آخر الأخبار

جمال حمدان والخلافة الإسلامية ( 4 من 4 )

 


 

 

قراءة / جمال معتمد

 


الدين جزء والقومية كل ..والوحدة هي فلسطين!

 

بعد أن رفض حمدان الخلافة الإسلامية وفضل عليها الوحدة القومية طرح سؤالا مهما: كيف يمكن توفيق العلاقة بين الإسلام والقومية.

يقول حمدان في عام ١٩٧١ :

 

(1) لا يوجد في عالمنا اليوم إلا قلة قليلة من الدول الدينية والسواد الأعظم من دول العالم الإسلامي تحتله فـــــكرة القومية دون منازع.

 

إنها تكاد نقول "الدين العلماني" في العصر الحديث، تمييزًا لها عن الدين الروحي بالمعنى المألوف. وفكرة الوطنية (بمعنى المحلية أو الإقليمية الضيقة) هي أساس تقسيم وحدات الدول فعليًا، وهو غالبًا من صنع الاستعمار الأجنبي، الذي قد حوّل العالم الإسلامي إلى بلقان كبرى، والوطنية بهذا المعنى أساس سياسي قزمي يتطرف نحو التفريط. من الخطأ السير وراء دعاة الوحدة الإسلامية الذين يخلقون تناقضًا وتصادمًا بين القومية والدين، ويصورونهما كقطبين متنافرين. بل إنهم في الواقع يحولون الدين إلى قومية بمعنى ما أو بطريقة ما، حين يتـكلمون بالفعل عن "القومية الإسلامية" وفي العالم العربي أحيانًا ما يهاجمون مبدأ القومية العربية بوسائل شتى.

 جمال حمدان والخلافة الإسلامية ( 1 من 4 )

 

(2) لا يجب أن يكون الدين أكثر من عنصر، إما القومية فهي مركّب؛ وتلك نقطة البدء لأي فهم صحيح للعلاقة بينهما: فالقومية تتألف من عدة عناصر، الدين لا شك أحدها، وإن حاول البعض أن يستبعده منها كلية. ومن ثم فالقومية فـــــــكرة أكثر تعقيدًا وتركيبًا من الدين، وبالتالي فهي أوسع منه وأشمل.

 

 الدين هنا جزء والـكل هو القومية، الخاص هو الإسلام والعام هو العروبة. على هذا النحو فإن القومية العربية تشمل الإسلام وتحتويه، ولـــــــكنه لا يمتصها أو يجبها. الإسلام يمنح القومية العربية لونها الخارجي وربما وجه بوصلتها في العالم السياسي، وقد يكون بل هو بالفعل مادة لاحمة، أسمنت القومية العربية كما قد نقول، ولــــــكنه بالتأكيد ليس مادتها الخام.

 جمال حمدان والخلافة الإسلامية ( 2 من 4 )

(3) لا تناقض بين الدين والقومية.

 

وإنما يبدو التناقض ظاهريًا حين يوضعان – خطأ - على مستوى واحد من التعقيد والتركيب، أو حين يغلب الأول على الثاني – وهو أشد خطأ - كما يفعل دعاة الجامعة الإسلامية وما يجرى مجراها من الدعاوي. فالذي يتناقض مع الإسلام ليس القومية وإنما هو الجامعة الإسلامية. ومن المفارقات المثيرة أن هؤلاء الدعاة لا يفطنون إلى نتائج دعاواهم وإلى أين تنتهي بهم. ذلك أنهم ينتهون إلى موقف من القومية يشبه تمامًا موقف الشيوعية التي يتنافرون معها في كل شيء آخر ... فالشيوعية أيضًا تنـكر القومية وتستنـــــكرها، وإذا كانت الجامعة الإسلامية لا ترى إلا وحدة الدين، فالشيوعية لا ترى إلا وحدة الطبقة. ومن السخرية حقًا بعد ذلك أن الشيوعية – بغض النظر عن منطقها العام - لا ترى في فــــــكرة الجامعة الإسلامية إلا فــــكرة طبقية رجعية خاضعة للاستعمار وضد التطور والتقدم.

