آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! " طومان باى" و" احمد عرابى"(4)

 


 

 

نصر القفاص

 

رحل "محمد على" وابنه "إبراهيم" وتركا ما نسميه "نخبة جديدة" تتشكل.. كما ترك ورثة لا يملكون رؤيته ولا قدراته – وابنه إبراهيم – وفتح ذلك أبواب الشيطان من جديد!! فكل من حكم بداية من "عباس الأول" حتى "الملك فاروق" راح يمارس السلطة, دون فهم لمعنى وقيمة وخطورة حكم وطن بحجم وقيمة مصر!!

 

كان "محمد على" – وابنه إبراهيم – يملكان ما نسميه فى عصرنا الحديث بالرؤية الإستراتيجية.. وبعدهما امتلك كل من حكم مصر "رؤيته الشخصية" حتى جاء "جمال عبد الناصر" الذى جدد "الرؤية الإستراتيجية" وقام بتطويرها وتحديثها.. ومن بعده حكم مصر الذين يجوز لى وصفهم "بأحفاد محمد على"!!

 

ترك "محمد على" مصر وهى تملك جيشا قويا, رغم الانتكاسات التى تعرض لها.. وترك قاعدة صناعية وزراعية.. وكانت أعظم الثروات التى تركها هى ذلك الجيل الذى يملك سلاح العلم, ونور معرفة أنفق عليهما الكثير ليؤسس عليهم وبهم نهضة لا ينكرها دارس أو مجرد فاهم!! وترك مفهوما واضحا لمعنى "الأمن القومى المصرى" حتى لو صادفته تحديات قاسية.. وكان أعظم ما تركه هو نواة "النخبة الجديدة" التى نعرف بعضا من عناوينها بأسماء "رفاعة الطهطاوى" و"على مبارك".. وفى أحضان هذه "النخبة" ظهر "أحمد عرابى" كعنوان بارز لمرحلة مقاومة.. كما كان "طومان باى" آخر العناوين لزمن ما قبل "الاحتلال العثمانى"!!

 

يتهم الذين يعرفون من التاريخ هوامشه "محمد على" أنه "ديكتاتور"!!

بمقاييس عصرنا الحديث.. الاتهام صحيح.. وبمقاييس زمنه يجوز القول أنه لم يستوعب معنى "الديمقراطية" سوى فى سنوات حكمه الأخيرة.. والدليل على ذلك كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" لمؤلفه "رفاعة الطهطاوى" والذى عبر فيه صراحة عن إعجابه بالديمقراطية التى عرفها وعاش حلاوتها فى "فرنسا".

 

يرى الذين لم يقرأوا التاريخ أن "محمد على" كان مغامرا!

 

حسب رؤية القوى الاستعمارية قد يكون هذا صحيحا.. ووفق نتائج وصلنا إليها فى عصرنا الحديث, سنتأكد أنه كان واعيا ومؤمنا بمكان مصر ومكانتها.. لذلك ليس غريبا أن نرى انبهارا من جانب "خدم الاستعمار" بنموذج "الخديوى اسماعيل" و"الملك فاروق" وكليهما أخذ مصر إلى كارثة يصعب تجاهلها.. فقد أدت سياسات "إسماعيل" إلى احتلال انجليزي.. وانتهت سياسات "فاروق" إلى "حريق القاهرة"!! ولا ينفى كل هذا أن "عباس الأول" كانت له إنجازات, وكذلك كل الذين تولوا السلطة من بعده.. لكنها كلها إنجازات ترضى السذج والبلهاء, لأنها خصمت الكثير من قيمة مصر ومكانتها.. ربما لأنهم جميعا أخذهم بريق السلطة!

