آخر الأخبار

ڤراندة تيسير عثمان

 


 

حمدى عبد العزيز

20 ديسمبر 2017

 

 

في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كانت الڤراندا التي يلتف سورها حول بيت تيسير عثمان في قرية الغبشة تعج بفلاحي الإصلاح الزراعي وأفندية رشيد المتعلمين ..

 

وسواء كان تيسير عثمان موجوداً أو كان غير موجود .. فإن شريكة حياته ونضاله التي سبقته إلي الإستراحة السماوية المرحومة صديقة غازي ناظرة المدرسة الإبتدائية بالقرية ، بحيث لاتكف عن تقديم أكواب الشاي وكلمات الترحيب المقترنة بوجهها المبتسم الودود ..

 

ولايكف هيثم وميدو وناصر أبناء تيسير عثمان الذين كانوا لايزالون تلاميذاً بالمدارس الإعدادية والابتدائية عن المرور بالتحية والترحيب بالجالسين ، وإثارة المودة معهم بمشاكستهم بأسئلة التعارف البريئة ، كانوا دائمي الإبتسام في وجوه الجالسين ووالمداعبة بسؤال من يعرفون عن أحواله ومن لايعرفون عن أسمه ، أو لماذا لم يأت عم فلان الذي كان يأتي معه مرات سابقة ..

 

كنت شاباً غادر لتوه مرحلة الصبا

 

وكنت متيماً بإبداعات تولستوي وتشيكوف ويوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وأمل دنقل ، وصنع الله إبراهيم وجار النبي الحلو ومحمد المنسي قنديل ومحسن يونس ، ومحمد عفيفي مطر ، وعلي قنديل ، ويحي الطاهر عبدالله ،وصلاح جاهين وفؤاد حداد وفؤاد قاعود والأبنودي وسيد حجاب ..

 

وذلك كان مدخلي للقراءة عن الإشتراكية وتأجج قناعاتي بها كمذهب إنساني يعالج أوجاع البشر ويخلصهم من إستغلال البشر للبشر ..

 

هكذا كانت قناعاتي في البداية

وهكذا كان التكوين ..

 

ورأيت وقتها أن الأنسب لي أن أنضم إلي تنظيم اليسار الذي أصبح فيما بعد حزب التجمع ..

 

هكذا كان الطريق إلي ڤراندة تيسير عثمان …

 

كان تيسير عثمان من أوائل المؤسسين لمنبر اليسار الذي أصبح تنظيم التجمع الوطني الوحدوي ثم أصبح حزب التجمع ..

 

كان طبيعياً أن يجمع عليه الأعضاء المؤسسون في مركز رشيد كأول أمين للجنة الحزب في رشيد ..

 

فهو محامي الفلاحين والفقراء الذي ضم أوراق ومستندات قضاياه التي يتولي الدفاع عنها في المحاكم وغالبيتها قضايا لصغار ملاك الأراضي الزراعية ، ومنتفعي الإصلاح الزراعي ومستأجرين وعمال زراعيين ، وذلك بحكم إقامته في قرية "الغبشة" المكتظة بمنتفعي الإصلاح الزراعي

 

، كنت أنا قد أصبحت عضواً بلجنة محافظة البحيرة ممثلاً لشباب الحزب باعتباري أمين إتحاد الشباب التقدمي ..

 

، وفي نفس الوقت كنت عضواً في مكتب التنظيم بالمحافظة والذي كان يرأسه واحد من أفضل مواهب العمل التنظيمي في حزب التجمع وهو الصديق مجدي شرابيه …

 

بمعني أنني كنت أمارس نشاطي الحزبي في مسارين :

 

مسار البناء التنظيمي لجناح الشباب في الحزب مع رفاقي من لجنة الشباب ومن ثم قيادة نشاطه العام

 

، ومسار متابعة الأداء التنظيمي والسياسي للجان الحزب وهذا كان جزءاً من مهام مكتب التنظيم

 

، وهكذا كان أن عهد إلي بمتابعة لجنة الحزب برشيد وهي اللجنة التي كانت تنعقد في بيت تيسير عثمان الذي كان قد تحول إلي جزأين ..

 

جزء أول هو تلك الڤراندا الفسيحة التي تنتهي بسلم إلي الخارج ، والتي لاتخلو من المقاعد المكتظة بالأصدقاء والزملاء وضيوف تيسير وعملاء مكتبه ، فتصبح مكان اشتعال الدردشات والمناقشات سواء علي الصعيد السياسي العام أو علي صعيد القضايا المجتمعية المحلية ..