(4) ما هو إذن دور الإسلام السياسي دون تغرير؟ لأن من الحقائق المذهلة أن أكثر من أراد أن "يوظف" الإسلام سياسيًا هو الامبريالية والاستعمار الذي جثم طويلًا على صدر العالم الإسلامي ولم يزل يعاديه. وقد كان من أول وأبرز هذه المشروعات مشروع ظهر على مسرح السياسة العالمية في الأربعينيات المتأخرة والخمسينيات الباكرة، لإنشاء تجمع أو حلف أو جامعة إسلامية، وكان التبرير أو الترويج يدور حول الأديان السماوية ضد الإلحادية اللادينية، وأن العالم الإسلامي يمــــكن وينبغي أن يجمع قواه مع العالم المسيحي "الحر" في جبهة واحدة ضد العالم الشيوعي. وبعد إذ تـــكشفت حقيقة مثل هذا الحلف بدأ الغرب يعدل تـــكتيكه ويسعى إلى "الغزو من الداخل" وسواء جاءت هذه الأحلاف السياسية المتسترة بالدين من الخارج او الداخل لإلا أنها جميعا فهي جميعًا أحلاف سياسية وليست دينية وإن تسترت بالدين. وهي جميعًا تحاول أن تجيّش العالم الإسلامي لا لحسابه ولـــــــكن على حسابه: مع العالم الاستعماري: ضد العالم الشيوعي: وعلى الحياد من الصهيونية الإسرائيلية(!) ومن هذه الزاوية، فلا مبالغة فيما قيل حينا من أن الدور السياسي للإسلام كما يقدمه له الاستعمار هو "وصفة للانتحار السياسي" .

 

(5) الحل إذن في توحيد الدين، بمعنى توحيد عقيدة الإسلام لا المسلمين، لتذويب الفروق والفرق الحفرية التي ورثها عن ماضٍ فقد الآن سياقه الزمني؛ وتعميق روح الإسلام وتقويمها حيث سطحية أو ابتعادات أو تحريفات؛ توحيد من خلال التبادل الثقافي والفــــــكري العام والمزيد من التنسيق الاقتصادي والترابط والتبادل التجاري؛ التضامن السياسي الوثيق في المجتمـــــع الدولي لمجابهة الأخطار الخارجية والتعاون لتحرير الدول الإسلامية المستعمرة وعلى رأسها بالقطع فلسطين المحتلة: تلك جميعًا هي المجالات الخصبة والفعـــــالة والواجبة لتفاعل العالم الإسلامي سياسيًا. والوحدة المقصود في كلمة هي "وحدة عمل" لا "وحدة كيان". بل يمـــــكن أن نضيف: وحدة مصير، إلا أنها ليست دستورية. في كلمة أخرى: وحدة فكرية لا دستورية. أو هي كما قال عبد الناصر في دوائره الثلاث "دائرة إخوان العقيدة اللذين يتجهون أينما كان مكانهم تحت الشمس إلى قبلة واحدة ..".

 

أي انه إذا كانت الدائرة العربية هي وحدة مصير، والإفريقية وحـــدة جوار، فالإسلامية وحدة عقيدة.

(6) علينا أن ندرك أن فلسطين عين القلب من العالم الإسلامي، لا جغرافيا فحسب، بل ودينيًا أولا وقبل كل شيء. إن يكن العالم العربي هو قلب العالم الإسلامي روحيًا وموقعًا، فإن فلسطين – كمصر في هذا الصدد - هي أرض الزاوية من العالم الإسلامي طبيعيًا. غير أن فلسطين إلى ذلك، وأكثر من مصر هذه المرة، جزء حميم من صميم أرض الرسالة في الإسلام. إن مهد الإسلام يمتد كمحور طولي بين الحجاز وفلسطين، وكل من هذين القطبين، الشمالي والجنوبي، هو بحق عاصمة الإسلام دينيًا. إن مكانة فلسطين في العالم الإسلامي تتلخص ببساطة وبما فيه الـــكفاية في أنها من منطقة النواة وقدس الأقداس فيه أرضًا ودينًا.

 

(7) إن الـــــكارثة التي تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية الإسرائيلية هي سابقة ليس لها مثيل قط في تاريخ العالم الحديث، لا العالم الإسلامي ولا العالم الثالث. إنها ليست استعمارًا قديمًا أو جديدًا فحسب، ليست حتى استعمارًا استيطانيًا أو عنصريًا وحسب، ولــــكنها كذلك وقبل ذلك استعمار إبادي إحلالي صرف. وإذا كانت إسرائيل في بداياتها قد واكبت موجة الاستعمار المداري في القرن التاسع عشر، إلا أنها استهدفت وحققت كل مقومات وخصائص استعمار المعتدلات الذي ساد في القرنين السابع عشر والثامن عشر وسعي إلى التوطن الدائم في بيئات معتدلة شبه أوربية المناخ. ولعل استعمار الجزائر كان أقرب سابقة لها تاريخيًا، ولـــــكن إسرائيل تمثل آخر موجة من الاستعمار الاستيطاني في العالم كله. ومع ذلك فإنها تتميز عن جميع نماذج الاستعمار الاستيطاني بما يجعلها حالة فريدة شاذة تجمع بين أسوأ ما فيها ثم تضيف إليه الأسوأ منه.

 الخلافة الإسلامية "ضد الجغرافيا" ! جمال حمدان والخلافة الإسلامية ( 3 من 4 )

(8) الصهيونية في الحقيقة استعمار ديني طائفي بحت، ودولة إسرائيل دولة دينية يهودية تهويدية متعصبة تقوم على حشد وتجميع اليهود، واليهود فقط، في "جيتو" سياسي واحد أكبر. وهي إذا كانت تفرض ذلك بقانون الغاب ومنطق القوة الرجعية الغاشمة في القرن العشرين، فإنها أيضًا تعيد إلى الحياة فلسفة الدولة الدينية التي تعد من حفريات العصور الوسطى بل عصور القبلية المتحجرة القديمة والتي لا يعرفها أو يعترف بها القرن العشرون. إسرائيل تأتي، بتعبير مباشر، "كغزوة مقدسة": إنها تفرض من طرف واحد "حربًا دينية" ليس الطرف الآخر مسئولًا عنها أو عن إثارتها أو طبيعتها، وتبعث بذلك شبهة صليبيات جديدة في العــــالم الإسلامي الذي لم يعرف سوف التسامح الديني تقليديًا.

 

(9) لكن علينا أن نستدرك فنقول إن من المسلم به أنه ليس من مصلحة قضيتنا الفلسطينية أن نصورها أو نحولها إلى حرب دينية مقدسة أو إلى صراع أو جهاد بين الإسلام واليهودية. غير أن هذا لا يغير أو يقلل مع ذلك من الحقيقة الواقعة، والتي لا حيلة لنــــا فيها، وهي أن العدو الإسرائيلي الصهيوني يأتينا سافرًا كدعوى طائفية دينية، رجعية كما هي مكذوبة، وأنه هو وحده ولسنا نحن الذي يفرض بذلك لونهــــا الديني المعلن إلى جانب لونها العنصري والاستعماري المحقق. فضلا عن هذا، فإن الخطر الصهيوني لا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فحسب، فما هو إلا الخطر الواقع وإن هي إلا "إسرائيل الصغرى". أما الخطر الـــــكامن بل المعلن، حلم "إسرائيل الــــكبرى"، "الامبراطورية الصهيونية الثالثة" (هل نقول "الرايخ الصهيوني الثالث"؟)، فيمتد من النيل إلى الفرات شرقا بغرب، ومن الاسكندرونة حتى المدينة شمالا بجنوب. إنها – هذا وهمهم - "أرض إسرائيل Erets Israel". التهديد إذن لا يقتصر على العالم العربي وحده، وإنما يمتد إلى العالم الإسلامي أيضا وضمنا. إن الاستعمار التوسعي الأخطبوطي الصهيوني إن يكن سرطان العالم العربي، فهو جذام العالم الإسلامي في الوقت نفسه.

 

(10) فلسطين اليوم هي وعاء الوحدة الإسلامية السياسية مثلما هي مقياسها ومحـكها الحق والحقيقي. وإذا كان ثمة للعالم الإسلامي من وحدة سياسية، فهي وحدة العمل السياسي، وهو العمل من أجل إنقاذ واستنقاذ فلسطين للعروبة والإسلام. وإذا كان من واجب العالم العربي أن يدعو إلى "قومية المعركة"، فإن من واجب العالم الإسلامي كما يرى كثيرون أن يتنادى إلى "إسلامية المعركة". ولا يعني هذا تعارضًا بين الشعارين أو استبدال هذا الهدف بذاك، بل إنهما ليتكاملان تــــكامل الجزء والــــكل والخاص مع العام.

 

لا ولا هو يعني كذلك بالضرورة استنفار العالم الإسلامي إلى "الجهاد" أو الدعوة إلى "حرب مقدسة"، ولــــكنه على الأقل يعني أن يشارك في مقاطعة العدو المشترك الدخيل الغاصب ومحاصرته سياسيًا واقتصاديًا، وهو أضعف الإيمان. وليس من المتصور على الإطلاق – كمجرد مثال - أن تعترف دولة إسلامية بكيان العدو بأي شكل من أشكال الاعتراف أو أن تتعامل معه ديبلوماسيًا أو تتبادل تجاريًا. على أن هذه التفاصيل وأمثالها متروكة للتخطيط السياسي إذا اتفق على المبدأ. ولـــــكن يبقى المبدأ نفسه صحيحًا بلا حدود، وهو أن تحرير فلسطين "هو" وحدة العالم الإسلامي السياسية، وأن وحدة العالم الإسلامي السياسية إنما "هي" فلسطين.



 

إرسال تعليق

0 تعليقات