراع بسبب ما سعى إليه آبي أحمد مما سمى إصلاح سياسي في
البلاد وتمكنت قواته المركزية من سحق التمرد الذي قام به إقليم تيجراي الرافض لإصلاحاته.
لكن ها هو العام ينقضي وتنقلب الكفة ويزحف المتمردون نحو العاصمة بعد توحيد صفوفهم
وتلقيهم دعما خارجيا على ما يبدو.
كثيرا ما توصف إثيوبيا - على سبيل التشجيع والمجاملة - بأنها
سويسرا إفريقيا، ويعود ذلك في المقام الأول إلى طبيعتها الجبلية الخلابة وتنوع
بيئتها الإيكولوجية. ويبالغ البعض فيرى إثيوبيا نموذجا لتحقيق التقدم القائم على
مفهوم "الوحدة من رحم التنوع".
لكننا ما زلنا في إثيوبيا في مرحلة صراع الأعراق، وكما تبين
الخريطة المرفقة مع هذا المنشور تتألف إثيوبيا من 8 أقاليم عرقية هي: 1
- الإقليم
الصومالي 2- أوروميا 3- تيجراي 4- أمهرا 5- إقليم بني شنقول جوموز 6- جمبيلا، 7-
شعوب الجنوب، 8- العفر.
حين كتبت في مثل هذه الأيام العام الماضي أشرت إلى أن هذا النظام
الفدرالي يخفي تحته أحقادا قديمة. فالحرب الأهلية في إثيوبيا التي بدأت العام
الماضي تتخذ من النظام الفدرالي سببا وذريعة وتقول إن آبي أحمد يستحوذ على السلطة
المركزية ويحرم الأقاليم خصوصيتها.
جاءنا مصطلح فدرالية من الجذر اليوناني لكلمة "فويدوس Foedus " وهي ليست غريبة عن كافة المجتمعات
القديمة بل ومجتمعات الجاهلية، إذ تعني الفدرالية حرفيا "عهد" أو
"اتفاق".
النظام الفدرالي الذي يجمع في إثيوبيا مقاطعات متميزة عرقيا كان
عهدا أو اتفاقا أخيرا لضمان بقاء هذه الشعوب معا تحت سماء دولة واحدة بدلا من
القتال والنزاع والانفصال.
الفدرالية نظام ماكر عجيب غريب، مثله مثل لعبة الانتخابات
والديموقراطية الشكلية. فالمكتوب في المستندات والعهود والاتفاقات يشير نظريا إلى
أنه من حق أي إقليم أو مقاطعة في النظام الفدرالي أن ينسحب من هذا العهد أو
الاتفاق إن رغب بعد فترة زمنية من تطبيقه.
لم يفعل إقليم تيجراي العام الماضي إلا تطبيق الفدرالية فرفض
سياسات أبي احمد وقرر أن الأفضل له الانفصال عن الاتحاد. هل يتركه أبي أحمد يقرر مصيره
منفصلا؟
هبت العام الماضي أديس أبابا ضد انفصال التيجراي خوفا بالقطع من أن
انسحاب أي عضو في الاتحاد الفدرالي سيكون له أثر العدوى، يصيب بقية الأقاليم
الفدرالية بنفس المطالب وتتفكك الدولة لا محالة.
تسعى النظم المتقدمة إلى إقناع الأقاليم الفدرالية بعدم الانسحاب
من خلال تقديم إغراءات كثيرة من الحكومة المركزية. أما الدول المتأخرة القادمة من
ميراث الضغائن فتلجأ – كما فعل أبي احمد العام الماضي – إلى الوسيلة الأسرع وهي شن
حرب على الإقليم المتمرد مستعينا بالأقاليم التي على خلافات قديمة مع التيجراي
خاصة شعب الأمهرا المجاور.
آبي أحمد الحائز على نوبل للسلام بفضل إنهائه الحرب مع إريتريا
ينشر على فيسبوك أمس مناشدة لسكان أديس أبابا بقتل ودفن المتمردين الزاحفين على
العاصمة، حذف فيسبوك المنشور بعد أن أشارت مصادر عدة إلى أن العنف في إثيوبيا
ساهمت فيه حملات كراهية عبر وسائل إعلام عديدة من بينها منشورات فيسبوك.
بالنسبة للسؤال الذي جاء عنوانا للمقال: هل تسقط أديس أباب ويتم
التخلص من آبي أحمد؟
الإجابة على الأرجح بالنفي، والأرجح أن ما سيحدث هو تكريس الحرب
الأهلية واستنزاف الشعب الإثيوبي الفقير الذي تعيش ملايين منه بين التشرد والجوع،
وتأتي الحرب الحالية لتزيد أزمته وضوحا.
وكما قلت في مداخلة لي الأسبوع الماضي في إحدى الندوات التي عقدت
في وسط القاهرة عن أزمة سد النهضة:
"كلما تكرست الأزمة الداخلية في إثيوبيا وشعر آبي احمد بخطر
طرده من السلطة وسقوط سياساته كلما زادت المبالغة في تحويل معركة سد النهضة إلى
معركة وجود يوهم فيها الشعب الإثيوبي أنه يصنع لهم مستقبلهم ببناء السد السحري
الذي - بكل أسف - سيسبب مشكلات بنيوية لكل من مصر والسودان، ولن يخفف في نفس الوقت
من مخاطر الحروب الأهلية بين الأعراق في البلاد التي تواجه جذورا استبدادية
واستحواذا مركزيا وأحقادا قديمة ونعرات ثأرية دموية".
الخاسر الأكبر من كل ما يجري الآن هو شعب إثيوبيا الشقيق الذي لا
يختلف عن شعب مصر والسودان في معاناته من الماضي ورغبته في الوصول إلى حياة آمنة
كريمة ينجو فيها من الفقر والجهل والمرض ويرى فيها النور لمستقبل أفضل في حوض
النيل العظيم الذي بوسع مياهه–إن أحسنا إدارتها وتوزيعها والتعاون المتشارك فيها –
أن تكفي كل شعوب الحوض.
0 تعليقات