محمود جابر
حتما هناك تضاد بين الدين والسياسة، فالدين عام شامل إنساني كونى،
والسياسة محدودة ومؤقتة وزمانية وتخص إقليم خاصة وجماعة بعينها ..
فالدين يستخرج من الإنسان أرقى ما فيه واسمي قيمة، ويرقى الشعور
بالرقى والإنسانية... أما السياسة فهى استئثار وشح واحتكار، ومنافع بلا قلب، فلا
صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن مصالح باردة، وممارسة السياسة باسم الدين أو من
باب الدين، يحول الدين من كلى وانسانى وقيمى، إلى دين احتكاري لجماعة دون غيرهم،
وبدلا من ان تكون المنفعة عامة للناس تصبح المنفعة خاصة بجماعة تبحث عن منافع
مادية ومناصب وتخلط الهدف مع المصلحة حتى تفسد الهدف وتفسد المصلحة، وتدمر الضمائر
وتعلم النفاق .
ولهذا فإن تسيس الدين أو تدين السياسة هو اسواء ما يمكن ان يقوم به
شخص او جماعة، فتحولها من جماعة مؤمنة صالحة إلى جماعة من المجرمين الفجار، ولا
يتورعون عن اى فعل مقدمين لأنفسهم ولجماعتهم كل التبريرات الشرعية وهم فى حقيقة
الأمر جماعة من الأشرار، يستخدمون آيات الله تعالى لتبرير نزواتهم ورغباتهم
ومصالحهم، ويضفون بالدين والآيات مسحة إيمانية على ما يرتكبونه من جرائم وقتل
وعدوان وظلم، ثم يسمون تلك الجرائم بالجهاد !!
فالنبى محمد حينما كان يسوس الناس ويحكم بينهم كان يحكم بينهم
بالحق وبالشرع وبالوحى، فحكومة النبى حكومة من نوع خاص، والحاكم فيها هو نبى مصطفى
معصوم، وحكومته وسلطته مؤسسة على قاعدة قيمية ومبادىء الدين السامية، وهى بمعزل
وفقا للقائم عليها عن المصلحة والمنفعة وأخلاقيات السياسة واحتكارها ونزواتها
ورغباتها.
وبعد النبى حكم عادت الأمور الى أدراجها رويدا ورويدا، عادة
لطبيعتها وفق السنن الحياتية، وغلب الدين على السياسة، وفى ظل هذه الحالة التى
غلبت على التاريخ الاسلامى، ذابت فيه قيم الإسلام السامية، وخاصة فى الفترة التى
التى وصل فيها الأمويين إلى الحكم، وبما ان الناس على دين ملوكهم فان منهج الحاكم
فى استغلال الدين خلق حالة اجتماعية تحاكى سلوك الحاكم وهو الخلط بين الدين
والسياسة حتى افترق الناس شيعا وفرقا وكل منهم يتمترس وراء تفسير سواء ارتضاه او
لفقه او اخترعه وكذب فيه على النبى، وبدأت حالة من تبرير الظلم السياسة والاجتماعى
عن طريق الفتاوى والأحاديث، مما اثر فى سلوك المسلمين وجعلهم ينسحبون من الشأن
العام الى الشأن الخاص، وانحصر كل انسان فى أسرته ومن حوله ومن هنا حدث تخلل
اجتماعى وسلوكى ينزع الى الانانية والخوف والجبن والفساد والوشاية والتملق
والانتهازية، وفقد المسلمين استشرافهم ونضارة دينهم وصار قولهم غير فعلهم وما يقال
فى العلن غير مما يفعل فى الخفاء ..
كان هذا الأثر الحتمى لخلط الدين بالسياسة وهو ما قامت بإعادة
أنتاجه جماعات الإسلام السياسى فى القرن العشرين مرة أخرى .
ومنذ نشئت جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وإلى الآن فكل جماعات الإسلام
السياسى فى عموم الدنيا عيال على تلك الجماعة، وهم يمثلون إعادة انتاج للإسلام (الخوارجى) الاموى والعباسى، ولعل الاستثناء
الوحيد طول هذا القرن تمثل فى شخصين على وجده الدقة موسى الصدر، ومحمد محمد صادق الصدر
وهما حالتين تلتقى مع فكرة الإسلام السياسي ظاهرا وتختلف جوهرا ومنهجا، ولهذا فقد اختطف
الأول وقتل الثاني وللحديث بقيه
0 تعليقات