والقاعة الداخلية الكبيرة التي تحتوي علي أنتريهات الجلوس ومائدة الطعام والتي تحولت إلي قاعة إجتماعات سياسية لأعضاء لجنة الحزب ، في حين تظل الڤراندة الممتدة بإلتفاف حول بيت تيسير ذو الطابقين علي أكتظاظها بغير أعضاء الاجتماع الذين ينتظرون انتهاء الاجتماع وخروج تسير إليهم لتبدأ دورة أخري من النقاش يقودها تيسير حول قضايا المجتمع المحلي في علاقتها بقضايا الوطن ، ومن ثم مايحدث في المنطقة العربية والعالم ، في حين كان ينصت كل من هيثم وناصر وميدو أولاد تيسير عثمان لتلك المناقشات بشغف شديد وإعجاب مستحق بقدرة تيسير ورفاقه الزائرين له من قيادات الحزب علي تحليل الأحداث وطرح الأفكار المعالجة لقصور الواقع وتناقضاته ومشاكلاته ..

 

عرفت في هذا الوقت تيسير كإنسان واقتربت منه وأصبحت فرداً من أفراد أسرته …

 

كانت ظروف الاستغراق في الاجتماعات تنتهي بي للمبيت عند تيسير عثمان وهذا بدوره يفضي إلي السهر والمناقشات في كل شئ ، لا أنسي أنني كنت في ليالي الشتاء كنت أجلس معه كواحد من أسرته هيثم وميدو وناصر ووالدتهم الرائعة المرحومة صديقه غازي رفيقة كفاحه وزميلتنا في الحزب بما كانت تمتلك من قلب فائض الحنو ويد فائضة الكرم ووجه متسامح ومبتسم دائماً ، لاأنسي دعوتها لي علي مائدة الطعام وتصميمها الذي لايمكن مقاومته وعزوماتها لنا أنا ومجدي شرابيه وعبد المجيد أحمد وعبد المجيد الدويل وسعد قنديل وعلي عبد الحفيظ ، هذه السيدة العظيمة التي كانت تحمل مقدرة فائقة علي إشاعة الدفء والبهجة علي الجميع ..

 

أذكر أنه ذات يوم من ليالي شتاء قرية الغبشة وإذا بتيسير عثمان الذي كان يجلس جانبي مرتدياً الروب ديشانبر والكوفية الصوف يدلف إلي حجرة جانبية ثم يخرج حاملاً آلة عود وريشة قائلاً سأسمعك شيئاً ..

 

بعد أن أتم تيسير دوزنته علي العود إذ به ينطلق في فضاءات من الطرب والموسيقي كموسيقي بارع وكمبدع أصيل مرهف الحس يعلو بنبرات صوته ويخفضها يتحكم في آهاته وتهدجاته وارتعاشاته وانطلاقاته بإحساس صادق ونبيل ..

 

عرفت وقتها كيف أصبح تيسير عثمان يسارياً وهو ابن مفتش الإصلاح الزراعي المقتدر مالياً ..

 

هذه الطاقة الإنسانية الكبري وهذا الحس الآدمي المرهف المرتقي إلي مراتب من الذوق والفن والنبل .. كانت كفيلة بأن تلفت نظره إلي قضايا الفقراء ومصائر صغار الفلاحين الذين تأكل شبابهم البلهارسيا ويفنون أعمارهم في زرع مالايمتلكون عائد حصاده وسط حياة جافة جفاف الخبز الذي يأكلون .

 

كان تيسير عثمان يمتلك حساً وطنياً جعله يدرك البواكير الأولي للمتغيرات العاصفة التي أقبلت علي مصر عقب يونيو 67 من خلال تجمعات الثورة المضادة التي بدأت تتشكل داخل مؤسسات النظام الناصري بصفته كان عضواً في منظمة الشباب الاشتراكي ومن ثم عضواً في إحدي لجان الإتحاد الاشتراكي..

 

لذلك كان قراره الحاسم منذ البداية هو المشاركة في تأسيس التجمع الوطني ..

 

وهكذا انخرط تيسير عثمان في نضاله ابتداء من تأسيس منبر اليسار …

 

لا أنسي أنني كنت لم أتجاوز العشرين من عمري إلا بسنتين وقررت أن أخوض معركة انتخابية نقابية في أوائل الثمانينيات وكانت المعركة تقتضي أن أتجول في كل قري محافظة البحيرة علي اتساعها من حدود فرع النيل رشيد شمالاً إلي حدود محافظة الجيزة جنوباً ، لم تكن لدي المقدرة المالية الكافية لتغطية نفقات المرور علي تلك القري التي كان عددها يقترب من التسعين ..

 

وفي ظل هجمة شرسة مارستها الإدارة وأجهزة مباحث أمن الدولة لحصاري وإسقاطي

 

قرر تيسير عثمان المحامي الجنتلمان في مظهره وجوهره أن يتطوع هو سيارته الفيات 124 بالتكفل بالمرور بي لمدة عشرين يوماً متواصلة علي قري محافظة البحيرة علي اتساعاتها ووعورة طرقها وتباعد معظم قراها عن الأسفلت ..

 

كان بوعي سياسي ونضالي عميق يقف بسيارته في أقرب مكان لمقر العمل الذي سألتقي فيه بالزملاء ، منتظراً إياي بعد أن افرغ من اللقاء والمناقشات دون أن ينزل هو من سيارته أو تتطأ قدمه عتبات المقر الذي أدخله قائلاً لي هذا شأن نقابي لاينبغي أن أتدخل فيه ..

 

"- شوف انت هاتقول لزمايلك إيه وأنا مستنيك هنا لما تخلص ".

 

وهكذا كنا نمضي من قرية إلي قرية ومابين هذه وتلك من الأماني كان يجمعنا البوح الإنساني المشترك فأصبحنا فضلاً عن الرفاقية النضالية والسياسية التي بيننا أصدقاء أقرب إلي بعضنا البعض من الأشقاء مع شقيق ثالث هو مجدي شرابية لنا أشقاء آخرين مثل سينوت حنا وعبدالمجيد الدويل وعبد المجيد أحمد وسعد قنديل وعلي عبد الحفيظ ..

كانت أوجاعنا مشاع بيننا ..

 

ونقتسم أمانينا وأحلامنا في عالم أفضل نري أننا جزء من صناعته سيأتي لامحال ..

 

عندما استطعت أن أفوز في تلك المعركة النقابية التي خضتها كان تيسير الرجل المحامي الوجيه الملبس يتصرف كمشجع كرة يحتفل بفوز فريقه بفرحة طاغية

 

كان تيسير عثمان تركيبة فريدة ..

 

كان يجمع بين المثقف الواسع الإطلاع ، وابن البلد الذي يرطب أحاديثه بالطرافة والتندر ويصيغ أعمق الأحكام ببساطة وسلاسة ويمزجها بالحس الشعبي الساخر ..

 

ثم هو نفسه المحامي الوجيه الذي يتمتع بالشياكة والذوق الرفيع هو نفسه الذي يقبل أن يترافع في غالب قضاياه بلا مقابل تقريباً بالنسبة لأهل قريته ..

 

وهو تيسير عثمان الذي يعود إلي بيته فيرتدي الجلباب والعباية ويجلس في ڤراندته مع الفلاحين والشباب يتجاذب معهم النقاش والأحاديث ويقدم تحليلاته البالغة العمق في جمل قصيرة وبسيطة ومقنعة ..

 

وبروح طيبة متواضعة لاتعرف التحذلق ولا التعالي ..

 

ثم هو تيسير عثمان صديقي الذي ماأن تنفض الاجتماعات الحزبية والمهام والموضوعات السياسية إلا وينهض ساحباً عوده الذي يخبأه ليضبط أوتاره ، ويغني للست أم كلثوم ، وللشيخ إمام وعدلي فخري وعبد الوهاب ..

 

قليل من أصدقائنا ورفاقنا من كان يعرف أنه كان يمتلك موهبة العزف بمهارة علي العود .. كنت أنا بحكم القرب الجغرافي وكثرة التردد صاحب حظ سعيد بمعرفة تلك الجوانب التي كان تيسير عثان يخبئها عن الكثيرين ربما خجلاً ، أو اعتقاداً منه أن ذلك أمراً ذاتياً بحتاً لاينبغي أن يلزم أحداً بالتعامل معه ، هكذا كانت رهافة تيسير عثمان ورقة وجدانه ..

 

هذا فضلاً عن كونه من أوائل الذين أسسوا لجنة الحريات التابعة لنقابة المحامين لمواجهة القمع البوليسي الساداتي ضد اليسار المصري والقوي الوطنية الحليفة له فكان متطوعاً دائمًا عن المعتقلين من مسجوني الرأي

 

تيسير عثمان الذي كان قيادة يشار لها بالبنان في التجمع فهو كان عضو لجنته المركزية وأمانته العامة ثم عضواً في مجلسه الاستشاري

 

.. ومع ذلك كان يتعامل مع الجميع بود وتواضع وأدب جم ، كان صاحب حس رفيع في النقاش مع الجميع فلم يتورط يوماً في التخندق مع أي طرف في صراع ما ، كذلك لم يكن يسمح لنفسه يوماً بأن يدفع من يختلف معه بعيداً إلي ضفة أخري ..

 

دائمًا كانت الكلمات الطيبة الودودة حاضرة علي لسانه ، وكثيراً ماأصلح ماأفسده الخلاف في الرأي بين الرفاق ، فصار هو الحكيم الذي يلجأ له الجميع علي ثقة ..

 

ذلك هو ماتيسر من شهادتي الذاتية جداً عن تيسير عثمان الذي لااستطيع مطالعة سنوات عمري دونما أن يكون هو أحد العلامات المضيئة والمهمة في ملفات الذاكرة

ــــــــــــــ

إرسال تعليق

0 تعليقات