 

الذين شاركوا فى تزييف التاريخ.. قالوا عن "سعيد" أنه حارب التعليم.. والحقيقة أن "عباس الأول" هو من فعل ذلك.. فقد أقدم على نفى علماء مصر إلى السودان وأغلق المدراس.. وكان لا يثق فى أحد.. حتى أهله لدرجة أنه حاول قتل عمته الأميرة "نازلى هانم" والتى هربت من البلاد إلى "الآستانة" ويقال أنها دبرت ورتبت قتله.. واعتمد على الأمن لتأمين سلطته.. كان يخشى الفرنسيين فأبعدهم وتقرب للانجليز.. وشهد زمنه إصلاح طريق القاهرة – السويس, وتوسع فى مد خطوط السكك الحديدية ليسبق فى هذا الميدان الدولة العثمانية.. ولا ينسى له التاريخ أنه قاوم فكرة الاستدانة قدر ما استطاع.. حتى رضخ فى النهاية, واستدان 10 مليون جنيه.. وإذا كان قد أهمل الجيش, فهو لم يسع إلى تفكيكه.. لكنه زج بالجيش فى "حرب القرم" التى خاضتها الدولة العثمانية ضد الإمبراطورية الروسية.. وعاش مشغولا بتوريث ابنه "إلهامي باشا" الحكم من بعده!!

 

يذكر التاريخ أن "سعيد" هو الذى فتح باب الاستدانة.

 

لا ينسى التاريخ أن "سعيد" أخذ عن والده "محمد على" اهتمامه بالأسطول البحرى, الذى تولى قيادته فى "زمن أبيه" ورغم ذلك قام بتصفية هذا الأسطول تنفيذا لأوامر السلطان!! ربما لأنه كما يصفه بعض المؤرخين بأنه كان مترددا.. سريع الغضب.. وسقط فى مصيدة "ديلسبس"! ويحسب له أنه ألغى نظام احتكار الحاصلات الزراعية, وخفف من الضرائب على الأهالي.. وكان أول حاكم يهتم بنظام المعاشات للموظفين.. وأول من اهتم ببناء الكبارى بين ضفتى النيل.. وقام بمد خط السكة الحديد بين القاهرة والسويس.. ونجح فى استعادة فرض الخدمة العسكرية كواجب وطنى على الغنى والفقير.. وانحاز للضباط المصريين وقام بترقيتهم..

 

ويذكر "أحمد عرابى" فى مذكراته أنه سمعه فى حفل يخاطب العلماء ورجال الدين والضباط يقول: "هذا الشعب المصرى تعرض للظلم من أمم الأرض"!! وذكر المستعمرين قبل أن يضيف: "إننى أعتبر نفسى مصريا, فوجب على أن أربى أبناء هذا الشعب وأهذبه.. حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده, ويستغنى عن الأجانب"!.. ويذكر "أحمد عرابى" اعتقاده بأن "سعيد باشا" هو الذى أرسى قاعدة "مصر للمصريين"!! وبغض النظر عن صواب الرأى أو خطئه, باعتبار أننا نعرف عن "مصطفى كامل" أنه صاحب تلك القاعدة – مصر للمصريين – إلا أنها تعكس تأثر من نسميهم "النخبة" بكلام الحاكم.. ثم ارتباكهم أمام الفعل.. لأن "سعيد باشا" هو الذى فكك أسطول مصر البحرى, تنفيذا لأوامر السلطان العثمانى.. وزج بالجيش ليواصل حربه فى "القرم" وجامل "نابليون الثالث" إمبراطور فرنسا بالذهاب إلى القتال فى حرب "المكسيك" وخسرت فيها مصر خسائر فادحة.. لكنه اهتم قليلا بشئون السودان, بعد إهمال سلفه – عباس – ومضى على نهجه فى إهمال التعليم.. فألغى ديوان المدارس – وزارة المعارف – لكنه أنشأ مدرسة حربية فى القلعة وأخرى فى القناطر.

 

مهم جدا أن نتوقف أمام هذه الملامح.. لنفهم سر تحرك "النخبة" الوطنية دفاعا عن مصر.. لأن "أحمد عرابى" والذين معه لم يظهروا فجأة فى مغامرة ساذجة.. بل صهرتهم تقلبات أنظمة الحكم بعد "محمد على" وتأثروا بما نقله "رفاعة الطهطاوى" عن أسباب تقدم فرنسا.

 

الجيل الذى تفتحت عيناه فى "زمن محمد على" شب على الطوق بعد رحيله.

 

أطفال "زمن محمد على" أصبحوا شبابا بعد رحيله.. برز منهم "أحمد عرابى" و"عبد الله النديم" و"محمد عبده" الذى كان المعلم الأول للزعيم "سعد زغلول" ورفاقه.. وكانت مصر تعلم وتدرك أن قيمتها ومكانتها ليست داخل حدودها المغلقة.. وهذه القيمة والمكانة لا تحافظ عليها بمواقف سلبية.. على اعتبار أن "محمد على" أعاد التأكيد على مفهوم "الأمن القومى المصرى" ووضع خطوطا بارزة لمعناه وحدوده.

 

ما علاقة كل هذا بمسألة "الديمقراطية"؟!

 

الإجابة ببساطة أن جذور المسألة هناك.. فى هذا الزمان.. وتبلورت فى رحم الأحداث, ليصبح تجاهلها سببا من أسباب عجزنا عن فهم معنى وأهمية ما نسميه النظام السياسي.. لأن الذين يمارسون السلطة يفتقدون الرؤية لهذا النظام السياسى.. أما الذين يحكمون فهم فقط الذين يحددون "منهج الحكم" سواء اختلفنا معه أو عليه.. ومن هنا سنجد أن التيار الوطنى – الحزب الوطنى الحر – بزعامة "أحمد عرابى" لم يظهر من فراغ.. وأن صدامه كان حتميا مع سلطة يمثلها "الخديوى إسماعيل" ومن بعده "الخديوى توفيق".. وهذا التيار تعرض لاتفاق قوى عظمى عليه, بما أطلقوا عليه "ميثاق النزاهة" الذى هندسته "بريطانيا" تمهيدا لوضع اليد على مصر واحتلالها.. حدث ذلك لحظة ضعف إمبراطورية المستعمر الأقدم – الدولة العثمانية – تركيا.. وذلك جعل القوى العظمى تتفق على قتل "جنين الديمقراطية" وإجهاض رغبة وقدرة الشعب على أن يكون للدولة دستورها وجيشها.. عند هذه اللحظة لم يكن مسموحا لمصر عبر أبنائها أن تمتلك زمام القيادة الذاتية.. لأنه لو حدث ذلك, فهذا يعنى أن يستمر عمق مصر فى الجنوب – السودان – قويا.. ولو حدث ذلك, فمعناه أن تبقى مصر قوية بامتدادها حتى حدود الآستانة – سوريا بمفهوم الشام – ولو حدث ذلك, لعادت مصر تملك قوة وقدرة بحرية تمكنها من أن تكون لها كلمتها فى البحرين الأبيض والأحمر.

 

ليس مهما أن تكون مصر ديمقراطية.. أو ديكتاتورية!

 

المهم ألا تكون مصر قادرة.. هكذا أرادت واستمرت تريد, تلك القوى الكبرى.. لذلك سنجد أن أصحاب السلطة الذين حكموا مصر, يخدعون أنفسهم والشعب بأفكار العمران الذى يخطف الأبصار!! وكان "إسماعيل" نموذجا ورائدا فى هذا المجال.. ففى عهده حدث تقدم وتنمية, وبقيت ملامحها حتى وقتنا هذا.. لكن عندما يكون الثمن ديونا هائلة, تؤدى إلى تغلغل الأجانب حتى يتحكموا فى قرارها.. سنجد أنفسنا فى موقف الرفض لهذا التقدم وتلك التنمية.. باعتبارهما يمهدان طريق عودة الاستعمار, حسب تطور شكله ومضمونه.. ويوضح التاريخ أن "الخديوى إسماعيل" حاول تحرير مصر من قبضة الدولة العثمانية.. لكنه كان يتراجع كلما تعرض لضغط القوى الكبرى, التى رهن البلاد لرؤيتها وأطماعها!!

 

كان ثمن الابتعاد عن تركيا فادحا.. وثمن التقرب للقوى الكبرى أكثر فداحة.. وأدى ذلك إلى ظهور التيار "الوطنى الحر" من جديد.. وكان هذا التيار قد ظهر مع "عمر مكرم" واختفى حين انتصرت إرادة الحاكم – محمد على – وبقى أن هذا النوع من صراع الإرادات لم يخرج من حدود الوطن.. وكان الطرفان مخلصين وصادقين فى رغبتهما وسعيهما إلى تحرير مصر من الاستعمار العثماني وعبث المماليك بمقدرات الشعب.. ويجوز القول أن "أحمد عرابى" ورفاقه, واجهوا أصحاب سلطة – إسماعيل وتوفيق – لم يتورطا فى الاستقواء بالخارج الذى تمثله تلك التى نسميها بالقوى العظمى.. وعلى النهج ذاته مضى كل من حكم بعدهما, حتى كانت "ثورة 23 يوليو" التى أعادت ضبط بوصلة الوطن وحررته.. ثم انكسرت هذه البوصلة من جديد, بعد رحيل "جمال عبد الناصر" الذى كان واعيا بخطورة مناهج الاستعمار الجديدة.. وامتلك القدرة على مواجهتها داخليا وخارجيا.

 

الذين حكموا بعد "محمد على" وابنه "إبراهيم" افتقدوا لفهم أهمية وقيمة ارتباط مصر بالسودان.. لذلك سنجد أن سياستهم انتهت إلى التفريط تدريجيا فى هذا الارتباط.. وتحقق ذلك فعلا ونهائيا فى عهد "عباس الثانى" بتوقيع اتفاقية 1899.. وكانت بداية فصل مصر عن السودان قد انطلقت قبل عزل "إسماعيل" وتنصيب "توفيق".. والعنوان هو "جوردن باشا" والتفاصيل كثيرة.. لكن المهم أن انجلترا ومعها القوى الكبرى, أصابتهم لوثة من أن تتمكن الديمقراطية من مصر..الديمقراطية بمعناها الحقيقى.. تعنى أن تنطلق مصر لتكون قوة وقدرة وفعلا على خريطة الدنيا.. لذا كان استهداف مصر بإغراقها فى الديون بداية من "زمن سعيد" ومرورا "بزمن إسماعيل" وتوفيق لإجهاض طموح مصر فى ممارسة الديمقراطية.. ثم تطور ذلك إلى إرادة وقدرة على الفعل عبر "أحمد عرابى" وخلفه "النديم" و"محمد عبده" لتقرر انجلترا – بريطانيا – التدخل بالجراحة لإجهاض الأمل فى أن تحكم مصر نفسها!!

 

تبقى "الديمقراطية" هى الموضوع.

 

لذلك فرضوا عليها الحكم بالحديد والنار, وقام على ذلك "اللورد كرومر" الذى يذكره التاريخ بأنه حقق نجاحا فى مجال الاقتصاد والأمن والاستقرار بقوة غاشمة.. ثم كانت استعادة مصر لقدرتها على أن تتنفس بظهور "مصطفى كامل" ومحاولة "الدولة العثمانية" استثمار قدراته لمغادرة غرفة الإنعاش.. وبينهما اسم "عباس الثانى" مع رغبة نخبة اقتصادية فى أن تكون لها كلمة بحكم ما تملكه من ثروات.. لتنطلق شرارة جديدة تؤدى إلى تأسيس أحزاب ومحاولة جديدة لممارسة الديمقراطية.. والتفاصيل مهمة ومذهلة..

 

الديمقراطية الفاسدة!! باع مصر (3)


يتبع

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات