آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! بيت الأمة (15)

 

 


 

نصر القفاص

 

 

الديمقراطية الفاسدة!! وقاحة وغطرسة (14)


كشف الحوار بين "المندوب السامى البريطانى" وطليعة "الوفد المصرى" عن حجم الصداع الذى كان "الحزب الوطنى المصرى" يسببه للمستعمر.. وحجم الألم الذى أصابهم من "محمد فريد" وقبله "مصطفى كامل" حتى وفاته.. كما كشف الحوار عن أن بريطانيا ليس لديها أدنى استعداد لأن تترك فريستها "مصر" وترحل لتحصل على استقلالها!!

 

غادر "سعد زغلول" ورفاقه مكتب "وينجت" إلى مكتب "حسين رشدى" رئيس الوزراء.. إلتقوه فى مكتبه بوزارة الداخلية, باعتباره المنصب الذى كان يحتفظ به غالبا رئيس الوزراء.. أطلعوه على نص الحوار الذى دار, وأفاضوا فى شرح رؤيتهم لنتائجه.. أخبرهم "حسين رشدى" أنه مع "عدلى يكن" وزير المعارف عرضا على "السلطان أحمد فؤاد" السفر لعرض وجهة نظر الوزارة فى مستقبل البلاد قبل مؤتمر الصلح.. وأبلغهم بموافقة "السلطان" ثم أشار عليهم تشكيل وفد يمثل مصر الشعبية.. تركهم ليلتقى مع "وينجت" ليبلغه أنه سيسافر مع "عدلى يكن" ويستطلع رأيه فى مقابلته مع نواب الأمة.. فوجىء بأن "وينجت" يقول له بدهشة.. من هم هؤلاء لكى يتحدثوا باسم مصر.. رد رئيس الوزراء بأنهم نواب عن الأمة, وأن "سعد زغلول" هو وكيل الجمعية التشريعية المنتخبة.. وإذا كان قد تم تجميدها بموجب الأحكام العرفية, لدواعى الحرب فإنها مازالت قائمة كمؤسسة من مؤسسات الدولة!! وانتهى اللقاء بوعد من "وينجت" أن يعرض طلب رئيس الوزراء مع وزير المعارف, بأن يسافر إلى "لندن" على وزارة خارجية بلاده لاستطلاع رأيها!!

 

 

تحرك "سعد زغلول" بسرعة وانتهى من تشكيل "الوفد المصرى".. منه رئيسا, على أن يضم فى عضويته كل من "على شعراوى" و"عبد العزيز فهمى" و"محمد محمود" و"أحمد لطفى السيد" و"عبد اللطيف المكباتى" و"محمد على علوبة" وصاغوا قانونا يحكم عمل هذا "الوفد" يحمل كافة تفاصيل وحدود عمله.. شمل القانون 26 مادة.. كانت الأولى فيه تنص على: "مهمة الوفد هى السعى بالطرق الرسمية والسلمية المشروعة, لحصول مصر على استقلالها استقلالا تاما"..

 

وفى المادة الثالثة أوضح أن: "الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التى يعبرون عنها رأسا, أو بواسطة مندوبيهم بالهيئات النيابية"..

 

وفى المادة الثامنة نص على: "للوفد أن يضم أعضاء آخرين مراعيا فى اختيارهم فائدة اشتراكهم معه فى العمل" وانتهى هذا العمل يوم 23 نوفمبر عام 1918.. وتمت مناقشة صيغة التفويض للوفد, وهل يوقعها نواب الجمعية التشريعية؟! أم يتم طرحها على الشعب للمشاركة فى هذا التفويض؟! فانتصر الرأي القائل بأن يشارك فى توقيعها أكبر عدد من أبناء الشعب.

 

صاغ قادة "الوفد" نص التوكيل.. وجاء فيه:

 

"نحن الموقعون على هذا قد أنبنا حضرات – أسماء أعضاء الوفد – ولهم أن يضموا إليهم من يختارون, فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعى سبيلا فى استقلال مصر.. تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التى تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها.. ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب"!!

 

وكانت المفاجأة المذهلة أن الشعب أقبل بصورة فاقت كافة التوقعات.. كان لابد من توثيق التوقيع على التوكيل, فاصطفت الطوابير بالعشرات والمئات أمام مكاتب التوثيق.. أخذت المفاجأة سلطات الاحتلال, وتسبب نص التوكيل فى غضب قيادات "الحزب الوطنى المصرى" لأنه تم استبعادهم من تشكيل الوفد.. واستنكروا أن يخلو النص من الإشارة إلى السودان.. وأعلنوا رفضهم للصيغة التى تشير إلى بريطانيا بأنها تنشر رايات ومبادئ الحرية والعدل, وأنها مع حلفائها يريدون تحرير الشعوب!!

 

حاول "سعد زغلول" تدارك الموقف, ونزع فتيل أى أزمة يمكن أن تؤدى إلى انقسام.. خاصة وأن "الحزب الوطنى المصرى" وقياداته كانوا الأكثر تأثيرا فى الرأى العام حتى هذا الوقت.. طلب أن يلتقى عددا منهم, وتم ترتيب اللقاء مع "سعد زغلول" فحضر إليه أربعة من قيادات الحزب هم: "عبد المقصود متولى" ومصطفى الشوربجى" و"محمد زكى على" ومحمد عبد المجيد العبد".. ودارت المناقشة التى كانت ساخنة.. شهدت انفعالا من جانب قيادات "الوطنى المصرى" وارتفع صوتهم.. غضب "سعد زغلول" وقال لهم: "كيف تسمحون لأنفسكم أن تتحدثوا معى بهذا الأسلوب؟! وهل دعوتكم إلى بيتى لكى تهينونى؟!"

 

فكان رد "محمد زكى على" سريعا وذكيا.. حمل كل معانى التقدير, حين قال: "يا باشا نحن نناقشك فى بيت الأمة, فنحن لسنا فى بيت سعد زغلول الخاص"!!..

 

هنا ابتسم "سعد زغلول" وقال: "إذا كان الأمر كذلك فافعلوا ما شئتم.. سأستقبل كل ما تقولونه".. استمرت الجلسة فى هدوء.. انتهت إلى قبول "سعد زغلول" تعديل صيغة التوكيل لتصبح: "نحن الموقعون على هذا.. أنبنا حضرات – أسماء أعضاء الوفد – فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعى سبيلا فى استقلال مصر استقلالا تاما".. وتم حذف المعانى التى تضفى على بريطانيا ما لا تستحقه!! ووافقوا على وجهة نظر "سعد زغلول" بأن الحديث عن استقلال مصر يعنى السودان فى الوقت نفسه.

 

كان "وينجت" وقيادات الجيش الانجليزى قد شعروا بأن الأمور ستتفاقم, وأنها يمكن أن تذهب إلى حالة يصعب السيطرة عليها.. قرروا رفع "قانون الأحكام العرفية" فى وجه الشعب ونوابه وحكومته.. قرر مستشار وزارة الداخلية الانجليزي إشهار "الفيتو" فى وجه الوزراء وخاطبه بأن يوقف إصدار توكيلات رسمية.. أذعن "حسين رشدى" لاعتبارات قانونية ورسمية.. إضطر إلى الرد بخطاب رسمى على "سعد زغلول" الذى خاطبه أكثر من مرة مستفسرا عن سبب إيقاف إصدار التوكيلات, جاء فيه: "حضرة صاحب المعالى سعد زغلول باشا.. إجابة إلى كتابيكم المؤرخين فى 23 و24 الجارى.. أتشرف بإحاطتكم علما أنه إذا كانت صدرت أوامر من جناب مستشار الداخلية "الانجليزى" لمنع إمضاء التوكيلات المشار إليها.. فإنما كان ذلك لأن القطر – مصر – لا يزال تحت الأحكام العرفية.. ولأن مثل هذه التوكيلات قد اعتبرت مما يدعو للإخلال بالنظام العام.. حسين رشدى"!!

 

يعتقد البعض أن "ثورة 1919" كانت حالة غضب عاصفة.. هبت فجأة.. وهذا غير صحيح على الإطلاق.. فقد سبقها عمل سنوات خسرت فيه مصر "مصطفى كامل" شابا.. وخسر "محمد فريد" ثروته ومستقبله الشخصى ونفوذه لإيمانا بقضية وطنية.. ودفع فيه مئات الوطنيين ثمنا فادحا وصولا إلى لحظة تشكيل "الوفد المصرى" فضلا عن الثمن الرهيب الذى دفعه الشعب المصرى من مقدراته وثرواته وكرامة أبنائه.. وكانت "غطرسة" و"وقاحة" المندوب السامى البريطانى كاشفة للحقيقة.. يضاف إليها عبث موظف انجليزى بقرارات ومواقف رئيس الوزراء.. ثم يضاف إلى ذلك أن نعرف عن سلطة الاحتلال رفضها إصدار جواز سفر لأعضاء "الوفد المصرى" بل وأيضا رفض إصدار جواز سفر لرئيس الوزراء ووزير المعارف!!

 

كان وراء "ثورة 1919" قيادة أودعها الشعب ثقته – سعد زغلول – وحوله عشرات من "النخبة" السياسية والاقتصادية بما تملك من نفوذ وأموال.. وهؤلاء راحوا يخاطبون "المندوب السامى" ورئيس وزراء بريطانيا, ثم رئيس وزراء فرنسا.. كذلك مجلس العموم البريطانى وكافة سفراء الدول الأجنبية فى مصر لأيام وشهور بدأت اعتبارا من يوم 13 نوفمبر 1918.. وكانت هناك صحافة تنشر كافة التفاصيل, لإحاطة الشعب بما يحدث باعتبار أن هذا حق المواطنين.. وكان وعى الأمة ينضج يفعل احترام الذين يقودونها للشعب.. لم يقل أحد أن الشعب جاهل, غير "المندوب السامى البريطانى" وأمثاله من المستعمرين.. لم يشكك أحد فى قدرات الشعب على الفعل, غير "خدم الاستعمار"!!

 

أرسل مكتب "وينجت" رسالة رسمية إلى "سعد زغلول" يوم أول ديسمبر لإخطاره بأن السلطات العسكرية البريطانية ترفض إصدار جوازات سفر للوفد بعد استشارة حكومة جلالة الملك فى "لندن"!! فقررت أمانة "الوفد" التى تشكلت الرد على الرسالة, ووسعت دائرة الجهات التى تخاطبها.. بما فيها الرئيس الأمريكى نفسه.. كان نشر التفاصيل ونصوص الرسائل التى تصدر عن "الوفد" ورئيسه تسهم فى إلتفاف الشعب أكثر حوله.. تشعل الغضب أكثر.. وتؤدى إلى ردود فعل أكثر "غطرسة" وأكثر "وقاحة" من جانب الانجليز.. حتى جاء يوم 13 يناير 1919.. شهد هذا اليوم اجتماعا حاشدا فى منزل "حمد باشا الباسل" تحدث فيه "سعد زغلول" فشرح كافة تفاصيل ما حدث.. قرأ على الناس والصحافة نصوص الرسائل الصادرة عن الوفد, وكذلك الرسائل التى وصلته تحمل الردود.. ثم أعلن توسيع "الوفد" ليضم "حمد الباسل" و"اسماعيل صدقى" و"محمود أبو النصر" و"سينوت حنا" و"جورج خياط" و"واصف غالى" و"عبد الخالق مدكور" إضافة إلى "مصطفى النحاس" و"حافظ عفيفى" كممثلين عن "الحزب الوطنى المصرى"!!

 

فى الخلفية كان هناك موقف يستحق أن نقف عنده.. نذكره بتقدير لصاحبيه.. صاحبا الموقف كانا هما: "حسين رشدى" و"عدلى يكن" اللذان كتبا رسميا استقالة, ورفعاها إلى "السلطان" بعد أن فشلا فى لعب دور إيجابى.. أرسل "حسين رشدى" يوم 3 ديسمبر 1918.. إستقالته التى جاء فيها: "حضرة صاحب العظمة السلطانية.. حينما أخذت على عاتقى أمام ضميرى وأمام وطنى وأمام التاريخ.. مسئولية منصبى على عهد النظام الجديد – زمن فؤاد – قد عاهدت نفسى عهدا أساسيا على مطالبة الحكومة البريطانية بأكثر ما يمكن من الحرية لمصر, حتى أن افتتاح مفاوضات السلام.. اليوم أوشكت المفاوضات على الانفتاح – يقصد أن تبدأ – فكان جوابها لى بمثابة.. فيما بعد.. إلى ما بعد مؤتمر الصلح.. بيد أننى أرى أن الوقت الحاضر هو الذى ينبغى فيه بيان وتأييد ما لمصر من الأمانى القومية.. لهذه الأسباب.. أتشرف بتقديم استعفائى – استقالتى – بين يدى عظمتكم من رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الداخلية.. وأن زميلى عدلى يكن باشا الذى عينتموه لمرافقتى فى مهمتى.. يتمسك بمشاركتى فى هذا الأمر.. فهو يقدم على انفراد استعفاءه – استقالته – من وزارة المعارف العمومية"!!

 

أصابت الصدمة "وينجت" فطلب من "السلطان" تأجيل البت فيها.

أدرك خطورة الأمر فخاطب حكومة بلاده ليخبرهم أن الأمور تنزلق إلى الخطر!!

 

حاول إقناعهم بالموافقة على سفر رئيس الوزراء ووزير المعارف.. وصله الرفض بحسم.. علم "حسين رشدى" بذلك.. كتب استقالة ثانية يوم 23 ديسمبر.. رفض كل محاولات إقناعه بالتراجع عن الاستقالة.. أضاف استقالة ثالثة يوم 30 ديسمبر!!

 

كان هناك رجال.. لم تكن هناك ديمقراطية.. كانت هناك مواقف يعلم أصحاب العقول أن التاريخ يسطرها!!..

 

 يتبع

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات