آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! الشرف البريطاني (5)

 


 

 

نصر القفاص

 

ينتصر أصحاب الضمائر الوطنية للتاريخ أحيانا.. ويكسب الذين يتاجرون بالتاريخ كثيرا.. بينهما ترتبك الأغلبية من الشعوب.. تضيع الحقائق إذا أصبح "الأراجوزات" يمثلون الأمة.. وتلك حالة يصنعها صاحب السلطة, أما الحاكم الحقيقى فهو يصنع قيمته وتطول قامته.. عندما يعتمد على العلماء والمثقفين, ويحترم المبدعين.. فتجده يجيد "فن الإصغاء" ويمارس "فضيلة الصمت", وإذا تكلم فهو ينثر معرفة.

نذكر يوم 4 يونيو عام 2009, حين وقف الرئيس الأمريكى "باراك أوباما" على مسرح القاعة الكبرى بجامعة القاهرة.. اختار فى هذا اليوم مخاطبة مصر والعالم العربي والدول الإسلامية.. سمعناه يقول مخاطبا "بقايا النخبة المصرية" وكانوا أمامه بالمئات: "أسمحوا لى أن أتحدث بوضوح, وأقول بكل صراحة.. لا يمكن لأى دولة.. ولا ينبغى لأية دولة.. أن تفرض نظاما للحكم على دولة أخرى.. ولن يقلل ذلك من التزامى تجاه الحكومات, التى تعبر عن إرادة الشعب.. وسيتم التعبير عن هذا المبدأ فى كل دولة وفقا لتقاليد شعبها.. إن أمريكا لا تفترض أنها تعلم ما هو أفضل شىء بالنسبة للشعوب.. كما أننا لا نفترض أن تكون نتائج الانتخابات السليمة هى النتائج التى نختارها"!!

 

صفق الحضور من "بقايا النخبة" الذين نالوا شرف دعوتهم, لكى يسمعوا كلام رئيس أكبر وأقوى دول العالم.. وأصاب كلامه إعجاب السلطة الحاكمة والذين حولها.. وأغلبهم – لا أقول كلهم – لم يدرك أن "السيد الأمريكى" يكذب!! ولعلهم فهموا بعد سقوط أنظمة ودول واحدة بعد الأخرى!!

 

الكلام كان يعكس منهج استعمار.. ومن لا يقرأ لن يفهم!!

 

المعانى نفسها قالتها "بريطانيا العظمى" حين جاءت لتحتل مصر عام 1882.. كررها قادة وزعماء من الذين يحترفون استعمار الشعوب.. فقد كانت مصر تبحث عن نفسها, قبل أن تسقط فى أيدى المستعمر البريطانى.. طلبت مصر أن يكون لها جيش ودستور ومجلس نيابى.. وكلها من المحرمات عليها, وعلى أى دولة تبحث عن استقلالها.. لن أطيل الوصف والشرح.. الحقائق والمعلومات كفيلة بالرد على "خدم الملكية والاستعمار" الذين يتقاضون ثمن إقناعك بأنه لا توجد "نظرية مؤامرة" وهم أصحاب دم خفيف وأسلوب رخيص,, يقبله الذين يفكرون ببطونهم فقط!!

 

نضجت "طبخة احتلال مصر" عام 1882, باتفاق من كانوا يمثلون القوى العظمى وقتها.. وافقت "الدولة العثمانية" على التفريط فى وطن احتلته منذ عام 1517, ووقعت ما أسموه "ميثاق النزاهة" وتركوا "أصحاب الشرف البريطانى" يضعون أيديهم على مصر!!

 

قبل أن يتحرك الأسطول البريطانى لاحتلال مصر.. ذهب السير "هنرى اليوت" قنصل انجلترا فى "الآستانة" لكى يقول للسلطان العثمانى: "ليس فى انجلترا حزب لديه أقل رغبة فى الاستيلاء على مصر"! وبعدها أعلن السير "إدوارد مالت" قنصل انجلترا العام فى مصر: "إن حكومة جلالة الملكة, لا ترمى لغير حفظ سيادة الباب العالى وحقوق الخديوى.. وبريطانيا لا ترغب فى احتلال مصر وضمها"..

 

ولتأكيد المعنى ذاته.. ولحظة أن كان الأسطول والجيش البريطانى قد شرعا فى احتلال مصر.. بعث وزير خارجية انجلترا "اللورد جرانفيل" رسالة إلى السير "إدوارد مالت" قنصل انجلترا فى مصر يوم 4 نوفمبر عام 1881 يقول فيها: "ليس لحكومة جلالة الملكة غرض سوى سعادة مصر, وتمتعها بكامل حريتها التى نالها الخديوى بموجب الفرمانات العديدة.. وباستقلالها الإدارى الذى ضمنه السلطان لها.. وانجلترا تناقض أعز تاريخها القومى, إذا هى رغبت فى انتقاص حرية مصر"!!

 

تتغير الألفاظ والكلام واحد.. يتغير حكام دول الاستعمار والمنهج واحد!!

 

قال "أوباما" فى جامعة القاهرة ما اكتشفت أنه تقديم لسيطرة "جماعة الإخوان" على مصر.. وسبقه بأكثر من قرن ونصف ما قاله زعماء بريطانيا فى تصريحات علنية ورسائل رسمية, قبل تنفيذ عملية احتلال مصر.. كل هذه تصريحات ورسائل أصبحت وثائق تحفظها ذاكرة التاريخ.. لكن ذاكرتنا لا تحمل أكثر من ثرثرة تتقاطع وتتوازى وتتناقض أحيانا!!

 

تمهيد بريطانيا لإجهاض رغبة مصر فى أن يكون لها دستور وبرلمان.. كان يسبقه دائما القسم بالشرف البريطانى أنهم لا يفكرون فى احتلالها.. وضمن الوثائق سنجد أن "اللورد جرانفيل" وزير خارجية بريطانيا.. إستدعى "موزوروس باشا" سفير تركيا فى لندن يوم 4 اكتوبر عام 1881 ليقول له: "بالرغم من جميع الشائعات والشكوك, فنحن ليس لنا رغبة فى أن نعمل لاحتلال مصر أو ضمها.. لكننا نرغب فى حفظ حقوق السلطان فيها"!!.. ولتجويد "الكذب" سنجد أن "اللورد جرانفيل" وزير خارجية بريطانيا, إستدعى يوم 19 أكتوبر عام 1881 سفير روسيا فى لندن لكى يبلغه رسميا: "ليس لحكومة جلالة الملكة مطمع فى مصر"!! وذهب "اللورد ليونس" سفير انجلترا فى فرنسا لكى يلتقى "دى فرنسينيه" رئيس الوزراء لكى يبلغه بأن: "حكومة جلالة الملكة تمقت كل تدخل حربى فى مصر"!! وبعد كل هذا تعلن الملكة "فيكتوريا" فى خطبة العرش البريطانى يوم 7 فبراير عام 1882 بوضوح: "سأبذل كل ما أملك من نفوذ, للاحتفاظ بالحقوق التى قررتها الفرمانات والاتفاقات الدولية.. لكى تملك مصر إدارة حسنة مع ترقية نظامها"!! وبعدها بأيام يعلن وزير الخارجية البريطانى, فى 20 مارس عام 1882 أن: "الحكومة الانجليزية متفقة مع الحكومة الفرنسية على تجنب التدخل الفعلى فى مصر أو احتلالها حربيا"!!

 

كل هذه الأكاذيب الرسمية كانت إعداد وتمهيد لاحتلال مصر.

 

ذهبت بريطانيا إلى تجويد الكذب وتوثيقه.. وقعت يوم 25 يونيو عام 1882 ما أسمته "ميثاق النزاهة" مع كل من فرنسا وألمانيا والنمسا والمجر وروسيا وايطاليا فى "الآستانة" وجاء فى هذا الميثاق الآتى: "تتعهد حكومات هذه الدول بتسوية المسألة المصرية.. وأن الاتفاق لا يهدف إلى احتلال أى جزء من أراضى مصر.. ولا الحصول على امتياز خاص بها.. ولا نيل امتياز تجارى لرعاياها ولا لرعايا الحكومات الأخرى" ووقع على هذه الأكاذيب كل تلك الدول أمام السلطان العثمانى.. ثم كان احتلال مصر.. وكانت سخرية "خدم الاستعمار" من "نظرية المؤامرة"!!

 

إستمر الكلام – الكذب – مع بداية عملية احتلال مصر.

 

وزير الخارجية البريطانى كلف "اللورد دوفرين" سفير بلاده فى الآستانة, أن يسلم السلطان العثمانى برقية تحمل فى محتواها: "انجلترا لا تسعى فى مصر وراء هدف شخصى, لا يتفق مع مصالح اوروبا.. وليس لها غرض ينافى مصالح الشعب المصرى"! حدث ذلك وقت أن كانت المدافع تدك الإسكندرية, وتشتعل فى كفر الدوار.. ووقت التخطيط وتنفيذ المؤامرة للالتفاف على الجيش المصرى عبر قناة السويس.. وقبل أن تتكشف خيانة "على خنفس" وآخرين.. ولحظة أن ظهرت بوادر حسم المعارك.. صرح وكيل وزارة الخارجية البريطانية – السير شالس ديلك – يوم 18 يوليو 1882 للصحف قائلا: "إن الجنود الذين نزلوا إلى البر, مهمتهم حفظ الأمن فى الإسكندرية".. وبعدها بساعات وقف رئيس الوزراء البريطانى أمام مجلس العموم فى بلاده.. ليقول: "ليس لبريطانيا العظمى مطامع فى مصر.. ونحن لم نرسل جنودنا إلا لإعادة الأمن, ولكى نعيد للخديوى سلطته التى فقدها.. ونحن ننوى تسوية المسألة المصرية.. تسوية نهائية"!! بعدها تحدث "السير شارلس" أمام مجلس العموم البريطانى يوم 25 يوليو 1882, وقال: "إن رغبة حكومة جلالة الملكة هى أن تترك المصريين وشأنهم, بعد تحرير مصر من الطغيان العسكرى.. ونحن على يقين بأنه خير لانجلترا ولمصر أن تقوم فى مصر حكومة حرة.. لا حكومة مستبدة.. نحن لا نريد أن نلزم مصر بنظم نختارها لها.. بل نريد أن ندعها تختار ما تشاء.. والشرف يفرض علينا أن نحترم النظم الحرة التى نفخر بها"!!

 

الكلام الذى تردد فى مجلس العموم البريطانى يوم 25 يوليو 1882.. هو نفسه الكلام الذى قيل تحت قبة جامعة القاهرة يوم 4 يونيو 2009

قبل عشرات السنوات كان الكلام بلسان بريطانى.. وقبل أكثر من عشر سنوات سمعناه بلسان أمريكى.. دائما يقولون أنهم لا يلزمون مصر بنظم يختارونها هم.. والحقيقة أنهم يحاربون كل نظام يدافع عن مصالح بلاده وشعبه.. إذا دافع الجيش عن دستور وبرلمان وسيادة دولة, فهؤلا عندهم "المصريين العصاة" الذين يحاولون فرض "الطغيان العسكرى"!! وكانت اللغة نفسها التى حاربوا بها "جمال عبد الناصر" حيا وميتا.. وكان المنهج نفسه الذى جعلهم يباركون كل نظام حكم بعده!! ونعلم أنهم حين فرضوا حكومة يشكلها "مصطفى النحاس" على الملك "فاروق" يوم 4 فبراير 1942 بالمدفع والدبابة.. وقالوا أنهم يحمون الديمقراطية!!

 

تلك هى الحقيقة التى يحفظها التاريخ فى مذكراته.

 

وهذا هو "الشرف البريطانى" الذى تحدث عنه "جلادستون" رئيس الوزراء البريطانى يوم 9 أغسطس عام 1882 أمام مجلس العموم: "الحكومة البريطانية لم تفكر فى ضم مصر, لأن هذا العمل يمس شرف انجلترا"!! وباسم هذا "الشرف" سقطت مصر من احتلال عثمانى, إلى احتلال بريطانى.. إستمر أكثر من سبعين عاما.. وحين انتزعت مصر استقلالها بعد "ثورة 23 يوليو" وفرضت إرادتها وسيادتها.. دارت "ماكينات الكذب وتزوير التاريخ" لتحدثنا عن "ضياع سيناء"!! والثابت أن "سيناء ضاعت" عام 1956 بالعدوان الثلاثى, وتم استردادها بعدها بشهور قليلة دون توقيع اتفاقية سلام.. ثم ضاعت سيناء عام 1967 وأعلن "جمال عبد الناصر" أن: "ما أخذ بالقوة.. لا يسترد بغير القوة" وقال فى لحظة هزيمة عسكرية اللاءات الثلاث.. "لا صلح.. لا تفاوض.. لا اعتراف" وبعد الانتصار العسكرى فى حرب اكتوبر 1973.. حدث الصلح والتفاوض والاعتراف!!

 

منهج الاستعمار يقوم على قلب الحقائق.

 

هدف الاستعمار هو دفع الشعوب إلى غيبوبة. يتحقق ذلك حين ننسى التاريخ, ولا نقرأ الوثائق.. وكل هذا يحدث تحت "لافتة الديمقراطية" فى زمن مضى.. وتغيرت اللافتة إلى "حقوق الإنسان" فى الزمن الأمريكى.. وكشف هذه الوثائق يضعنا على بداية استرداد "الوعى المفقود" إن شئنا أن ننتصر فى معركة الوعى.

 

إستمر "الكذب" باسم "الشرف البريطانى" ومازالت فيه تفاصيل كثيرة.. فما كان خافيا انكشف بوثائقهم ومستنداتهم.. لأنهم لا يملكون ولا يقدرون على الكذب تجاه شعوبهم.. يمارسون الكذب على شعوب ودول غير مسموح لها بالذهاب إلى الديمقراطية.. فكما كان "المماليك" يطبقون الديمقراطية من وجهة نظر الاستعمار العثمانى.. فإن أصحاب السلطة الذين سمحوا بالاحتلال الانجليزى.. قاموا بتطبيق ديمقراطية ترضى "الاستعمار البريطانى" وذلك ما حدث بعد رحيل "عبد الناصر" عندما ذهب "أنور السادات" والذين بعده إلى تطبيق الديمقراطية التى ترتضيها الولايات المتحدة الأمريكية!! والأفضل دائما لنا أن نعود إلى الوقائع والحقائق والوثائق التى لا تكذب ولا تتجمل.. وتحمل حكاية "الديمقراطية الفاسدة"!!

 

الديمقراطية الفاسدة!! " طومان باى" و" احمد عرابى"(4)

 يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات